الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في شروط الأعيان المودعة
المبحث الأول
في اشتراط مالية العين المودعة
كل شيء محترم يختص به الإنسان يجوز إيداعه ولو لم يكن مالًا.
[م-1906] لم يختلف الفقهاء في اشتراط مالية العوضين في عقود المعاوضات، فما ليس بمال لا يجوز بذل المال فيه.
أما عقود التبرع، ومنه عقد الوديعة فهل تشترط فيه مالية العين؟
وقد سبق لنا خلاف الفقهاء في اشتراط مالية العين الموهوبة والموصى بها، وهما من عقود التبرع، والخلاف نفسه يجري في عقد الوديعة، والمسألة فيها قولان لأهل العلم:
القول الأول:
يشترط كون العين المودعة مالًا، وهو مذهب الحنفية والمالكية
(1)
.
ولهذا عرف الحنفية الإيداع: بأنه تسليط الغير على حفظ ماله
(2)
.
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 338)، تبيين الحقائق (5/ 76)، العناية شرح الهداية (8/ 484)، مجلة الأحكام العدلية، مادة (763، 764)، عقد الجواهر الثمينة (2/ 850)، الذخيرة للقرافي (9/ 138)، القوانين الفقهية (ص: 246)، التاج والإكليل (7/ 268).
(2)
تبيين الحقائق (5/ 76).
وجاء في الشرح الكبير: «الإيداع توكيل بحفظ مال»
(1)
.
وذكر المالكية في احترازات التعريف أن قوله: (بحفظ مال) خرج به ما ليس بمال، كإيداع الأب ولده، كما خرج به الإيصاء والوكالة؛ لأنهما على الحفظ والتصرف
(2)
.
ودخل في التعريف إيداع الصكوك والوثائق المتعلقة بالحقوق، لأن الوثيقة متمول يراد حفظها لأجل ما فيها
(3)
.
° وحجة الحنفية:
أن الإيداع في كتب اللغة وفي الشرع مختص بالمال، يقال: أودعته مالًا أي دفعته إليه ليكون وديعة، فلو لم يكن الإيداع مختصًا بالمال لما أطبق أرباب اللغة على ذكر المال في بيان معناه.
جاء في فتح القدير نقلًا من صاحب الكافي والكفاية: «الإيداع لغة تسليط الغير على حفظ أي شيء كان مالًا أو غير مال .... وشريعة تسليط الغير على حفظ المال، انتهى ....
ومحصول ذلك أن معنى الإيداع لغة أعم من معناه شريعة لاختصاص الثاني بالمال، وتناول الأول المال وغيره، ولكن المفهوم من معتبرات كتب اللغة كالصحاح، والقاموس، والمغرب وغيرها اختصاص الأول أيضا بالمال؛ لأن المذكور فيها عند بيان معناه، يقال: أودعته مالًا، أي: دفعته إليه ليكون وديعة
(1)
الشرح الكبير (3/ 419).
(2)
انظر الشرح الكبير للدردير (3/ 419).
(3)
انظر حاشية الدسوقي (3/ 419).
عنده، فلو لم يكن له اختصاص بالمال في اللغة أيضا لما أطبق أرباب اللغة على ذكر المال في بيان معناه، بل كان اللائق بهم أن يقولوا: أودعته شيئًا أو دفعته إليه ليكون وديعة عنده .... »
(1)
.
القول الثاني:
لا تشترط مالية العين المودعة، فتصح الوديعة في كل شيء محترم يختص به الإنسان، ولو لم يكن مالًا، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وبعض الحنفية.
جاء في مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: «والوديعة: ما يترك عند الأمين للحفظ، مالًا كان أو غيره»
(2)
.
وقال بعض الشافعية: «توكيل في حفظ مملوك أو محترم مختص على وجه مخصوص»
(3)
.
فدخل في ذلك صحة إيداع ما ليس بمال كإيداع الخمر المحترمة، وجلد ميتة يطهر بالدباغ، وزبل، وكلب معلم إلا أن ذلك ليس بمضمون إذا تلف بتعد أو تفريط بخلاف المال.
وخرج بمختص: ما لا اختصاص فيه كالكلب الذي لا يقتنى
(4)
.
وقال ابن مفلح الصغير في تعريف الوديعة: «توكيل في حفظ مملوك، أو محترم مختص على وجه مخصوص»
(5)
.
(1)
فتح القدير لابن الهمام (8/ 484 - 485).
(2)
مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر (2/ 337).
(3)
مغني المحتاج (3/ 79)، وانظر أسنى المطالب (3/ 74).
(4)
انظر المراجع السابقة.
(5)
المبدع (5/ 233).
وصحح الحنفية وبعض المالكية صحة إيداع الصكوك والوثائق المتعلقة بالمال، وإن لم تكن مالًا بنفسها
(1)
.
قال ابن عرفة المالكي في تعريف الوديعة: «نقل مجرد حفظ ملك ينقل»
(2)
.
قال الحطاب: «فيدخل إيداع الوثائق بذكر الحقوق»
(3)
.
قال البناني: «قد يجاب عن ذكر الحقوق بأنه لكونه قد يتضمن المال، ويحفظ لأجله كان مالًا مجازًا، فصح دخوله»
(4)
.
وسبق لنا قول الدسوقي: «الوثيقة متمول يراد حفظه لأجل ما فيه»
(5)
.
كما صحح الشافعية صحة إيداع الصكوك والوثائق، إلا أنهم لم ينظروا إلى محتواها في الضمان، بل اعتبروا قيمتها كورقة مكتوبة وأجرة الكتابة إذا تلفت.
جاء في نهاية المحتاج: «ولو أودعه ورقة مكتوبة بإقرار أو نحوه وتلفت بتقصيره ضمن قيمتها مكتوبة وأجرة الكتابة»
(6)
.
وهذا قول ضعيف، فإن الصكوك والوثائق ليست قيمتها بذاتها كورقة مكتوبة وأجرة الكتابة، بل قيمتها بما تمثله من حقوق، فربما أدى تلفها إلى ضياع ما
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 353)، مواهب الجليل (5/ 250)، منح الجليل (7/ 3)، حاشية البناني على شرح الزرقاني لمختصر خليل (6/ 114)، نهاية المحتاج (6/ 132)، حاشية قليبوبي (3/ 188).
(2)
شرح حدود ابن عرفة (ص: 366).
(3)
مواهب الجليل (5/ 250).
(4)
حاشية البناني على شرح الزرقاني لمختصر خليل (6/ 114).
(5)
حاشية الدسوقي (3/ 419).
(6)
نهاية المحتاج (6/ 132).
تثبته من تلك الحقوق، كما أن الأسهم في سوق البورصة لا تقدر قيمتها بالورق التي تثبتها، بل تعتبر قيمة السهم بما يمثله من مال مثلي، أو قيمي، أو منقول.
° الراجح:
أن الإيداع يدور على حفظ الأشياء التي لم ينه الشارع عن اقتنائها، سواء أكانت من الأموال أم من غيرها، إلا أن الأعيان المودعة إن كانت مالًا فإنها تضمن بالتعدي أو بالتفريط، وإذا لم تكن مالًا كالكلب المعلم، والسرجين النجس، ونحو ذلك فإن تلفه غير مضمون؛ لأنه ليس له قيمة شرعًا، والله أعلم.
* * *