الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الأول
في الإنفاق على الوديعة
الإنفاق تبع للملك.
من كان الشيء له كانت نفقته عليه.
وقيل: قبول الوديعة يعني حفظها من التلف، ومنه الإنفاق عليها.
[م-1924] إذا كانت الوديعة في يد الوديع أمانة، وكانت الوديعة من النوع الذي يحتاج إلى نفقة، فإن نفقتها تجب على مالكها، ولا يجب على الوديع شيء من النفقة، وهذا ظاهر؛ لأن من ملك شيئًا استأثر بغنمه، واختص بغرمه.
فإن أنفق عليها مالكها وهي في يد الوديع فذاك، وإن لم ينفق عليها فللوديعة ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يأمره بالإنفاق عليها.
فإذا أمره مالكها بالإنفاق عليها، فهل يلزم الوديع النفقة عليها بمجرد أمر صاحبها، أو لا بد من قبول الوديع، في المسألة قولان:
القول الأول:
يلزمه الإنفاق عليها مطلقًا، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
(1)
ذكر القاضي عبد الوهاب في الإشراف أنه مأمور بعلفها حتى ولو لم يأمره مالكها بذلك بناء على أن مأمور بحفظ الوديعة وذلك يتضمن المنع من تلفها، فإذا أمره بالعلف كان واجبًا عليه من باب أولى، انظر الإشراف (2/ 625 - 626)، الحاوي الكبير (8/ 365)، المهذب (1/ 361)، الوسيط (4/ 506)، مغني المحتاج (3/ 84)، الإنصاف (6/ 320)، المغني (6/ 308).
قال العمراني في البيان: «إذا أودعه بهيمة، أو غيرها من الحيوان، ففيها ثلاث مسائل:
إحداهن: أن يأمره بعلفها وسقيها، فيجب على المودع أن يعلفها ويسقيها؛ لأن للبهيمة حرمتين: حرمة بنفسها، بدليل: أن من ملك بهيمة يجب عليه علفها وسقيها، وحرمة لمالكها، وقد اجتمعتا. فإذا علفها وسقاها رجع على المالك بما أنفق عليها؛ لأنه أخرجها بإذنه»
(1)
.
° حجة هذا القول:
أن قبول الوديعة يتضمن قبول الإنفاق عليها؛ لأنه مأمور بحفظها، واستدامتها، ولا يتم ذلك إلا بالإنفاق عليها، فقبول الوديعة يعني قبول الإنفاق عليها، وقد تأكد ذلك بأمر صاحبها له بالإنفاق فوجب عليه حرمة للحيوان، وحرمة لمالكها.
القول الثاني:
قبول الوديعة لا يعني لزوم الإنفاق عليها، ولو أمره صاحبها بذلك إلا إذا قبل الوديع الإنفاق عليها، وهو ظاهر مذهب الحنفية، وذكره ابن قدامة في المغني احتمالًا
(2)
.
(1)
البيان للعمراني (6/ 490).
(2)
الإنصاف (6/ 320)، المغني (6/ 308).
جاء في الإنصاف: «لو أمره بعلفها: لزمه ذلك مطلقًا، على الصحيح من المذهب. وقيل: لا يلزمه إلا مع قبوله. وهو احتمال في المغني»
(1)
.
° وجه القول بذلك:
أن قبول الوديعة لا يعني قبول الإنفاق عليها؛ فالوديعة توكيل بالحفظ، وحفظ الوديعة شيء وقبول الإنفاق عليها شيء آخر، فلا بد من قبول الإنفاق عليها صريحًا، فإذا لم يقبل لم يلزمه الإنفاق عليها.
ولأن هذا تبرع منه، فلا يلزمه بمجرد أمر صاحبها، كغير الوديعة.
جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: «تعود نفقة الوديعة التي تحتاج إلى نفقة كالفرس، والبقرة على صاحبها أي على المودِع
…
وعلى هذا التقدير إذا هلكت الوديعة لعدم إنفاق المستودع من ماله، أو لعدم ترك المودِع نفقتها للمستودَع لا يلزم ضمان على المستودع»
(2)
.
قال ابن قدامة في المغني: «وإذا أودع بهيمة، فأمره صاحبها بعلفها وسقيها، لزمه ذلك لوجهين؛
أحدهما: لحرمة صاحبها؛ لأنه أخذها منه على ذلك.
