الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
في حكم الالتقاط
الفصل الأول
في التقاط غير الحيوان
الخيانة في الالتقاط بمنزلة الاغتصاب.
اللقطة أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة.
[م-1982] اختلف الفقهاء في حكم أخذ اللقطة على أقوال، ونظرًا لاختلاف الحكم باختلاف حال الملتقط ومكان اللقطة رأيت أن أحرر أقوال كل مذهب على حدة، ثم أجملها بعد ذلك مع ذكر الأدلة:
القول الأول:
ذهب الحنفية إلى أنه يحرم رفع اللقطة إن أخذها لنفسه، ويندب رفعها إن أمن الملتقط على نفسه، وإلا فالترك أولى من الرفع.
وإن خاف عليها من الضياع فرفعها واجب، وقال في البدائع: يستحب
(1)
.
(1)
الهداية شرح البداية (2/ 175)، الاختيار لتعليل المختار (2/ 175)، البحر الرائق (5/ 162)، العناية شرح الهداية (6/ 119)، تبيين الحقائق (3/ 301).
القول بالوجوب هو ما عليه عامة كتب الحنفية، واستحب الكاساني في بدائع الصنائع (6/ 200) الالتقاط إذا خاف عليها، وغفل عن ذكر القول بالوجوب، والذي عليه عامة كتب الحنفية، فهل يقال: للحنفية في المسألة قولان، أو يقال: هذا خطأ من الكاساني حيث لم يذكر الوجوب، مع أنه المنصوص، فيكون وهمًا منه، فيه تأمل، والله أعلم.
جاء في الاختيار لتعليل المختار: «وأخذها أفضل، وإن خاف ضياعها فواجب»
(1)
.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع عن حكم أخذ اللقطة: «قد يكون مندوب الأخذ، وقد يكون مباح الأخذ، وقد يكون حرام الأخذ:
أما حالة الندب: فهو أن يخاف عليها الضيعة لو تركها فأخذها لصاحبها أفضل من تركها؛ لأنه إذا خاف عليها الضيعة كان أخذها لصاحبها إحياء لمال المسلم معنى فكان مستحبًا، والله تعالى أعلم.
وأما حالة الإباحة: فهو أن لا يخاف عليها الضيعة فيأخذها لصاحبها
…
وأما حالة الحرمة: فهو أن يأخذها لنفسه لا لصاحبها»
(2)
.
القول الثاني:
ذهب المالكية إلى أن المتلقط إما أن يعلم أمانة نفسه، أو خيانتها، أو يشك فيها، وفي كلٍ إما أن يخاف الخونة على اللقطة لو ترك الأخذ، أو لا.
فيجب الأخذ بشرطين: إن خاف الخونة على اللقطة، ولم يعلم خيانة نفسه بأن علم أمانتها أو شك فيها.
فإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ خاف الخونة أم لا.
وإن لم يخف الخونة كره الالتقاط علم أمانة نفسه أو شك فيها. هذا هو تحرير مذهب المالكية.
(1)
الاختيار لتعليل المختار (3/ 32).
(2)
بدائع الصنائع (6/ 200).
واختار بعض المالكية: أن المتلقط إن وثق بأمانة نفسه، ولم يخف عليها ففيها ثلاثة أقوال:
الأول: الاستحباب مطلقًا.
الثاني: الاستحباب فيما له بال فقط.
الثالث: الكراهة
(1)
.
جاء في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: «حاصل هذا المبحث أن مريد الالتقاط إما أن يعلم أمانة نفسه أو خيانتها أو يشك فيها، وفي كل إما أن يخاف الخائن لو ترك الأخذ أو لا:
فيجب الأخذ بشرطين إن خاف الخائن ولم يعلم خيانة نفسه: بأن علم أمانتها أو شك فيها.
فإن علم خيانة نفسه حرم الأخذ خاف الخائن أم لا.
