الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: التفسير المادي للقيم الإنسانية
وحينما قرر الملاحدة أن الإنسان مادةً أصبح مفهوم القيم من الأمور التي لا قيمة لها؛ إذ المادة لا تتصف بأي قيمة روحية أو نفسية أو خلقية، وهذا هو الواقع الذي قرروه، وأن القيم كلها ليس لها صفة ثابتة وإنما هي انعكاس للأحوال الاقتصادية، فلا حقيقة لها إطلاقًا، إلّا أنه لم يكن بإمكان الملاحدة أن يتجاهلوا وجود هذه القيمة التي يتمثَّلها الناس قديمًا وحديثًا في حياتهم، وفي تعاملهم في أمور ظاهرة، فاخترع الملاحدة لها تفسيرًا يشوهها ويهوّن من مكانتها المرموقة، بل ويقضي عليها في النهاية قضاء تامًّا.
وهذا التفسير المادّي للقيم يتمثَّل في الأمور الآتية:
1-
تضخيم العامل المادي والاقتصادي وجعله أساس كل شيء في حياة الإنسان، وجعلوا الأخلاق والقيم كلها تابعة لحالة الإنسان الاقتصادية وتبادله المنافع مع الآخرين، وأن الوضع الاقتصادي هو الذي يحدد مشاعر الناس وأفكارهم وعقائدهم وكل قيمهم.
2-
زعموا أن كل القيم لا ثبات لها، أي: لم تنشأ عن دين أو توجيه إليه، وإنما هي تابعة لتطور الإنسان في المادة هبوطًا وارتفاعًا، خيرًا وشرًّا، وأن كل القيم المعنية إنما هي انعكاس للوضع الاقتصادي لكل أمة.
3-
جعلوا الدين هو المصدر الفيَّاض للأخلاق والقيم، جعلوه محلَّ سخرية واستهزاء، وأنَّ كل تلك القيم إنما نشأت عن عوامل اقتصادية لا عن الدين الذي تذكره الكتب السماوية، والذي يصوِّرونه كعدو لدود للقيم الإنسانية.
4-
ونشأ عن ذلك الاستهزاء بالحق والعدل الإلهي الذي أكَّدت عليه جميع الشرائع الإلهية، فزعموا أن ذلك لا حقيقة له إلهية، وإنما هو تابع للأحوال الاقتصادية التي أوجدته، وهي التي تمليه على الناس في أحوالهم المختلفة من فقر وغنى، وكثرة وقلة، وحب وكراهية.
لقد أرجع الملاحدة الشيوعيون كل القيم إلى حال الناس بالنسبة للمادة، فقسموا المجتمع إلى قسمين:
1-
المجتمع الزراعي.
2-
المجتمع الصناعي.
ثم زعموا أن الأخلاق والقيم والإيمان بالقدرة الغيبية وتماسك الأسرة والحفاظ على العادات القبلية وما إلى ذلك، إنما سادت في المجتمع الزراعي لما يشعرون به من حاجة إلى قوة عليا تنبت لهم البذور في الأرض، أو لبعضهم بعضًا، خصوصًا وهم يشاهدون الأخطار الطبيعية من حولهم؛ كالصواعق والبراكين وهيجان البحار ونحو ذلك، فاحتاجوا إلى التعلُّق بإله قوي يحميهم وينفعهم، بينما تلك الأمور كلها لها في المجتمع الصناعي، وذلك أن المجتمع الزراعي البدائي في الشيوعية الأولى كان بينهم تعاون وفيهم استقرار
وهدوء وسعادة بسبب عدم وجود الملكة الفردية التي ظهرت بعد ذلك بفعل التطور الاقتصادي، وزعموا أن الأولاد في هذه المرحلة كانوا يتبعون الأمهات -أي: كالحيوانات تمامًا- ثم تحوَّل نظام التبعية من الأم إلى الأب باستيلاء الأب على كل السلطة بفعل ظهور الملكية، وظهور التحسُّن في الجوانب الرزاعية، وتعاون الأسرة جميعًا في القيام بها، تابعين لأبيهم الذي سيورث لهم كل ما يملكه بعد موته، فتمت الطاعة للأب، وعمل الجميع تحت أمره، واعتبار تلك الأمور من باب الاحترام الواجب للأب، فلم يكن لذلك سبب إلّا الرغبة في امتلاك ما تحت يده بعد موته، والاستفادة منه في حياته -انظر إلى هذا العقوق- وتناسى العاطفة والحنان المتبادل بين الأسرة.
ثم نتج عن ذلك بفعل التطور نظام الرقّ الذي سبَّبه في الدرجة الأولى التحسن في الزراعة واكتشاف نزعة الملكة الفردية، فمالت الجهات القوية على الضعيفة تستعبدها وتسخرها في العمل لزيادة الإنتاج للأغنياء، وسد حاجة الفقراء الضرورية فقط، ثم نتج عن ذلك الوضع -حسب التطور- نظام جديد هو نظام الإقطاع، الذي سبَّبه اكتشاف الآلات التي تفيدهم في حراثة الارض كالمحراث وغيره، فاحتاج الأغنياء إلى الفقراء ليقوموا بحراثة الأرض وجباية محاصيلها لهم، فنشأ عن ذلك خلق حب الاستعباد والقهر للغير، وحب السيطرة الذي أنتج بدوره نظامًا جديدًا، وهو ما بدا ظاهرًا في النظام الرأسمالي الجشع الذي حوَّل الملكية من ملكية زراعية إلى ملكية رأسمالية، جعلت الفقراء عبيدًا وذللتهم للأغنياء، ونشأ عن ذلك حب الذلة والمسكنة والاستهانة بالنفس بسبب قوة المادة الاقتصادية عند
كبار الأغنياء واستحواذهم على مصادر العمل والكسب، وهذا لا شك أنه أمر يغضب طبقة الفقراء، ويوجد فيهم حبَّ الرغبة في الانتصاف ورفع الظلم، وثورة كامنة في نفوسهم كمون النار في عود الكبريت، ثم نتج عن ذلك صراع مرير فيما بعد؛ لينبثق عنه بعد ذلك العودة إلى الشيوعية إثر الصراع بين العمال وأصحاب رءوس الأموال على ملكية الإنتاج، وانتصار العمال بقضائهم على طبقة الرأسماليين؛ لتعود الملكية جماعيةً كما كانت في البداية -هذا حسب تعليل زعماء الشيوعية، قد سبق أن أشرت إلى أن هذه الأفكار كلها خيالات كاذبة تفتقر إلى الدليل وإلى العقل الذي يصدق بها، إنها افتراضات تدل على مدى النفسية الخبيثة لـ"كارل ماركس"، وما كان يعاني منه من ضيق الخلق والأنانية الشريرة، ومحاربته لكل الفضائل والسموّ الأخلاقي، والرغبة في تدمير الأغنياء، وليت شعري هل الأولاد لا يحبون أباهم إلّا ليرثوه فقط؟ وهل المال والحصول على المادة كافية لسمو الأخلاق؟!! أليس الإنسان يطغى أن رآه استغنى، إلّا من وفَّقه الله تعالى، بل أليس من التناقض أن يقال: إن المجتمعات الزراعية القديمة كانوا يعيشون في وئام تامّ وهدوء وأخلاق عالية، بينما يصف المتأخرون اليوم أنفسهم بأنهم في تقدُّم شامخ، ووعي كامل وحضارة راقية، وهم يحملون في صدورهم قلوبًا حاقدة عدوانية، ولا يلوي أحد على أحد، فكان يجب أن يعكس الأمر تمامًا على حسب ما قرروه في هذه التناقضات.