والثاني: لحرمة البهيمة، فإن الحيوان يجب إحياؤه بالعلف والسقي. ويحتمل أن لا يلزمه علفها إلا أن يقبل ذلك؛ لأن هذا تبرع منه، فلا يلزمه بمجرد أمر صاحبها، كغير الوديعة»
(3)
.
(1)
الإنصاف (6/ 320).
(2)
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (2/ 288).
(3)
المغني (6/ 308).
° الراجح:
أرى أن المالك إذا أودعه وأمره بالإنفاق عليها، وقبل الوديع الوديعة أن ذلك يعني قبوله بالإنفاق عليها؛ لأن قبوله الوديعة، وعدم رفض الإنفاق عليها صراحة يعني قبوله للإنفاق عليها، ولو شاء الوديع لرفض الإنفاق عليها، فلما قبل الوديعة، ولم يرفض أمره بالإنفاق عليها كان هذا قبولًا للأمرين، المحافظة على الوديعة والإنفاق عليها، فإذا ترك الإنفاق ضمن، والله أعلم.
الحالة الثانية: أن ينهاه عن الإنفاق عليها، وهذا بمنزلة ما لو أمره المالك بإتلاف ماله، فهل يمتثل أمره، وإذا امتثل أمره فهل يضمن، في ذلك خلاف بين العلماء:
القول الأول:
إذا نهاه عن الإنفاق لم ينفق، ولا ضمان عليه، وهذا مقتضى مذهب الحنفية؛ لأنهم إذا كانوا يقولون: لا يضمن إذا ترك الإنفاق ولو كان في حال لم يأمره به ولم ينهه عنه، فمن باب أولى لا ينفق ولا يضمن إذا نهاه عن الإنفاق
(1)
.
جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: «تعود نفقة الوديعة التي تحتاج إلى نفقة كالفرس، والبقرة على صاحبها أي على المودِع
…
وعلى هذا التقدير إذا هلكت الوديعة لعدم إنفاق المستودع من ماله، أو لعدم ترك المودِع نفقتها للمستودَع لا يلزم ضمان على المستودع»
(2)
.
° وجه القول بأنه لا ينفق ولا يضمن:
الوديعة معقودة من أجل حفظ العين، وليس على الإنفاق عليه، والنفقة تجب
(1)
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (2/ 288).
(2)
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (2/ 288).
على مالكها، فمنزلة الوديع في النفقة على الوديعة كمنزلة الرجل الأجنبي لا يجب عليه الإنفاق على مال غيره حتى ولو لم ينهه، فإذا أكد ذلك بالنهي عن الإنفاق فتلفت كان هو المتلف لماله، فلا ضمان على المودَع.
القول الثاني:
ذهب المالكية، والإصطخري من الشافعية وصححه الماوردي في الحاوي إلى أنه يحرم عليه امتثال أمره، وإذا فعل فإنه يضمن
(1)
.
جاء في حاشية الدسوقي: «لا يجوز للمودع إتلاف الوديعة، ولو أذن له ربها في إتلافها، فإن أتلفها ضمنها لوجوب حفظ المال»
(2)
.
جاء في الحاوي: «أن ينهاه عن علفها فلا يجوز له في حق الله تعالى أن يدع علفها
…
وإن تركها فلم يعلفها حتى هلكت فالمحكي عن جمهور أصحابنا أنه لا يضمن
…
وقال أبو سعيد الإصطخري: يضمن، وهو الأصح عندي؛ لأنه شرط قد منع الشرع منه فكان مطرحًا»
(3)
.
الدليل على تحريم الامتثال:
الدليل الأول:
أن إتلاف المال في غير منفعة دينية أو دنيوية محرم، وهو من تبذير المال، وقد قال تعالى:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27].
(1)
حاشية الصاوي على الشرح الصغير (3/ 551)، حاشية الدسوقي (3/ 420)، شرح الزرقاني على خليل (6/ 114)، الحاوي الكبير (8/ 366)، الإشراف لابن المنذر (6/ 344).
(2)
حاشية الدسوقي (3/ 420).
(3)
الحاوي الكبير (8/ 365 - 366).
الدليل الثاني:
إتلاف المال إضاعة له، وقد نهى الشارع عن إضاعته.
