الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
أن يعين المالك موضع الحفظ
كل شرط مفيد والعمل به ممكن إذا خالفه الوديع ضمن.
[م-1911] إذا أودع الرجل وديعة، وطلب من المودَع أن يحفظها في مكان معين، فإما أن يحفظها فيه وإما أن يخالف المالك.
فإن حفظها فيه فلا ضمان عليه، وإن كان دون حرز مثلها؛ لأنه ممتثل غير مفرط.
قال ابن قدامة: «إن عين له ـ يعني ما يحفظها فيه ـ لزمه حفظها فيما أمره به، سواء كان حرز مثلها أو لم يكن»
(1)
.
واستثنى المالكية وابن حزم من الظاهرية ما لو كان ذلك المكان الذي عينه مالكها فيه يقين هلاكها فإن له أن يخالف صاحبها؛ لأنه يجب عليه حفظها، ولو شرط المودِع خلافه؛ لأنه شرط مناقض لحقيقتها، وكل شرط يناقض مقتضى العقد فإنه لا يلزم.
(2)
.
وجاء في شرح الزرقاني: «وقد ذكر ابن رشد في مذهبه أنه إذا جعلها في بيته من غير قفل، وله أهل قد عرف خيانتهم أنه يضمن لمخالفته العرف. اهـ
(1)
المغني (6/ 301).
(2)
المحلى، مسألة (1390).
وظاهره، ولو علم ربها بذلك لما مر من وجوب حفظها، ولو شرط المودع بالكسر خلافه؛ لأنه شرط مناقض لحقيقتها»
(1)
.
وإن خالف المالك فهذا له ثلاثة أحوال:
الحال الأولى:
[م-1912] أن يعين له مكانًا فيحفظها بما دونه فإنه يضمن إلا أن يخاف عليه من حرق أو غرق. وهذا بالاتفاق
(2)
.
° وجه القول بالضمان:
الوجه الأول:
أن المودع قد رضي بالحرز الذي عينه، ومن رضي بحرز لم يرض بما دونه.
الوجه الثاني:
أن هذا التصرف يعتبر مخالفة للمودع في حفظ ماله بلا سبب، فيعتبر تفريطًا يوجب الضمان.
قال ابن قدامة: «وجملة ذلك أن رب الوديعة إذا أمر المستودع بحفظها في مكان عينه، فحفظها فيه، ولم يخش عليها، فلا ضمان عليه بغير خلاف؛ لأنه ممتثل لأمره، غير مفرط في ماله. وإن خاف عليها سيلًا وتوًى، يعني هلاكًا،
(1)
شرح الزرقاني على خليل (6/ 116).
(2)
بدائع الصنائع (6/ 210)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 28)، تبيين الحقائق (5/ 81)، العناية شرح الهداية (8/ 494)، المهذب (1/ 359)، شرح الزركشي (2/ 298)، مجلة الأحكام الشرعية، مادة (1360).
فأخرجها منه إلى حرزها، فتلفت، فلا ضمان عليه. بغير خلاف أيضًا؛ لأن نقلها في هذه الحال تعين حفظا لها، وهو مأمور بحفظها.
وإن تركها مع الخوف فتلفت، ضمنها، سواء تلفت بالأمر المخوف أو بغيره؛ لأنه فرط في حفظها؛ لأن حفظها نقلها، وتركها تضييع لها. وإن لم يخف عليها فنقلها عن الحرز إلى دونه، ضمنها؛ لأنه خالفه في الحفظ المأمور به. وإن نقلها إلى دونه عند الخوف عليها، نظرنا؛ فإن أمكنه إحرازها بمثله، أو أعلى منه، ضمنها أيضًا؛ لتفريطه، وإن لم يمكنه إحرازها إلا بما دونه، لم يضمنها؛ لأن إحرازها بذلك أحفظ لها من تركه، وليس في وسعه سواه»
(1)
.
الحال الثانية:
[م-1913] أن يعين له مكانًا فيحفظها في أحرز منه، ففي ضمانها قولان:
القول الأول:
لا يضمن، وهو مذهب الأئمة الأربعة؛ لأن من رضي حرزًا رضي بما هو أحرز منه، ولأنه بفعله هذا قد زاده، ولم ينقصه
(2)
.
واستثنى المالكية من عدم الضمان إذا حفظها بما هو أحرز منه، فتلفت بالوجه الذي قصد الاحتراز من أجله، فلو قال المودِع بكسر الدال للمودَع بفتحها: اجعل الوديعة في كمك، فجعلها في يده فضاعت، أو أخذها منه غاصب، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن اليد أحفظ من الكم، إلا أن يكون أراد
(1)
المغني (6/ 303).
