الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث عشر: هل يوجد بين الدين والعلم نزاع
؟
ما أصدق هذه العبارة "العلم يدعو إلى الإيمان"1، فكلاهما صديقان لا يفترقان، وكل واحد يؤيد الآخر، حتى إذا ظهر قرن الشيطان في أوروبا جعلوهما عدوين لا يجتمعان، ولقد خدع الملاحدة كثير من الناس وجعلوهم يتصورون أن بين الدين وبين العلم خصومة وتنافرًا شديدًا؛ لينفذوا إلى تجهيل الدين وأهله، والتنفير منهما على حد سواء، ولقد كان من المفترض أن لا يرد هذا التساؤل في الأذهان لوضوح العلاقة بين ما يدعو إليه الدين من إعمار الأرض والتفكير السليم وعبادة الخالق، وبين ما يصل إليه الإنسان بتفكيره وتجاربه من المخترعات التي تعود على البشر بالخير والسعادة وبالنفع العام أو الخاص، أو قد تعد بالضرر أيضًا إلّا أنه حينما فسدت فطر كثير من الناس ووجد أعداء كثيرون للدين حملوا لواء مقاومته والتشكيك في صلاحيته للبشر، ولم يتوانوا عن إلصاق كل ما يجدونه من التهم ضده، بدى واضحًا أن هذا السؤال أصبح أمرًا واقعًا ولا بُدَّ من الإجابة عنه وبيان الحق فيه، وإزالة ما علق به من الأوساخ التي خلَّفتها أفكار الملاحدة.
بل ويجب على كل قادر أن يحتسب الجواب عن هذا التساؤل للضرورة الملحة التي وصل إليها حال كثير من المسلمين من تشويش أفكارهم وعمق
1 أحث القارئ الكريم على قراءة كتاب "العلم يدعو إلى الإيمان" تأليف العالم الأمريكي "كريسي موريسون"، ترجمة الأستاذ:"محمود صالح الفلكي".
الحيرة في أنفسهم من هذا المد والجزر من قِبَلِ المدافعين والمهاجمين، فقد انقسم الناس تجاه هذا التساؤل إلى مواقف عديدة؛ فمنهم من جرفه تيار الإلحاد المادي فذهب ينعق بأنه لا يمكن أن يجتمع الدين والعلم في مكان واحد، فيجب إزالة الدين من طريق العلم؛ ليكمل العلم دوره في بناء حياة البشر السعيدة، ومنهم من ذهب إلى أنه يجب أن يبقى أمر الدين، ولكن يكون بعيدًا عن العلم، ويبقى محجورًا عليه الوقوف أمام العلم، فلا يقارن بالتقدم المادي، ولا يصح أن يذكر ذلك فيه، فالدين في جهة والعلم ومخترعاته في جهة أخرى لعدم تلاقيهما.
ومنهم من وقف حائرًا، فقد حصر صدره لا يدري أي جانب يغلب، ولا أي طريق يسلك، فهو قابل للانفجار في كل لحظة، وللميل إلى أي جانب، وعداوة ما عداه.
ولو وُجِدَ التثقيف الصحيح والتوجيه المخلص لما كان الأمر يستحق أكثر من مجرَّد التفاتة بسيطة، ذلك أن أمر العلاقة بين الدين وبين العلم ومخترعاته التجريبية من السهولة بمكان معرفتها، لولا أن الأمر وراءه من بيَّت النية لتعميق الهوّة بينهما، وإشعال نار الحرب والعداوة بن هذين الحميمين قبل أن يفسد الملاحدة ما بينهما من صلات، ولن يتم لهم ذلك بأي حال مهما زخرفوا القول فيه.
نعم لا يوجد أيّ دين صحيح يعارض العلم وما يوصل إليه من مكتشفات نافعة، أمَّا الإسلام بخصوصه فإنه من أشدّ أصدقاء العلم والمتعصبين له
وقد بدأ بالحث عليه قبل القول والعمل، فقال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} 1.
ومعنى هذا أنه لا نزاع بين العلم وبين الدين في الإسلام، وإنما يتصور وجود النزاع بينهما في الأديان الباطلة القائمة على الخرافات وأمزجة أصحاب الجاه؛ كالدين النصراني الذي وقف ضد العلم بكل قسوة وشراسة؛ لأن القائمين عليه كانوا يخافون أن يذهب نفوذهم من قلوب العامَّة الذين استعبدهم رجال الدين النصراني شرَّ استعباد باسم الدين.
أما الدين الإسلامي فليس فيه شيء من هذا، ولهذا سار العلم والدين في اتجاه واحد هو إثبات عظمة الله عز وجل وخلقه لهذا الكون وما فيه، ووجوب التفكر فيه، والاستفادة من كل تجربة يمر بها الإنسان، وقد بدأ العلم مع الإنسان منذ أن خُلِقَ أبو البشر آدم عليه الصلاة والسلام، فقد علَّمه الله الأسماء كلها، وشرَّفه بالعلم بمعرفتها، فبأي دليل بعد هذا يقول ضلَّال الملاحدة أن بين الدين والعلم جفاءً أو نفورًا {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} 3.
