الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: حكم السيادة في الإسلام
1-
إن من الأمور المسلَّمة والمعروفة ضرورة أن السيادة في الإسلام ليست من اختصاص البشر بعضهم لبعض، بل هم جميعًا في درجة واحدة مهما اختلفت أحوالهم، أمام سيادة واحدة فيها صلاح جميع البشر، وعدم تعالي بعضهم على بعض، إنها سيادة الشرع الشريف المنزَّل من الخالق العليم، ولا عبرة بالسيادات الجاهلية، فإنها من اتخاذ البشر بعضهم لبعض أربابًا من دون الله، وهي سيادات أقلّ وأذلّ من أن تؤلف بين المجتمعات أو تنظم حقوقهم بصفة عادلة غير متحيزة؛ لأنها من صنع البشر الناقصة عقولهم، القاصرة أفهامهم عن إصابة الحق في كل شئونهم على الوجه الصحيح.
وعلى ذلك أجمعت الأمة الإسلامية خلفًا عن سلف لم يخالف منهم أحد على أن الشريعة هي حق الله تعالى على عباده {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} 1، أي: الاستسلام التامّ له عز وجل، فمن لم يستسلم له ويسلّم قيادة نفسه لأمره وعليه، فليس على الإسلام التحاكم إليه، والرضا بما حكم به، والانقياد لأمره والانتهاء عن نهيه، وتحليل ما أحلّه، وتحريم ما حرّمه، وعدم الالتفات إلى التشريعات البشرية، وبغضها وبغض من يلتزم بها.
1 سورة آل عمران، الآية:19.
ويدعو إليها، ويكون على حد قوله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1، فمن حكَّم رأيه أو قانونه أو شعبه فإنه ممن ينطبق عليه الحكم في الآية؛ لأنه لا طاعة كاملة مستقلة إلا لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذا ما أجمع عليه علماء الإسلام في المسائل القابلة للاجتهاد على وفق الأدلة الشرعية فقط، لا من العقل الذي هو قاصر عن إدراك الأحكام الشرعية بمفرده، فإنه لا مكان لاجتهاد العقل في الشريعة الإسلامية مع وجود النص الصريح؛ لأنه حينئذ يكون مردودًا كما جاء في الحديث الشريف:"مَنْ أَحْدَثَ فَي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدّ"2.
وليس في الإسلام وجوب الطاعة لأيّ شخص كان ما لم يكن قوله وفق الشرع، وطاعة العلماء في الإسلام إنما هي مقيَّدة بطاعتهم لله تعالى، وأما إذا خلت عن ذلك فإن طاعتهم لا تجوز إلّا فيما أطاع الله تعالى فيه، سواء أكان الشخص حاكمًا أو محكومًا، ذلك أن مصدر السيادة في الإسلام هو الله عز وجل وما شرعه لعباده هو الدين وهو الحق وهو العدل، بخلاف السيادة في المذاهب الجاهلية الغربية فمصدرها هناك هم الأمة الذين أحلوا أنفسهم محل الإله في النظريات السيادية الغربية، وإذا قارن القارئ بين السيادتين فسيجد تلك الفروق الهائلة، وهي حتمًا ستقع، سيجد أن كل ما قررته السيادة الغربية قابل للنقض والتغيير والتبديل، تحرّم اليوم ما
1 سورة النساء، الآية:65.
2 البخاري ج2، ص959، ومسلم ج3، ص1343.
أحلَّته بالأمس، وتحرم في غدٍ ما أحلته اليوم؛ لأنها من صنع البشر، بخلاف السيادة الشرعية فهي ثابتة أبدًا لا يمكن أن يطرأ عليها قبول التغيير والتبديل؛ لأنها صادرة عن علَّام الغيوب، وقائمة على أساس التدين الذي هو أساس كل المعاملات العادلة، بينما هو في منهج الجاهلية الغربية لا وجود له؛ لأنهم استبدلوا به ما أملته أهواءهم ونظرياتهم، وما قرروه لأنفسهم بدلًا عن أخذه عن الإله الحقِّ الذي أبعدوا أنفسهم عنه وهم لا يخرجون عن قبضته وقهره1.
وخلاصة ما سبق عن مذهب السيادة هو الاعتقاد أن مصدر السيادة أو صاحب السيادة في الإسلام هو شرع الله تعالى، والله تعالى هو الحق وله الأمر وله الحكم، لا يشاركه أحد في الخلق والإيجاد، فكذلك لا يشاركه أحد في السيادة والحكم والتشريع، وأَوْكَلَ الله إلى العلماء الاجتهاد فيما يقبل الاجتهاد على ضوء الكتاب والسنة لا أنه تشريع جديد، أمَّا في المفهوم الغربيّ فإن السيادة ليست لله تعالى، وإنما هي لأفراد من الناس أو لعامَّة الشعب، ثم أضفوا عليها نفس الصفات التي يقولها المؤمنون عن الله تعالى، فصارت في مفاهيمهم بديلًا عن الله تعالى وشرعه وهي أحقر من ذلك، كما اتضح لك مما سبق، كذلك ما يتعلق بقضية الثبات والتغير، فإن الأنظمة الوضعية عمومًا قابلة وبسرعة للتغيير والتبديل؛ لأن من يملك الإنشاء يملك التغيير والإلغاء، وما هو حاصل في البلاد التي جعلت السيادة لغير
1 انظر كتاب "نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية"، تأليف د. صلاح الصاوي.