(2)
الأم (4/ 136)، المهذب (1/ 359)، البيان للعمراني (6/ 479)، الإنصاف (6/ 318)، المغني (6/ 301)، الكافي لابن قدامة (2/ 374 - 375).
إخفاءها عن عين الغاصب، فرآها لما جعلها في يده فيضمن كما قاله ابن شاس
(1)
.
ومثله لو قال المودِع: اجعلها في صندوقك، ولا تقفل عليها، فخالف، وقفل عليها، ثم سرقت بعد ذلك فإنه يضمن، وإن كان القفل أحرز لها؛ لأنه سلط السارق عليها؛ لأنه إذا رأى القفل طمع في أخذها، ولا يضمن غير السرقة فلو تلفت بحريق لم يضمن عند ابن القاسم؛ لقوله: لا يضمن إلا إذا تلفت بالوجه الذي قصد الاحتراز من أجله
(2)
.
(3)
.
القول الثاني:
يضمن إذا فعل ذلك من غير حاجة، وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه خالف أمره، فأشبه ما لو نهاه عن حفظه بهذا المكان
(4)
.
جاء في الكافي لابن قدامة: «فإن عين له الحرز، فقال: أحرزها في هذا البيت، فتركها فيما دونه ضمن؛ لأنه لم يرضه، وإن تركها في مثله، أو أحرز منه، فقال القاضي: لا يضمن
…
وظاهر كلام الخرقي أنه يضمن؛ لأنه خالف
(1)
انظر شرح الخرشي (6/ 111)، عقد الجواهر الثمينة لابن شاس (2/ 852).
(2)
انظر حاشية الزرقاني على خليل (6/ 116)، الخرشي (6/ 111).
(3)
المهذب (1/ 359).
(4)
الكافي لابن قدامة (2/ 374 - 375)، المغني (6/ 301).
أمره لغير حاجة، فأشبه ما لو نهاه»
(1)
.
(2)
.
° وجه القول بالضمان:
أن حفظ الوديعة في غير ما عينه له مالكها يعد مخالفة لأمره من غير حاجة، فكان ذلك موجبًا للضمان أشبه ما لو نهاه عن إحرازها بغيره.
ويناقش:
بأن المقصود من الإيداع هو الحفظ، فإذا حفظها بما هو أكثر حفظًا فقد زاد مالكها، وتحقق المقصود من العقد.
الحال الثالثة:
[م-1914] أن يعين له مكان الحرز، فيحفظها في مثله، فهذا له صورتان:
الصورة الأولى:
أن يعين له مكان الحرز، ولا ينهاه عن النقل، فالعلماء مختلفون في الضمان في هذه الحالة على ثلاثة أقوال:
(1)
الكافي لابن قدامة (2/ 374).
(2)
الإنصاف (6/ 318).
القول الأول:
لا يضمن، وهو مذهب الجمهور
(1)
.
جاء في بدائع الصنائع: «ولو قال له: احفظ الوديعة في دارك هذه، فحفظها في دار له أخرى، فإن كانت الداران في الحرز سواء، أو كانت الثانية أحرز، لا تدخل في ضمانه؛ لأن التقييد غير مفيد»
(2)
.
وجاء في مجمع الضمانات: «ولو قال: لا تضعها في الحانوت فوضعها فسرقت ليلا إن لم يكن بيته أحرز من الحانوت أو لم يكن له مكان آخر أحرز منه لا يضمن، وإلا ضمن»
(3)
.
وقال الخرشي في شرحه: «وكذا لا ضمان إذا جعلها ـ يعني الوديعة ـ في مثل ما أمره به»
(4)
.
(5)
.
(1)
بدائع الصنائع (6/ 210)، البناية شرح الهداية (10/ 128)، المدونة (6/ 145)، حاشية الدسوقي (3/ 423)، شرح الرزقاني على خليل (6/ 116)، شرح الخرشي (6/ 111)، المهذب (1/ 359)، الكافي لابن قدامة (2/ 374 - 375)، مطالب أولي النهى (4/ 150)، الإنصاف (6/ 318).
(2)
بدائع الصنائع (6/ 210).
(3)
مجمع الضمانات (ص: 70).
(4)
الخرشي (6/ 111).
(5)
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/ 423).
وجاء في الإنصاف: «وإن أحرزها بمثله، أو فوقه لم يضمن، هذا الصحيح من المذهب، اختاره القاضي وابن عقيل، وجزم به في الوجيز والكافي وغيرهما
…
»
(1)
.
° وجه القول بعدم الضمان:
الوجه الأول:
أن المودع قد رضي الحرز الذي عينه، ومن رضي حرزًا رضي مثله.