وإن لم يخف الخائن كره علم أمانة نفسه أو شك فيها .... هذا حاصل ما يؤخذ من الشارح وهو التحرير .... واعلم أنه إذا لم يخف خائنًا، وعلم أمانة نفسه، فثلاثة أقوال: الاستحباب، والكراهة، والتفصيل: يستحب فيما له بال، ويكره في غيره،
(1)
حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 169)، حاشية الدسوقي (4/ 119)، مواهب الجليل (6/ 71)، الذخيرة (9/ 89)، والفروق للقرافي (4/ 33)، البيان والتحصيل (15/ 354)، شرح الخرشي (7/ 123)، القوانين الفقهية (ص: 224)، المقدمات الممهدات (2/ 478)، الشرح الكبير (4/ 119)، الفواكه الدواني (2/ 172)، بداية المجتهد (2/ 228 - 229)، وانظر للاستزادة الاستذكار (7/ 245)، التمهيد (3/ 108)، المنتقى للباجي (6/ 134).
واختار التونسي من هذه الأقوال الكراهة مطلقًا، وأما إذا لم يخف خائنًا وشك في أمانة نفسه فالكراهة اتفاقًا»
(1)
.
(2)
.
(3)
.
وقال الباجي: «فأما جواز أخذها فقد روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يمر باللقطة فلا يأخذها.
وفي العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك أنه قال: لا أحب أن يأخذها من وجدها إلا أن يكون لها قدر.
وقال في موضع آخر أو لذي رحمه: وأما الشيء الذي له بال فأرى له أخذه.
وروى عنه أشهب: أما الدنانير وشيء له بال فأحب إلي أن يأخذه، وليس كالدرهم، وما لا بال له لا أحب له أن يأخذ الدرهم ومعنى ذلك أن الشيء
(1)
حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 169).
(2)
عقد الجواهر الثمينة (3/ 988).
(3)
منح الجليل (8/ 230).
الكثير الذي له بال يخاف عليه الضياع إن تركه فأخذه له على وجه التعريف به والحفظ له إلى أن يجده صاحبه من أعمال البر»
(1)
.
القول الثالث: مذهب الشافعية:
نقل عن الشافعي نصان في المسألة:
أحدهما: قال في مختصر المزني: «لا أحب لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان أمينًا عليها»
(2)
.
وقال في الأم: «لا يجوز لأحد ترك لقطة وجدها إذا كان من أهل الأمانة»
(3)
.
واختلف أصحابه لذلك، فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يستحب الالتقاط لواثق بأمانة نفسه، ويكره تركها لئلا تقع في يد خائن، وإنما لم يجب الالتقاط لأنها أمانة أو كسب وكل منهما لا يجب ابتداء.
الثاني: يجب عليه الالتقاط صيانة للمال عن الضياع.
واختار أبو العباس وأبو إسحاق حمل النصين على حالين مختلفين:
فالموضع الذي قال: يستحب له أخذها إذا كان لا يخاف عليها من الضياع كما لو كانت في موضع يعلم أمانة أهلها.
والموضع الذي قال: يجب عليه أخذها إذا كانت في موضع يخاف عليها من الضياع، واختار هذا التفصيل السبكي.
(1)
المنتقى للباجي (6/ 134).
(2)
مختصر المزني (ص: 135).
(3)
الأم (4/ 66).
ولا يستحب الالتقاط لغير واثق بأمانة نفسه، ويكره لفاسق لئلا تدعوه نفسه إلى الخيانة
(1)
.
(2)
.
القول الرابع:
ذهب الحنابلة إلى أن الملتقط إن أمن نفسه عليها، وقوي على تعريفها، فله أخذها، والأفضل تركها.
وقال أبو الخطاب: أخذها أفضل إذا وجدها بمضيعة، وأمن نفسه عليها
(3)
.
(1)
الحاوي الكبير (8/ 10)، المهذب (1/ 429)، أسنى المطالب (2/ 487)، مغني المحتاج (2/ 406)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (7/ 520)، روضة الطالبين (5/ 391)، نهاية المحتاج (5/ 427).
(2)
المهذب (1/ 429).
(3)
الكافي لابن قدامة (2/ 351)، المحرر (1/ 371)، الإقناع (2/ 399).
جاء في الإقناع: «ومن أمن نفسه عليها وقوى على تعريفها فله أخذها، والأفضل تركها، ولو وجدها بمضيعة، وإن عجز عن تعريفها فليس له آخذها»
(1)
.