الله أقوى شاهد، بخلاف ما إذا كانت السيادة لله عز وجل، والتشريع من كتابه وسنة نبيه، فإنها تكون ثابتة لا تتغيِّر ولا تقبل التغيير؛ لكمالها الذي يمتد إلى يوم القيامة، ولك في الحدود الشرعية والثواب والعقاب في الإسلام وفي غيره خير شاهد، كذلك ما يتعلق بأمر الدين فإنه حينما تكون السيادة لله عز وجل ولحكمه، تجد أ، كل قضية من قضايا الحياة مربوطة بحكمها في الدين، وبالتالي تجد حلها في الشرع في أكمل صورة، ولا يخرج مجتمع إلّا فيما فوَّضه الشرع إلى الاجتهاد والمقارنة، وهذا بخلاف السيادة في المجتمعات الغربية التي قامت أساسًا على محاربة الدين وإقصائه في كل مجالات الحياة؛ إذ أن السيادة لا تتجزَّأ، فوجب أقصاء الدين كي تتم سيادة الأمة حسب نظرتهم لها، كذلك الحق في التشريع، فإن التشريع في الإسلام لا يكون إلا لله عز وجل وحده ولرسله عليهم السلام، ولا يملك حق التشريع أحد من البشر كائنًا مَنْ كان، اللهم إلّا الاجتهاد في فهم النصوص فيما يقبل منها الاجتهاد، وهذا بخلاف حق التشريع في السيادة، فهو بعكس ما قرَّره الإسلام، أي: إن التشريع هو من حق البشر تحليلًا أو تحريمًا، ويتمثَّل في كبار المسئولين ومحبي الغرب من المسلمين الذين أشربت قلوبهم حب الديمقراطية والسيادة، حينما ينصون على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، أو "الفقه الإسلامي" هو المصدر للتشريع، ونحو ذلك مما يوحي في ظاهره بالتزام هؤلاء بالشريعة الإسلامية.
الواقع:
أن هذه العبارات عند المتعمقين في تطبيق السيادة الوضعية البشرية إنما تكتب من باب ذر الرماد في العيون، أو لأنَّ أكثرية الشعب مسلمون، والدليل على ذلك أنهم لا يجيزون الحكم في أي قضية إلّا بما قررته قوانينهم البشرية، وأن من خالفها يكون قد ارتكب جرمًا وخيانة، ويحاكم في كل قضية لهم فيها قانون، وعلى المحاكم التي تسمَّى "محاكم شرعية" أن تنفذ أحكام القوانين بغض النظر عن موافقتها للشريعة الإلهية، أو مخالفتها بزعم أن تلك القوانين هي التي تكفل أمن وحقوق الشعب وسعادته، فأين صدق تلك العبارات التي يخدعون بها شعوبهم، وأين هم من قول الله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.
بل لم يقف الأمر عند بعضهم إلى حد العدول عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية واستبدالها بالقوانين الوضعية، لم يقف الأمر عند هذا، بل أخذوا ينتقدون الأحكام الشرعية، إمَّا بلسان الحال أو بلسان المقال، مع أنه لم يجربوا تنفيذ أحكام الإسلام، بل لم يعرفوها حق المعرفة، فصار حال أحكام الإسلام عند هؤلاء كحال الذي قيل فيه:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
…
إياك إياك أن تبتل بالماء
وقد قتل عمر رضي الله عنه ذلك المنافق الذي أبى أن يتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم-
وطلب التحاكم إلى عمر رضي الله عنه أو إلى كعب بن الأشرف؛ لأنَّ عمر رضي الله عنه كان يعلم أنَّ من لم يرضى بسيادة الشرع الإسلامي فليس له فيه نصيب، ويجب على المسلم أن لا ينخدع بظاهر الكلام، وإنما يجب عليه أن ينظر إلى الفعل والتطبيق، فإن كان موافقًا للشرع جزمنا أنه شرعي حتى لو لم ينص عليه في الدستور، وإن كان مخالفًا لحكم الشرع عرفنا أنه حكم جاهلي بقوانين بشرية حتى وإن كان النص العام أن الحكم للشريعة الإسلامية، وأما تلبيسهم الحق بالباطل، وإيجاد المبررات والشبهات حوله، فلا يغيّر من الحقيقة شيئًا، فقد سمعنا أنهم أرادوا أن يقربوا الإسلام إلى جميع الجاهليات حينما دعو إلى وحدة الأديان في مواجهة الإلحاد الشيوعي، وإنه لا فارق كبير بين الأديان؛ لأنها كلها أديان سماوية بزعمهم، وهو أمر مرفوض لدى كافَّة الملتزمين بشرع الله تعالى، وجاءوا إلى كل قضية في الإسلام وزعموا أنها لا تختلف عن القضايا الوضعية، وأن السيادة ثابتة للكلِّ على حدٍّ سواء، حتى أنهم وجدوا للاشتراكية -الماركسية أساسًا في الشريعة الإسلامية تبنَّاه الصحابي الجليل أبو ذر رضي الله عنه بزعمهم، وحاشاه من أكاذيبهم، ولهؤلاء جرأة على الكذب على الله تعالى وعلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام، بل لقد حصل ما تقشعر لذكره الجلود في بعض البلدان التي تعترف ببيوت الدعارة، بل وتتقاضى عليها رسومًا؛ حيث سمعنا أنَّهم نسبوا بعض الداعرات في بيوت الدعاراة إلى الإسلام تمييزًا لها عن الداعرات من بقية الديانات، وقد عاقبهم الله بما لا يجهله أحد اليوم بين بعضهم بعضًا، وبينهم وبين اليهود، ولله حكمة في ذلك.
ونسأل الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.