الوجه الثاني:
أن تقييد المودع بالحرز المعين يقتضي ما هو مثله، كمن اكترى أرضًا لزرع حنطة فله زرعها، وزرع مثلها في الضرر.
الوجه الثالث:
أن إحرازه في مثل حرزها لا يعد تعديًا، ولا تفريطًا، فيملكه المودع، ولا يضمن.
ويناقش هذا:
بأن إحرازها في مثل حرزها وإن لم يكن تعديًا ولا تفريطًا فإنه يعد مخالفة لأمر مالكها بلا حاجة.
القول الثاني:
يضمن مطلقًا إذا خالف، سواء أحرزها بمثله أو أعلى منه، إلا أن يفعله لحاجة، وهذا قول في مذهب الحنابلة
(2)
.
(1)
الإنصاف (6/ 318).
(2)
الكافي لابن قدامة (2/ 374)، الإنصاف (6/ 318).
° وجه القول بالضمان:
إذا خالف الوديع أمر المودِع من غير حاجة ضمن؛ لأنه لما عين له المالك حرزها فيه تعين عليه الحفظ فيه، ولا تسوغ مخالفته بلا حاجة، وقياسًا على ما لو نهاه المالك عن حفظها بمكان معين فخالف فحفظها فيه، فإنه يضمن إذا تلفت لتعديه.
ويناقش هذا:
بأنه وإن كان مخالفًا لظاهر لفظه إلا أنه موافق لقصده من الإيداع، لأن مقتضى عقد الوديعة ومقصود المودع من الإيداع هو الحفظ، وهو حاصل بحفظها بمثل حرزها المسمى.
القول الثالث:
يضمن إن أحرزها بمثله، ولا يضمن إن أحرزها بأعلى، وهو قول في مذهب الحنفية، وقول في مذهب الحنابلة
(1)
.
جاء في مجمع الضمانات: «فلو عين بيتًا من دار، فحفظ في بيت آخر منها.
قيل: لو أكد بالنهي كقوله: لا تحفظ إلا في هذا البيت ضمن
…
وقيل: لا يضمن، لو أحرز، وسواء أكد أو لا»
(2)
.
° وجه هذا القول:
أن مخالفة المالك لا تسوغ إلا لفائدة أو حاجة، ولا فائدة إلا إذا كان الانتقال إلى مكان أحرز من المكان الذي عينه المالك. والله أعلم.
(1)
الإنصاف (6/ 318)، مجمع الضمانات (ص: 69).
(2)
مجمع الضمانات (ص: 69).
° الراجح:
أن المودع إذا حفظ الوديعة في حرز مثل حرزها المعين أو أحفظ، لا ضمان عليه، إلا أن يكون المالك قد نهاه عن نقلها من المكان الذي عينه؛ لأن المقصود من الإيداع الحفظ، وهو متحقق في حفظها في مثل حرزها، والله أعلم.
الصورة الثانية:
أن يعين له مكان الحرز، وينهاه عن النقل، فإذا خالف وأخرجها، ففي ضمانه خلاف.
القول الأول:
يضمن إن نقلها من غير ضرورة لصريح المخالفة من غير حاجة، فإن دعت الضرورة لنقلها، وترك نقلها ضمن إلا أن يقول له: لا تنقلها ولو حدثت ضرورة، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة، وقول في مذهب الحنفية
(1)
.
جاء في روضة الطالبين: «وإن نهاه فقال: احفظ في هذا البيت ولا تنقلها، فإن نقلها من غير ضرورة، ضمن؛ لصريح المخالفة من غير حاجة، سواء كان المنقول إليه أحرز أو لم يكن ....
وإن نقل لضرورة غارة، أو غرق، أو حريق، أو غلبة لصوص، لم يضمن، وإن كان المنقول إليه حرزا لمثلها. ولا بأس بكونه دون الأول إذا لم يجد أحرز منه. ولو ترك النقل والحالة هذه، ضمن على الأصح؛ لأن الظاهر أنه أراد بالنهي تحصيل الاحتياط.
ولو قال: لا تنقلها وإن حدثت ضرورة، فإن لم ينقلها، لم يضمن على
(1)
روضة الطالبين (6/ 339)، الإنصاف (6/ 319)، مجمع الضمانات (ص: 69).
الصحيح، كما لو قال: أتلف مالي، فأتلفه، لا يضمن، وإن نقل لم يضمن على الأصح؛ لأنه قصد الصيانة»
(1)
.