(ح-1175) فقد روى البخاري من طريق الشعبي، قال: حدثني كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إلي بشيء سمعته من النبي عليه السلام، فكتب إليه:
سمعت النبي عليه السلام يقول: إن الله كره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال
(1)
.
الدليل الثالث:
أن الوديعة إذا كانت حيوانًا فنهى المالك الوديع عن إعلافها كان ذلك تعذيبًا للحيوان، وهو محرم؛ لأنها نفس محترمة.
وأما الدليل على وجوب الضمان:
الدليل الأول:
(ح-1176) ما رواه مسلم من طريق القاسم بن محمد، قال:
أخبرتني عائشة، أن رسول الله عليه السلام قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد
(2)
.
الدليل الثاني:
أن هذا الشرط مخالف للشرع، وكل شرط يخالف الشرع فهو باطل غير معتبر.
(ح-1177) فقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن
(1)
صحيح البخاري (1477)، صحيح مسلم (13 - 593).
(2)
صحيح مسلم (1718).
عائشة رضي الله عنها في قصة شراء بريرة، وفي الحديث:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق
…
الحديث
(1)
.
الدليل الثالث:
أن الوديعة بإيداعها وجب عليه حفظها، فصار إذنه في إتلافها شرطًا مناقضًا لمقتضى العقد، فيلغى
(2)
.
ولأن العقد إذا كان على الحفظ، فهو كما يشمل حفظ العين يشمل المحافظة عليها من التلف، فيدخل فيه الإنفاق.
القول الثالث:
ذهب جمهور الشافعية والحنابلة إلى أنه يحرم عليه امتثال أمره، وإذا فعل لم يضمن
(3)
.
الدليل على تحريم الامتثال:
سبق ذكر الأدلة في القول السابق.
(1)
صحيح البخاري (2168)، ومسلم (1504).
(2)
انظر شرح الزرقاني على خليل (6/ 114).
(3)
الأم (4/ 135)، الحاوي الكبير (8/ 364)، الوسيط للغزالي (4/ 506)، تحفة المحتاج (7/ 113)، نهاية المحتاج (6/ 121)، المهذب (1/ 361)، مغني المحتاج (3/ 84)، أسنى المطالب (3/ 78)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (6/ 491)، روضة الطالبين (6/ 332)، الكافي لابن قدامة (2/ 379)، المغني (6/ 309)، الشرح الكبير (7/ 290)، الإنصاف (6/ 320)، كشاف القناع (4/ 170)، المبدع (5/ 236).
والدليل على أنه لا يضمن:
أن الوديع ممتثل أمر مالكها فهو كما لو أمره بقتلها، فلا يستحق عليه الضمان، وذلك أن المسألة يتعلق بها حقان: التحريم وهو تعذيب الحيوان، وهذا الحق لله تعالى، وحق الضمان وهو حق للآدمي، وقد رضي بإسقاطه، فلا يلزم من التحريم وجوب الضمان.
° الراجح:
أرى أن مذهب الشافعية والحنابلة هو الأقوى.
الحال الثالثة: أن يسكت، فلا يأمره بالإنفاق ولا ينهاه عن الإنفاق.
وفي هذه الحالة للوديع مراجعته أو مراجعة وكيله، والمطالبة بالإنفاق عليها، أو ردها، أو الإذن له بالإنفاق، والرجوع عليه بها
(1)
.
جاء في الإقناع: «وإن قدر المستودع على صاحبها أو وكيله طالبه بالإنفاق عليها أو بردها عليه أو يأذن له في الإنفاق عليها ليرجع به»
(2)
.
[م-1925] وإن كان غائبًا، فهل يلزمه الإنفاق عليها؟
في المسألة خلاف بين العلماء:
القول الأول:
لا يلزمه الإنفاق عليها، وهذا مذهب الحنفية
(3)
.
(1)
انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (2/ 378)، كشاف القناع (4/ 170).
(2)
الإقناع في فقه الإمام أحمد (2/ 379).
(3)
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (2/ 288).
جاء في درر الحكام في شرح مجلة الأحكام: «تعود نفقة الوديعة التي تحتاج إلى نفقة كالفرس، والبقرة على صاحبها أي على المودِع
…
وعلى هذا التقدير إذا هلكت الوديعة لعدم إنفاق المستودع من ماله، أو لعدم ترك المودِع نفقتها للمستودَع لا يلزم ضمان على المستودع»
(1)
.