إذا علمت تحرير حكم المسألة في كل مذهب من المذاهب الفقهية، نأتي إلى إجمالها مع ذكر الأدلة، فأقول اللقطة لها ثلاثة أحوال:
الحال الأول:
أن يعلم من نفسه الخيانة، فهنا يحرم عليه الالتقاط؛ لأنه بمنزلة الغاصب، ولأن في أخذها تضييعًا لمال غيره فيحرم كإتلافه، وكما لو نوى كتمانها، أو نوى تملكها في الحال.
(ح-1196 د روى مسلم من طريق عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة، عن أبي سالم الجيشاني،
عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله عليه السلام أنه قال: من آوى ضالة فهو ضال، ما لم يعرفها
(2)
.
[هذا الحديث بهذا اللفظ من أفراد مسلم، وحديث زيد بن خالد في الصحيحين بغير هذا اللفظ، وأبو سالم الجيشاني لم يوثقه إلا ابن حبان والعجلي، وقيل له صحبة]
(3)
.
(1)
الإقناع في فقه الإمام أحمد (2/ 399).
(2)
صحيح مسلم (1725).
(3)
قال أبو نعيم في الحلية، لم يروه بهذا اللفظ إلا عمرو بن الحارث عن أبي سالم. اهـ وفيه إشارة إلى علة التفرد.
الحال الثانية:
أن يثق بأمانة نفسه، ولا يخشى على اللقطة، فهنا أخذها لا يحرم، والخلاف في الأفضل، وقد اختلفوا فيه على أقوال:
القول الأول:
يستحب أخذها، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، واختيار بعض المالكية.
° دليل من قال بالاستحباب:
الدليل الأول:
(ح-1197 رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث،
عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا سأل رسول الله عليه السلام عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن جاء ربها فأدها إليه قال: يا رسول الله، فضالة الغنم؟ قال: خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله، فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله عليه السلام حتى احمرت وجنتاه - أو احمر وجهه - ثم قال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها
(1)
.
فقد دل الحديث على استحباب الالتقاط من وجهين:
الوجه الأول:
أن الرسول عليه السلام أمر بأخذ الشاة، بقوله (خذها، فإنما هي لك أو لأخيك، أو
(1)
صحيح البخاري (6112)، وهو في مسلم (1722).
للذئب) ومعلوم أن اللقطة مثلها بجامع أن كلًا منهما لا يمتنع على من أراده بهلاك أو فساد.
الوجه الثاني:
أن الرسول عليه السلام أمره بتعريفها، ولم يقل له كما قال في الإبل: دعها حتى يلقاها فدل هذا على أن الأفضل أخذها وتعريفها.
ويناقش:
أما الأمر بأخذ الشاة فهو ليس للندب لأنه قاله جوابًا على سؤال السائل، فيحمل على الإرشاد، نعم يكون الأمر للوجوب أو للندب لو أن الرسول عليه السلام أمر بأخذها ابتداء دون أن يكون ذلك مرتبًا على سؤال السائل، والله أعلم.
أما كون النبي عليه السلام لم ينه السائل عن أخذها كما نهاه في ضالة الإبل فهو دليل على جواز الالتقاط، ولا يمكن أن يكون ترك النهي دليلًا على الاستحباب، بل يطلب الاستحباب من دليل آخر.
الدليل الثاني:
أن أخذ اللقطة إذا وثق بأمانة نفسه فيه صيانة لمال الغير من الضياع، وإنما لم يجب؛ لأنه في مكان لا يخاف عليها؛ لأن صاحبها سوف يفتش عنها في المحل الذي فقدها، ويجدها، ويظفر بماله.
القول الثاني:
يستحب أخذ اللقطة إن كان لها بال. وهو قول في مذهب المالكية.
واحتج أصحاب هذا القول:
بأن اللقطة إذا لم يكن لها بال لم يطلبها صاحبها، ولا تشح بها النفوس.
(ح-1198 د روى البخاري من طريق منصور، عن طلحة،
عن أنس رضي الله عنه، قال: مر النبي عليه السلام بتمرة في الطريق، قال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها
(1)
.