وجاء في الإنصاف: «وإن نهاه عن إخراجها، فأخرجها لغشيان شيء الغالب فيه التوى لم يضمن. هذا المذهب، وعليه الأصحاب، ولا أعلم فيه خلافًا
…
وإن تركها فتلفت ضمن، هذا المذهب؛ لأنه يلزمه إخراجها والحالة هذه
…
قال في الفروع: لزمه إخراجها في الأصح
…
وقيل: لا يضمن؛ لأنه امتثل أمر ربها .... وإن أخرجها لغير خوف ضمن، هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب. قال في الفروع: ويحرم إخراجها لغير خوف في الأصح
…
وإن قال: لا تخرجها وإن خفت عليها فأخرجها عند الخوف أو تركها لم يضمن»
(2)
.
وجاء في مجمع الضمانات: «لو أكد بالنهي، كقوله: لا تحفظ إلا في هذا البيت ضمن، لا لو لم يؤكد»
(3)
. يعني إذا خالف.
القول الثاني:
لا يضمن إن كان نقلها إلى مثله أو أحرز، ولو لم يكن هناك ضرورة للنقل، وهو اختيار الإصطخري من الشافعية، والقاضي من الحنابلة
(4)
.
جاء في روضة الطالبين: «قال الإصطخري: إن كان أحرز من الأول أو مثله، لم يضمن، والصحيح الأول»
(5)
.
(1)
روضة الطالبين (6/ 339 - 340).
(2)
الإنصاف (6/ 318 - 319).
(3)
مجمع الضمانات (ص: 69).
(4)
روضة الطالبين (6/ 340)، الإنصاف (6/ 319).
(5)
روضة الطالبين (6/ 340).
القول الثالث:
يضمن إذا كان الشرط مفيدًا، والعمل به ممكنًا، ولا يضمن إذا كان الشرط لا يفيد، أو كان مفيدًا إلا أن العمل فيه غير ممكن.
فلو أمره بالحفظ بهذا البيت، ونهاه عن الحفظ في هذا البيت، فخالف لم يضمن؛ لأن الدار واحدة، والحرز واحد، فهذا النهي غير مفيد.
ولو أمره بالحفظ في هذه الدار، ونهاه عن الحفظ في تلك الدار، فخالف ضمن؛ لأن الحرز في الدارين يختلف، فكان الشرط مفيدًا، وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
قال في العناية: «والأصل فيه أن الشرط إذا كان مفيدًا، والعمل به ممكنًا وجب مراعاته، والمخالفة فيه توجب الضمان.
وإذا لم يكن مفيدًا، أو كان، ولم يمكن العمل به
…
يلغو، وعلى هذا إذا نهي عن الدفع إلى امرأته، وله امرأة أخرى أمينة، أو عن الحفظ في الدار، وله أخرى فخالف فهلك ضمن، وإذا نهي عن الحفظ في بيت من دار، فحفظ في غيره، وليس في الذي نهي عنه عورة ظاهرة، أو نهى عن الدفع إلى امرأته، وليس له سواها، أو عن الحفظ في دار ليس له غيرها، فخالف لم يضمن؛ لأن الأول غير مفيد والثاني غير مقدور العمل به»
(2)
.
(1)
قال في الاختيار لتعليل المختار (3/ 28): «ولو قال: احفظها في هذا البيت، فحفظها في بيت آخر في الدار لم يضمن؛ لعدم تفاوتهما في الحرز، إلا أن تكون دارًا كبيرة متباعدة الأطراف، والبيت الذي نهاه عنه عورة، فإنه يضمن؛ لأنه مفيد. قال: ولو خالفه في الدار ضمن; لأن الدور تختلف في الحرز فكان مفيدًا» .
وانظر تبيين الحقائق (5/ 81)، العناية شرح الهداية (8/ 494).
(2)
العناية شرح الهداية (8/ 494 - 495).
وجاء في مجمع الضمانات: «وإذا شرط المودع شرطًا مفيدًا من كل وجه يتقيد به، أكد بالنهي أو لا، فلو قال: احفظها في هذه الدار فحفظها في دار أخرى ضمن؛ لأن الدارين يتفاوتان في الحرز فيتقيد بالشرط ذكره في الهداية، وفي الفصولين.
وقيل: لا يضمن لو أحرز، سواء أكد بالنهي، أو لا.
وقيل: يضمن لو لم يحتج في وضعها دارًا أخرى، لا لو احتاج؛ إذ التعيين يلغو حينئذ، إذ لا يطلب منه حفظ ماله بطريق لا يقدر عليه»
(1)
.
° الراجح:
أنه إن خالفه لحاجة، وكان حفظها في حرز مثلها أو أحرز لم يضمن، والله أعلم.
* * *
(1)
مجمع الضمانات (ص: 69)، وهناك سقط في الكلام صوبته من النسخة التي قام بتحقيقها كل من الأستاذ محمد سراج، وعلي جمعة (1/ 194).