1 سورة محمد، الآية:19.
2 سورة العلق، الآيات: 1-5.
3 سورة الكهف، الآية:5.
إن العلم والدين يلتقيان في أمور كثيرة، وكلاهما يسيران في اتجاه واحد، ويعززان قوة الانسجام مع القوانين الكونية وكشف حجب الحقائق كما هي، وفق طريقين متكاملين: طريق يشرعه الله، وطريق يجتهد فيه العقل على ضوء الشرع، كما أرشده الله تعالى إلى ذلك، وإذا كان ما ردده البعض من وجود التضاد بين العلم والدين بسبب سلك رجال الدين في النصرانية وطغيانهم، وموقف بعض رجال العلم أيضًا من الثورة على كل شيء يتعلق بالدين عن جهل منهم، وبغضاء لكل دين، فلا يجوز أن يكون هذا الحال سببًا للتحريش بين العلم والدين والتنافر بينهما {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} 1.
لقد نشأ العلم في محض أبيه الدين2، ولقد مرَّت بالبشر حضارات تلو حضارات، والتمسك بالدين والالتجاء إلى الإله العظيم خالق هذا الكون هو شعارهم ومصدر اعتقادهم قبل أن توجد موجة الإلحاد الحديث الذي أفرزته المظالم والاستعباد الكنسيّ للبشر على أيدي رجال الدين الكنسي وغيرهم ممن استغلَّ الدين لاستعباد الآخرين، فجاء الرد عارمًا لم يفرق بين الثرى والثريا، وغير عابئ بما مضت عليه القرون والأجيال التي لم تجد أيّ تضاد بين العلم والدين على مدى تلك السنين الطوال قبل ظهور شياطين الماركسية الحاقدة، ومما يذكره التاريخ الإسلامي أن رجالًا بلغوا القمَّة في الاكتشافات العلمية دون أن يحسوا بأي تصادم مع الدين، بل كان الأمر على العكس، كانوا يحسون أن اكتشافاتهم لم يهتدوا إليها إلّا من
1 سورة الأنعام الآية: 152.
2 لا نزاع بين العلم والدين ص13.
واقع توفيق الله لهم، ومن تسمكهم بدينهم، وكانت سببًا لزيادة يقينهم وإيمانهم بالله، ومن أولئك العلماء ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وجابر بن حيان متكشف الصودا الكيماوية وحامض الكبريتيك بعد تقطيره، والرازي مكتشف زيت الزاج وعدَّة أمراض، وابن الهيثم مكتشف علم البصريات، والفرغاني واضع علم المثلثات، والكندي مؤلف في البصريات، والإدريسي مثبت كروية الأرض، ومثله ابن حزم، وجابر ابن حيان أبو الكيمياء، وابن البيطار في الصيدلية، وابن الحفيد والعدوي
…
وغيرهم ممن لا يمكن حصرهم في هذا المقام1.
وإنهم جميعًا كانوا يتعبَّدون الله بعلمهم، ويتقربون إليه به، دون أن يشعروا بأي انفصال، فضلًا عن تصوّر وجود نزاع بين العلم والدين، بل كثيرًا ما كان بعضهم فقهاء في علوم الدين ورجال علم في الوقت نفسه2.
ولم يجدوا في بحوثهم ما يشير بأدنى إشارة إلى النزاع بين الدين والعلم، كلما اكتشفوا شيئًا جديدًا بتجاربهم قالوا: الله أكبر {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 3، مع يقينهم بأنَّ ما خفي عليهم من علوم هذا الكون أمور لا تحصى، ولا يعملها إلّا الخلَّاق العليم.
1 انظر لزيادة المعلومات عن هذا الجانب كتاب "موسوعة عباقرة الإسلام في الفيزياء والكيمياء والرياضيات جـ4 تأليف. د. رحاب خضر عكاري، وكتاب "عباقرة علماء الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبيعية والطب" تأليف: محمد غريب جودة، وكتاب: "تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه" تأليف: عبد الحليم منتصر.
2 لا نزاع بين الدين والعلم ص20.
3 سورة الأعراف، الآية:43.
والذين يقولون: "إن قضية العصر الحديث ضد الدين" تشتمل مقالتهم على جانبين متناقضين في آنٍ واحد، فبينما يرى العقل الحديث من ناحية أن الدين مجموعة عقائد لا يمكن إخضاعها للتجربة العلمية، ولذلك تعتبر العقيدة عملًا شخصيًّا للأفراد، نجد في نفس الوقت أن جيشًا من مفكري هذا النهج الفكري يدعون إلى الكشوف العلمية الجديدة قد أبطلت العقائد الدينية"1.