فلم يجعل النبي عليه السلام حكم التمرة حكم اللقطة؛ وهكذا سائر المحقرات من الأموال لا يكون لها حكم اللقطة، وسوف نناقش إن شاء الله تعالى حكم يسير اللقطة في مبحث مستقل.
القول الثالث:
يكره أخذها، وهو مذهب المالكية.
القول الرابع:
الأفضل تركها، وهو مذهب الحنابلة.
° وحجة هذين القولين:
الدليل الأول:
(ح-1199 رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا حميد يعني الطويل، حدثنا الحسن، عن مطرف،
عن أبيه، أن رجلا قال: يا رسول الله، هوام الإبل نصيبها؟ قال: ضالة المسلم حرق النار
(2)
.
[اختلف في إرساله ووصله، والراجح وصله، ورجاله ثقات]
(3)
.
(1)
صحيح البخاري (2431)، وصحيح مسلم (1071).
(2)
مسند أحمد (4/ 25).
(3)
سبق تخريجه.
ويناقش:
بأن الحديث في هوام الإبل، وقد ورد النهي عن أخذ ضالة الإبل لكونها تمتنع بنفسها عن السباع، وترد الماء، ولا يمكن أن يقال: إن العبرة بعموم اللفظ؛ لأنه قد ورد الأمر بأخذ ضالة الغنم، وعلل ذلك بأن تركها يعرضها للتلف بأن يأكلها الذئب، وأذن في أخذ اللقطة من غير الحيوان بشرط أن يعرفها.
الدليل الثاني:
(ث-299) ما رواه مالك، عن نافع، أن رجلا وجد لقطة فجاء إلى عبد الله بن عمر، فقال له: إني وجدت لقطة فماذا ترى فيها؟
فقال له عبد الله بن عمر: عرفها، قال: قد فعلت؟ قال: زد، قال: قد فعلت، فقال عبد الله: لا آمرك أن تأكلها، ولو شئت لم تأخذها
(1)
.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف من طريق عبد الله بن دينار، قال: قلت لابن عمر: وجدت لقطة، قال: ولم أخذتها
(2)
.
[صحيح]
(3)
.
الدليل الثاني:
(ث-300) ما رواه عبد الرزاق، عن الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان،
(1)
الموطأ (2/ 758).
(2)
المصنف (22091).
(3)
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (22061)، من طريق أيوب، عن نافع به.
[عن أبيه]
(1)
،
عن ابن عباس كان يقول: لا ترفع اللقطة لست منها في شيء، وقال: تركها خير من أخذها
(2)
.
[ضعيف قابوس بن أبي ظبيان متكلم فيه].
قال ابن المنذر: «اختلف أهل العلم في أخذ اللقطة، فكرهت طائفة أخذها، روينا هذا القول عن ابن عمر، وابن عباس
…
»
(3)
.
وقال ابن قدامة: «الأفضل ترك الالتقاط روي معنى ذلك عن ابن عباس وابن عمر .... ولا نعرف لهما مخالفًا في الصحابة» .
الدليل الثالث:
أن في الالتقاط تعريضًا لنفسه للوقوع في الإثم، فقد يأكلها قبل أن يقوم بحقها، وقد يقصر بما يجب لها من تعريفها، وأداء الأمانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم كولاية مال اليتيم.
° الراجح:
أن الأخذ مع الأمن على اللقطة يدور على معنين:
أحدهما: الوصول إلى صاحبها، عن طريق تعريفها، وفي هذا حفظ المال لصاحبه، وهو مطلوب.
(1)
سقط من إسناد عبد الرزاق لفظة (أبيه)، والتصويب من مصنف ابن أبي شيبة (22084) وسنن البيهقي (6/ 192)، ومحلى ابن حزم (7/ 114)، وقابوس لا يروي عن ابن عباس، وإنما يروي عن أبيه، عن ابن عباس.
(2)
عبد الرزاق (18624)، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (22084).
(3)
الإشراف على مذاهب العلماء (6/ 368).
الثاني: اكتساب اللقطة عن طريق تعريفها، والاكتساب الأصل فيه الإباحة، لهذا نقول: إن أخذها بنية حفظها لصاحبها كان ذلك مستحبًا، وإن أخذها رغبة في تملكها بعد القيام بتعريفها كان ذلك مباحًا، والله أعلم.
