الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر: الإنسانية الحقيقية، والرحمة الصادقة هي في الإسلام
لن يجد العالم دعوة إلى الإنسانية الحقيقية مثل الإسلام إلى يوم القيامة، ولا يمكن أن يوجد نظام أرحم بالبشر من نظام الإسلام، وهذا معروف بالضرورة والبداهة، فهو نظام إلهي صادر عن عالم السر وأخفى، دعا إلى الرحمة وإلى الرفق وإلى مكارم الأخلاق، وجعل الإنسان أكرم مخلوق وأفضل من على ظهر الأرض، إذا أطاع مولاه وأدَّى ما أمره به، في القرآن الكريم من الدعوات إلى حسن المعاملة والسلوك الحسن ما لا يجهله أي مسلم، فقد قال الله تعالى:{قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} 1، وقال لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} 2، ومع أنّ فرعون أكفر من عُرِفَ على وجه الأرض، وقال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 3، وقال عن صفات المؤمنين:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} 4، وقال عنهم:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 5، إلى آخر ما ذكره الله تعالى عن أوصاف المسلمين وسلوكهم، الذي يعتبر نقطة مضيئة في ظلمات هذه الأرض، وغرة في جبين الدهر.
1 سورة البقرة، الآية:83.
2 سورة طه، الآية:44.
3 سورة الأعراف، الآية:199.
4 سورة الفرقان، الآية:72.
5 سورة الحشر، الآية:9.
أما نبيُّ الإسلام وما جاء به في تحقيق الإنسانية الخيرة فحدِّث ولا حرج، فقد كان هو نفسه صلى الله عليه وسلم مثال الإنسان الكامل قولًا وعملًا وسلوكًا، لا يكاد التاريخ يعرف له مثيلًا في الرحمة بالإنسانية، والعطف على جميع البشر، رأي ذات يوم يمامة تحوم على رءوس الصحابة فقال لهم: من فجع هذه في أفراخها، فقال رجل منهم: أنا، وهي معي، فقال له: أرجع إليها أفراخها، ودنا إليه جمل مسنّ يشكو أهله أنهم يجيعون بطنه ويتعبون ظهره، فرقَّ له عليه السلام، وأمر أصحابه بحسن معاملته، فقال صحابه: هو حر لوجه الله تعالى، وجاءت جارية تشكو إليه أن سيدها لطمها على وجهها، فسأل سيدها فأخبره أنه لطلمها حين رأى الذئب أخذ شاة من الغنم، وأنه بشر يغضب، وندم أشد الندم، ورأى ذلك الرجل أنه لا يكفر عنه إلّا أن يعتقها، فتأكد الرسول -صلى لله عليه وسلم- من إسلامها وأمره بعتقها، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح لفرح الصحابة ويحزن لحزنهم، ولا يبخل بشيء في يده عن أي سائل، قال ذات يوم لأصحابه:"من له مظلمة عندي فليقتصها مني الآن"، فقام رجل وقال: يا رسول الله، إنك ضربتني بسوط في بطني وأنت تسوي الصفوف يوم بدر، وأريد القصاص، فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه، وقال:"اقتص" ، فقام الرجل وأخذ يقبل بطن الرسول صلى الله عليه وسلم ويبكي، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما شأنك"، فقال: أحببت أن يكون آخر عهدي في الدنيا بجسمك، وكان صلى الله عليه وسلم يحنو على الصغير ويحترم الكبير، ويستشير أصحابه في كل ما يهمهم، إلى آخر تاريخه المشرق الذي تتضاءل أمام جزء من عظمته عباقرة العالم.
وقد اقتفى المسلمون أثره وتأسَّوا به وحقَّقوا الإنسانية الصحيحة خير تحقيق في أنفسهم وفي أموالهم وفي كل تصرفاتهم.
كان أحدهم لا يشبع وجاره جائع، ولا يشرب وصاحبه ظمآن، كانوا كلهم أمناء لا يقربون الغش، صادقين لا يتعمَّدون الكذب، رحماء يرجون رحمة الله تعالى، أوفياء في أقوالهم وفي أفعالهم، الضعيف فيهم قوي حتى يأخذ حقه، والقوي ضعيف حتى يؤخذ منه الحق، والمظلوم كلهم أنصاره حتى ينتصف ممن ظلمه، كانوا يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا، لا يريدون من أحد جزاءً ولا شكورًا، وإنما يريدون مغفرة الله تعالى ورضوانه.
إن دعاة الإنسانية اليوم هم أقلّ وأذلّ من أن يوحِّدوا القلوب ويؤلفوا بينها في سعادة كالتي عاشها المسملون، بل شبه تلك الحياة؛ لأن أولئك كانوا يهتدون بهدى الله تعالى، وهؤلاء قد اتخذوا الشياطين أولياء لهم، أهدافهم خبيثة استعمارية، ووسائلهم قذرة قائمة على الاستمتاع بكل أنواع الفجور، والاستهتار بكل القيم، وجحود برب العالمين الذي تشهد كل ذرة من ذرات هذا الكون بوجود وخلقه وقهره، ومصيرهم إليه في يوم تشخص فيه الأبصار.
وعلى المسلم أن يكون يقظًا مبتعدًا عن معضلات الفتن ودعاة جهنم، وأن لا يصغي إلى هذا التيارات التي يموج بها العالم، فهي ضلالات مدمرة لكل تراث الإنسانية؛ في دينهم، ودنياهم، وآخرتهم.