الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
أن يودع الوديع الأجنبي لعذر
الأمر الأول
أن يكون العذر حاجته إلى السفر
[م-1919] إذا كان عند الإنسان وديعة، فأراد السفر، فهل يملك إيداعها لأجنبي؟
فإن كان المالك موجودًا فلا يجوز إيداعه لأجنبي إلا بإذنه، فإن أذن، وإلا ردها عليه.
وإن لم يكن المالك موجودًا وكان له وكيل فوكيله يقوم مقام المالك؛ لأن يد الوكيل كيد الموكل، وبهذا قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
جاء في التاج والإكليل: «إن أراد سفرًا، أو خاف عورة، وربها غائب فليودعها ثقة»
(2)
.
(1)
تبيين الحقائق (5/ 77)، النتف في الفتاوى للسغدي (2/ 579)، المبسوط (11/ 122)، فتح القدير لابن الهمام (8/ 490)، تقويم النظر في مسائل خلافية ذائعة (3/ 259)، الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 419)، التهذيب في اختصار المدونة (4/ 293)، جامع الأمهات (ص: 404)، الذخيرة للقرافي (9/ 163)، الخرشي (6/ 112)، الأم (4/ 136)، الحاوي الكبير (8/ 359)، مختصر المزني (ص: 147)، نهاية المطلب (11/ 376)، البيان للعمراني (6/ 482)، الكافي لابن قدامة (2/ 377)، المبدع (5/ 238)، المغني (6/ 302)، كشاف القناع (4/ 174).
(2)
التاج والإكليل (5/ 257).
فإن قوله: (وربها غائب) يفهم منه أن مالكها لو كان حاضرًا لم يصح الإيداع إلا بعد الرجوع إليه.
وقال الشافعي في الأم: «وإذا استودع الرجل الرجل الوديعة، فأراد المستودَع السفر فإن كان المستودِع حاضرًا، أو وكيل له لم يكن له أن يسافر حتى يردها إليه، أو إلى وكيله، أو يأذنا له أن يودعها من رأى»
(1)
.
° حجة هذا القول:
أنه لا يوجد ضرورة في دفع الوديعة إلى أجنبي مع حضور مالكها، فاعتبر إيداعها لأجنبي تصرفًا في ملك غيره، وتعديًا يوجب الضمان.
ولأن المالك إنما رضي أمانته ولم يرض أمانة غيره، فصارت يد من ائتمنه عليها يدًا غير مأذون فيها، فصارت متعدية، فلزم الضمان.
[م-1920] وأما إذا عجز الوديع عن الرد أو أخذ الإذن بأن كان صاحبها غير موجود ولا وكيله، فاختلف الفقهاء في حق الوديع في إيداعها لأجنبي من أجل السفر على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
لا يعتبر السفر عذرًا، فلو أودع مال غيره لأجنبي بسبب السفر ضمن، وهذا مذهب الحنفية
(2)
.
(1)
الأم (4/ 136).
(2)
بدائع الصنائع (6/ 208)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (5/ 77)، المبسوط (11/ 122)، الإنصاف (6/ 329).
فإن أودعها فضاعت في يد الثاني، فالضمان على الأول، ولا ضمان على الثاني عند أبي حنيفة.
وعند أبي يوسف ومحمد: المالك بالخيار إن شاء ضمن الأول، وإن شاء ضمن الثاني.
فإن ضمن الأول لا يرجع بالضمان على الثاني. وإن ضمن الثاني رجع به على الأول.
جاء في بدائع الصنائع: «فلو أراد السفر؛ فليس له أن يودع؛ لأن السفر ليس بعذر، ولو أودعها عند من ليس له أن يودعه، فضاعت في يد الثاني فالضمان على الأول، لا على الثاني عند أبي حنيفة.
وعند أبي يوسف، ومحمد: المالك بالخيار، إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني، فإن ضمن الأول لا يرجع بالضمان على الثاني، وإن ضمن الثاني يرجع به على الأول»
(1)
.
° حجة الحنفية:
أن السفر ليس عذرًا في دفع الوديعة.
ويناقش:
بأن القول بأن السفر ليس عذرًا استدلال في محل النزاع.
(ح-1170) وقد روى الشيخان من طريق مالك، عن سمي، عن أبي صالح،
(1)
بدائع الصنائع (6/ 208).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام، قال: السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله
(1)
.
فإذا كان يمنع كمال الطعام والشراب والنوم وهي أركان الحياة مع ما فيه من المشقة والتعب، ومقاساة الحر والبرد والخوف، وخشونة العيش، وكل هذه الأمور تؤثر على قدرة الوديع في حفظ الوديعة، ويتعرض فيها للخطر، ومنه السرقة.
القول الثاني:
يعتبر السفر عذرًا، فإذا أراد الوديع السفر، ولم يجد صاحبها، ولا وكيله فله أن يدفع الوديعة إلى ثقة.
وهذا مذهب المالكية، وأحد القولين في مذهب الشافعية، نص عليه الإمام الشافعي في الأم، وبه قال المزني في مختصره، وأبو إسحاق المروزي، واختاره أبو حامد، وهو رواية عن الإمام أحمد، وبها أخذ بعض أصحابه
(2)
.
جاء في التهذيب في اختصار المدونة: «وإن أراد سفراً، أو خاف عورة منزله، ولم يكن صاحبها حاضراً، فيردها عليه، فليودعها ثقة، ولا يُعرِّضها للتلف، ثم لا يضمن»
(3)
.
(1)
صحيح البخاري (1804)، وصحيح مسلم (1927).