الحال الثالثة:
أن يخاف على اللقطة من الخونة، فاختلفوا في وجوب أخذها:
فقيل: يجب أخذها، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، واختاره بعض الحنابلة.
وقيل: لا يجب أخذها، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، واختاره الكاساني من الحنفية.
واختلف الحنابلة في الأفضل:
فقيل: الأفضل تركها لأثر ابن عمر وابن عباس المتقدمين ولا مخالف لهما من الصحابة، وهذا هو المشهور من المذهب.
وقيل: الأفضل أخذها، اختاره بعضهم لما في ذلك من حفظ مال أخيك المسلم.
° دليل من قال بوجوب الالتقاط إذا خاف عليها:
الدليل الأول:
قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
فإذا كان وليه وجب عليه حفظ ماله.
ونوقش هذا:
بأن المراد بهذه الآية النصرة وولاية الدين بدلالة أنه قال: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة:71].
الدليل الثاني:
أن في تركها تضييعًا لها، وقد نهى النبي عليه السلام عن إضاعة المال.
(ح-1200) لما رواه مسلم من طريق الشعبي، عن وراد، مولى المغيرة بن شعبة،
عن المغيرة بن شعبة، عن رسول الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل حرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال
(1)
.
ونوقش هذا:
بأن الترك لا يكون تضييعًا بل هو امتناع من حفظ مال لم يلزمه حفظه، ولم يلتزمه، والامتناع من ذلك لا يكون تضييعا كالامتناع عن قبول الوديعة.
الدليل الثالث:
القياس على ضالة الغنم، فإنها لما كان يخاف عليها من الذئب أمر الشارع الملتقط أن يأخذها.
(ح-1201) لما رواه البخاري من طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث،
عن زيد بن خالد الجهني: أن رجلا سأل رسول الله عليه السلام عن اللقطة، فقال: عرفها سنة، ثم اعرف وكاءها وعفاصها، ثم استنفق بها، فإن
(1)
صحيح مسلم (593)، ورواه البخاري بنحوه (1477).
جاء ربها فأدها إليه قال: يا رسول الله، فضالة الغنم؟ قال: خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله، فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله عليه السلام حتى احمرت وجنتاه - أو احمر وجهه - ثم قال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، حتى يلقاها ربها
(1)
.
ففرق بين الضالة التي يخاف عليها وبين الضالة التي لا يخاف عليها، واللقطة مقيسة عليهما، فإن كان في مكان يخاف عليها من الفسقة كان مأمورًا بأخذها حفظًا لها، وإلا كان له تركها.
ويناقش:
بأن قوله: (خذها) جاء جوابًا على سؤال، فيكون للإرشاد والإباحة، وليس للوجوب، كما لو قلت: أين طريق مكة، فقال لك: اذهب من هنا، لم يكن أمره إلزامًا بالذهاب، والله أعلم.
الدليل الرابع:
القياس على حراسة نفس المسلم، فإذا وجب على المسلم حراسة نفس أخيه المسلم وجب عليه حراسة ماله، فإن حرمة المال كحرمة النفس.
° دليل من قال: لا يجب الالتقاط مطلقًا:
الأصل في حقيقة اللقطة أن فيها معنى الكسب من جهة أن الملتقط يتملكها إن أراد بشرط أن يقوم بما يجب لها، وفيها معنى الأمانة من جهة أنها لو تلفت في يد الملتقط في مدة التعريف أو قبل الاشتغال بها فإنها لا تكون مضمونة على الملتقط، وكلاهما (الكسب أو الأمانة) لا معنى لوجوبه.
(1)
صحيح البخاري (6112)، وهو في مسلم (1722).
° الراجح:
أن الالتقاط لا يجب، وإنما هو مباح، وقد يستحب بشروط، أن يعلم أمانة نفسه، وأن يقوى على تعريفها، والقدرة على حفظها، وأن يكون الباعث على أخذها حفظ حق صاحبها؛ لأنه إن أخذها رغبة في تملكها كان الاكتساب هو الباعث على أخذها، والاكتساب الأصل فيه الإباحة، والله أعلم.
* * *