الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
في الاتجار بالوديعة
الفرع الأول
في الاتجار بها دون إذن من المالك
المسألة الأولى
الحكم التكليفي في اتجار الوديع بالوديعة
[م-1946] لا خلاف بين الفقهاء أن الوديع إذا اتجر بالوديعة بلا إذن صاحبها أنه يضمنها لصاحبها إذا تلفت؛ لأن هذا الفعل يعتبر تعديًا منه، والتعدي في الوديعة يوجب الضمان.
وأما الحكم التكليفي في الاتجار بالوديعة، هل يحرم، أو لا يحرم فالحكم فيه يرجع إلى مسألتين سبق بحثهما:
المسألة الأولى: هل يحرم التعدي في الوديعة مطلقًا، وهو قول الجمهور، أو يحرم إن كان الوديع فقيرًا، وأما إذا كان له مال يرجع إليه إن استهلك الوديعة بتعديه فلا يحرم التعدي، وإن كان ترك التعدي أفضل.
قال ابن عبد البر: «ولا يجب لأحد أن يتعدى في وديعة عنده فيتلفها إلا أن يكون له مال مأمون يرجع إليه إن تلفت الوديعة بتعديه، وترك التعدي في الوديعة أفضل»
(1)
.
(1)
الكافي لابن عبد البر (ص: 404).
وسبق بحث هذه المسألة وبيان الراجح منها.
المسألة الثانية: في حكم الاقتراض من الوديعة، وسبق بحث هذه المسألة أيضًا، وبيان الخلاف فيها بين المالكية والجمهور.
فمن قال: يحرم الاقتراض من الوديعة مطلقًا كما هو قول الجمهور، فهو سيحرم بكل حال الاتجار فيها؛ لأن الاتجار في الوديعة إن كان لنفسه فهو اقترض منه للوديعة.
وإن كان الاتجار لصاحبها، فهو من تصرف الفضولي، وإن دخل بذلك على أنه مضارب، بحيث يكون الربح بينهما، فهو شريك عند من يرى أن عقد المضاربة من عقود الشركات. وتصرف الفضولي سبق بحثه في عقد البيع، وكذا أحكام المضاربة قد عقد له كتاب خاص.
وأما المالكية ففيه تفصيل في الاتجار في الوديعة يرجع إلى نفس التفصيل في الاقتراض منها:
فإن كانت الوديعة مالًا متقومًا مما تختلف الأغراض في عينه، ولا يقوم مثله مقامه، فلا تجوز الاتجارة فيه من قبل المودع.
ومثله لو كان الوديع معسرًا فلا يجوز له الاتجار في الوديعة.
وإذا كانت الوديعة مالًا مثليًا كالنقد، ومثله المكيل والموزون، والوديع مليًا، فتكره له التجارة في الوديعة، وإذا اتجر فإنه ضامن للوديعة
(1)
.
وقد جعل خليل حكم السلف للوديع حكم الاتجار في الوديعة، فقال في
(1)
التهذيب في اختصار المدونة (4/ 304)، مواهب الجليل (5/ 254)،.
مختصره: «وحرم سلف مقوم ومعدوم، وكره النقد والمثلي كالتجارة»
(1)
.
فقوله: (كالتجارة) اختلف المالكية في هذا التشبيه، هل هو تشبيه تام بحيث يحرم الاتجار في الوديعة القيمية ومن المعدوم، وتكره في المثلي ومن الموسر.
أو تشبيه التجارة في الكراهة فقط، فتكره التجارة في مال الوديعة مطلقًا سواء كانت مثلية أو قيمية، وسواء أكان الوديع موسرًا أم معسرًا.
قال الدردير عن قوله: «(كالتجارة) تشبيه تام على الأظهر، فتحرم في المقوم، وعلى المعدوم، وتكره في المثلي للعلة المتقدمة.
وقيل: تشبيه في الكراهة فقط في الجميع»
(2)
.
إذا علم ذلك نأتي على بعض النصوص الفقهية المتعلقة بالمسألة، والله أعلم:
جاء في مجمع الضمانات: «الوديعة لا تودع، ولا تعار، ولا تؤجر، ولا ترهن، فإن فعل شيئًا منها ضمن»
(3)
.
وحرم الشافعية الاتجار في الوديعة، ولو كان بنية الاتجار لصاحبها.
قال في الحاوي الكبير: «الولي مندوب لحفظ ماله كالمودع المندوب لحفظ ما أودع، فلما لم يجز للمودع أن يتجر بالوديعة طلبًا لربح يعود على مالكها، فلم يجز للولي أن يتجر بمال اليتيم طلبا لربح يعود عليه»
(4)
.
(1)
مختصر خليل (ص: 187).
(2)
الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي (3/ 421)، وقد رجح الدسوقي في حاشيته أن التشبيه تام، وليس تشبيهًا بالكراهة خلافًا لما اختاره الخرشي في شرحه (6/ 110).
(3)
مجمع الضمانات (ص: 69)، وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 234).
(4)
الحاوي الكبير (5/ 361)، وانظر نهاية المطلب (7/ 497).
وقال الباجي في المنتقى شرحًا لقول مالك في الموطأ: «قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: إذا استودع الرجل مالًا فابتاع به لنفسه، وربح فيه، فإن ذلك الربح له؛ لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه. اهـ قال الباجي: وهذا على حسب ما قال: إن من اتجر بمال استودعه فربح فيه، فإن الربح له، وقد اختلف قول مالك في جواز السلف من الوديعة بغير إذن المودع، فحكى القاضي أبو محمد في معونته: أن ذلك مكروه.
وقد روى أشهب عن مالك في العتبية أنه قال: ترك ذلك أحب إلي، وقد أجازه بعض الناس، فروجع في ذلك فقال: إن كان له مال فيه وفاء، وأشهد، فأرجو أن لا بأس به.
ووجه الكراهة: ما احتج به القاضي أبو محمد؛ لأن صاحبها إنما دفعها إليه لا لينتفع بها، ولا ليصرفها، فليس له أن يخرجها عما قبضها عليه .... »
(1)
.
فقد وصف الباجي في المنتقى أن الاتجار بالوديعة لصالح الوديع اقتراض لنفسه منها، فرجع حكم المسألة إلى حكم الاقتراض من الوديعة، وقد سبق بحثها، ولله الحمد.
وقال في الإنصاف: «لو اتجر بالوديعة، فالربح للمالك على الصحيح من المذهب، ونص عليه في رواية الجماعة، ونقل حنبل ليس لواحد منهما، ويتصدق به، قال الحارثي: وهذا من الإمام أحمد مقتض لبطلان العقد، وذلك وفق المذهب المختار في تصرف الغاصب، وهو أقوى. انتهى
…
»
(2)
.
* * *
(1)
المنتقى للباجي (5/ 279).
(2)
الإنصاف (6/ 209).