(2)
المدونة (6/ 145)، التهذيب في اختصار المدونة (4/ 293)، جامع الأمهات (ص: 404)، الذخيرة للقرافي (9/ 163)، الخرشي (6/ 112)، منح الجليل (7/ 3)، مواهب الجليل (5/ 259)، والكافي (ص 403)، القوانين الفقهية (ص: 246)، الإشراف (2/ 42)، التفريع (2/ 270)، الأم (4/ 136)، الحاوي الكبير (8/ 359)، مختصر المزني (ص: 147)، المهذب (1/ 360)، الفروع (4/ 481 - 482)، الإنصاف (7/ 328)، المبدع (5/ 239).
(3)
التهذيب في اختصار المدونة (4/ 293).
(1)
.
قال المزني في مختصره: «وإذا أودعها غيره ـ يعني الوديع ـ وصاحبها حاضر عند سفره ضمن، فإن لم يكن حاضرًا، فأودعها أمينًا يودعه ماله لم يضمن»
(2)
.
° حجة هذا القول:
الدليل الأول:
(ح-1171) روى البيهقي من طريق محمد بن إسحاق قال: أخبرني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال:
حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله عليه السلام، فذكر الحديث في خروج النبي عليه السلام، قال فيه: فخرج رسول الله عليه السلام وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثلاث ليال وأيامها؛ حتى أدى عن رسول الله عليه السلام الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله عليه السلام.
[قال الحافظ: إسناده قوي]
(3)
.
(1)
الأم (4/ 136).
(2)
مختصر المزني (ص: 147).
(3)
سنن البيهقي (6/ 289)، وإنما قوى إسناده الحافظ في تلخيص الحبير ط ـ دار قرطبة (3/ 211)، وإن كان ابن إسحاق خفيف الضبط؛ لأن ابن إسحاق حجة في السيرة.
ورواه البيهقي أيضًا (6/ 289) من طريق محمد بن إسحاق، قال: حدثني من لا أتهم، عن عروة بن الزبير، عن عائشة في هجرة النبي عليه السلام فذكر نحوه.
وهذا إسناد ضعيف لإبهام روايه.
ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 22) وفي إسناده الواقدي، وهو متهم.
وذكره أصحاب السير ابن هشام (2/ 464)، وابن كثير (2/ 234)، والطبري في تاريخه (2/ 378) وغيرهم.
ويناقش:
قد يكون علي وكيلًا عن الرسول عليه السلام، ويد الوكيل كيد الموكل، فهو نائب عنه، وهو الظاهر؛ لأنه وكله في رد الودائع، وليس الخلاف في دفع الوديعة إلى وكيله ليردها إلى صاحبها، وإنما الخلاف في إيداع الوديعة إلى أجنبي من أجل حفظها، وكون هذا الأجنبي ليس نائبًا عن المودَع.
الدليل الثاني:
من النظر فإن الوديع لا يمكنه رد الوديعة إلى صاحبها وهو لا يعلم مكان وجوده، ولا يمكننا منعه من السفر؛ لأن هذا حجر عليه، وهو متبرع بالحفظ، ولا يمكنه السفر بها؛ لأن في هذا تعريضًا لها للهلاك، فلم يبق له إلا إيداعها عند ثقة على الوجه الذي يحفظ به ماله لو أراد إيداعه فلا يصير ضامنًا بالدفع إلى غيره في هذه الحالة، والله أعلم.
القول الثالث:
ذهب الشافعية في المذهب، والحنابلة في المشهور إلى أن الوديع إذا أراد سفرًا، ولم يكن المالك ولا وكيله موجودًا، فإن كان في الموضع حاكم سلم
الوديعة إليه، فإن لم يجد حاكمًا، أو كان موجودًا إلا أنه غير مأمون أودعها ثقة
(1)
.
قال العمراني في البيان: «فإن دفعها إلى أمين مع وجود الحاكم فقد قال الشافعي: فإذا سافر بها، فأودعها أمينا يودعه ماله لم يضمن. واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: لا يضمن؛ لأن الشافعي لم يفرق .... واختاره الشيخ أبو حامد؛ لأنه أودعها أمينا لعذر السفر، فهو كما لو كان الحاكم معدومًا في البلد.
وقال أبو سعيد الإصطخري، وأبو علي بن خيران: يجب عليه الضمان؛ لأن الشافعي قال في الرهن: وإذا وضع الرهن على يدي عدل، ثم غاب المتراهنان، أو أحدهما، وأراد العدل السفردفعه إلى الحاكم.
فدل على: أن الدفع إلى غيره لا يجوز، ولأن أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الأمين مجتهد فيها، فلم يجز ترك المقطوع به إلى المجتهد فيه، كما لا يجوز ترك النص إلى القياس.
ومن قال بالأول حمل نص الشافعي في الرهن إذا تشاح المتراهنان في العدل فإنهما يرفعانه إلى الحاكم ليضعه عند عدل»
(2)
.
(1)
روضة الطالبين (6/ 328)، الحاوي الكبير (8/ 359)، نهاية المطلب (11/ 376)، البيان للعمراني (6/ 482)، المهذب (1/ 360)، الكافي لابن قدامة (2/ 377)، المبدع (5/ 238)، المغني (6/ 302)، كشاف القناع (4/ 174).
(2)
البيان للعمراني (6/ 482 ـ 483).
° الراجح:
أرى أن دفعها إلى القاضي أسلم لصاحبها، فالقاضي له ولاية في أموال الغائبين مستمدة من الشرع، وهي أقوى من الولاية المستمدة من التفويض، والله أعلم.
* * *