وجه القول بأنه لا يلزمه الإنفاق عليها:
أن العقد هو على الحفظ، وليس على الإنفاق، والنفقة على مالكها، فإذا لم ينفق عليها كان هو المفرط في ماله.
القول الثاني:
يلزمه الإنفاق عليها، ولو ترك الإنفاق ضمن، وهو قول في مذهب الحنفية، والمذهب عند المالكية، والشافعية، والحنابلة
(2)
.
(1)
درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (2/ 288)، وهذا مخالف لما ذكره ابن عابدين في حاشيته (5/ 675)، قال:«ولو لم ينفق عليها المودع بالفتح حتى هلكت يضمن» . ومثلها ما ذكره في قرة عيون الأخيار (2/ 261).
والأول هو المشهور من مذهب الحنفية، ونسبه للحنفية القاضي عبد الوهاب البغدادي من المالكية في الإشراف، وإمام الحرمين في نهاية المطلب، والعمراني في البيان من الشافعية، وابن قدامة في المغني من الحنابلة، وسيأتي النقول عنهم في القول الثاني. ونقول هؤلاء متفقة مع ما ذكر في شرح مجلة الأحكام العدلية، فيكون على أحسن الأحوال هناك قولان في مذهب الحنفية، والله أعلم، وهو ما اعتمدته.
(2)
حاشية ابن عابدين (5/ 675)، قرة عيون الأخيار (2/ 261)، الإشراف على نكت مسائل الخلاف (2/ 625)، الأم (4/ 135)، الحاوي الكبير (8/ 364)، الوسيط للغزالي (4/ 506)، تحفة المحتاج (7/ 113)، نهاية المحتاج (6/ 121)، المهذب (1/ 361)، مغني المحتاج (3/ 84)، أسنى المطالب (3/ 78)، البيان في مذهب الإمام الشافعي (6/ 491)، روضة الطالبين (6/ 332)، الكافي لابن قدامة (2/ 379)، المغني (6/ 308)، الشرح الكبير (7/ 290)، الإنصاف (6/ 320)، كشاف القناع (4/ 170)، المبدع (5/ 236).
جاء في قرة عين الأخيار: «ولو أنفق عليها بلا أمر قاض فهو متبرع ولو لم ينفق عليها المودع حتى هلكت يضمن»
(1)
.
وجاء في الإشراف للقاضي عبد الوهاب: «إذا أودع عنده بهيمة ولم يأمره أن يعلفها لزم المودع أن يعلفها أو يرفعها إلى الحاكم فيتداين على صاحبها في علفها أو يبيعها عليه إن كان قد غاب فإن تركها ولم يعلفها فتلفت ضمن.
وقال أبو حنيفة: لا يلزمه علفها. فدليلنا أن المودع مأمور بحفظ الوديعة
…
»
(2)
.
(3)
.
وجاء في المغني: «وإن أطلق، ولم يأمره بعلفها لزمه ذلك أيضًا، وبهذا قال الشافعي. ويحتمل ألا يلزمه ذلك، وبه قال أبو حنيفة .... ولنا أنه لا يجوز إتلافها، والتفريط فيها، فإذا أمره بحفظها تضمن ذلك علفها، وسقيها
…
»
(4)
.
(1)
قرة عيون الأخيار (2/ 261).
(2)
الإشراف على نكت مسائل الخلاف (2/ 625 - 626).
(3)
نهاية المطلب (11/ 412).
(4)
المغني (6/ 309).
° وجه القول بوجوب علفها:
أن قبول الوديعة يعني حفظها واستدامتها، فإذا ترك علفها فقد عرضها للهلاك فيضمن أشبه ما لو لم يحرزها.
وهذا هو القول الراجح؛ لأن الله نهى عن إضاعة المال، والله أعلم.
هذا ما يخص الكلام في الضمان إذا ترك الإنفاق عليها، وأما كيفية الإنفاق عليها، وهل يلزم أن يكون الإنفاق عليها من مال الوديع أو من غيره، وهل يلزم أن يرجع إلى القاضي حتى يأذن له بالإنفاق، أو في تأجيرها والإنفاق عليها من غلتها، أو في بيعها وحبس ثمنها لصاحبها فهذا ما سوف نكشفه في المبحث التالي إن شاء الله تعالى.
* * *