وهذا القول غاية في التناقض إذا ما دام الدين يستحيل إثباته بالعقل أو التجارب العلمية الحديثة، كما قرروه، فيقال لهم حينئذ: إن رفض الدين يجب أن يكون مستحيلًا أيضًا بهما؛ لأنه فوق مستوى العقل، ولا تحيط به التجارب العلمية، فكيف تنكرون شيئًا واقعًا تجهلون معرفته بالتجارب التي أثبتم أنها عاجزة عن معرفة الدين.
ويقال لهم: وهل التجارب أيضًا وصلت إلى معرفة كل شيء؟ كلَّا، فمفهومهم هذا يناقضونه بأنفسهم حين يتلمَّسون الأدلة على بطلان الدين، ومعارضتهم للعلم بزعمهم أنهم وصلوا إلى ذلك عن طريق العلم والتجارب الحديثة، والسبب في تناقضهم هذا يعود إلى أن هؤلاء الملاحدة "لا يريدون أن يستغلَّ المؤمنون بالدين نفس المقاييس التي استخدمها هؤلاء لرفضه؛ لأنه لو تمكَّن المؤمنون من استغلالها استغلالًا طيبًا لاضطر المعارضون إلى أن يسلّموا على الأقل بأن الدين قائم على أسس معقولة"2.
1 الدين في مواجهة العلم ص14.
2 المصدر السابق، ص14.
وهؤلاء الملاحدة لم يدرسوا الدين ولا ذكروا ذلك، وإنما الذي حملهم على نكرانه هو ما شاهدوه في نتائج أبحاثهم في معاملهم من أمور يزعمون أنها تبطل الدين حسب تفسيرهم لها، وهو فهم قاصر ومتعمَّد للانفلات من الإقرار بالدين.
والذي يريد الباطل ويصر عليه لا يتورَّع عن التحريف في الأدلة ومغالطة الحقائق، خصوصًا حينما يخلوا من رادع الدين والضمير الطيب.
فإنَّ الذين يتصورون وجود نزاع بين العلم وبين الدين إنما يتصورون صورة منحرفة غير حقيقية؛ إذ لم يكن ذلك النزاع الموهوم محلّ شك في تاريخ الحضارة الإسلامية على امتداد تاريخها المجيد، ذلك أن العلم والدين كانا جزءًا لا يتجزء من ثقافة الإنسان منذ وجوده الأول، وسيظل كذلك إلى نهاية وجوده في هذه الأرض، ومن اعتقد خلاف ذلك فإنما يعبِّر عن جهله الذي لن يجد عليه أي دليل غير بغضه لرجال الدين النصراني وطغيانهم، وهو ليس بدليل؛ لأن تحميل الدين وموقفه من العلم خطأ طغاة الكنيسة ظلم صارخ؛ سواء أكان أولئك هم طغاة الكنيسة، أو خرافيات بعض البشر، فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وقد عرف القارئ أن تاريخ البشر مليء بالأمثلة التي تدل على الاحترام المتبادل بين الدين والعلم، سواء أكان ذلك في العالم الإسلامي أو في غيره من أصحاب الديانات المختلفة، إلى أن أفاقت أوروبا من سباتها، ورأى المفكرون وأصحاب العلوم التجريبية مدى ما تعيشه الشعوب الأوروبية من تجهيل معتمد من قِبَلِ رجال الكنيسة، في الوقت الذي كان العلم يشقّ طريقه وسط ظلمات النصرانية المحرَّفة، وظهور صدق نظرياته ومكتشفاته في مقابل خرافات الكتاب المقدَّس وتعليلاته ونظرياته المتخلفة.
إن العلم في أشد الحاجة إلى الدين لبقائه علمًا نافعًا ومفيدًا، فإذا تخلَّى عن الدين فإنه يكون علمًا شريرًا ضرره أكثر من نفعه، فإذا اجتمع العلم والدين كانا طائرًا يرفرف بجانحيه في غاية السعادة.
وشهادات العلماء من المسلمين ومن غير المسلمين تؤكّد بوضوح أن العلم والإيمان جزء لا يتجزأ، ولا عبرة بكلام من يريد الدس بينهما، أو التفريق بينهما، أو جعلهما أو أحدهما قابلًا للإلحاد، فإنه كما عرفت لا علاقة بين العلم والإلحاد، فإن العلم أمر قائم بنفسه يدل على أمور قد يقابلها الإنسان وقد يحاول مغالطتلها والتفلّت مما تدل عليه. والإلحاد أيضًا أمر حادث عن تصورات خاطئة لم يكن نتيجة لعلم أو لنتجية بحوث صحيحة، بل الحق أنَّ العلم يدعو إلى الإيمان واليقين بوجود رب العالمين، كما شهد بذلك كبار علماء الطبيعة أنفسهم. ويبقى الإلحاد أمرًا شاذًّا لا سند له من العلم، ولا دليل عليه من العقل.