الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
إذا تنازع الوديعة رجلان
[م-1956] إذا كان في يده وديعة فادَّعها رجلان، فقال الوديع: أودعني أحدكما، ولست أدري أيكما هو؟
فاختلف الفقهاء في الحكم في هذه المسألة على النحو التالي:
القول الأول: مذهب الحنفية:
إن اصطلح الرجلان على أن تكون الوديعة بينهما فليس للوديع أن يمتنع عن تسليم الوديعة إليهما، وليس لهما أن يستحلفا الوديع بعد الصلح.
وإن لم يصطلحا، فعلى الوديع أن يحلف لكل واحد منهما أنه ما أودعه هذه الوديعة بعينها؛ لأن كل واحد من الاثنين مدع، ودعواه محتملة للصدق، والوديع منكر، واليمين على المنكر، فإن حلف لهما فلا شيء لهما لعدم الحجة، وانقطاع الخصومة إلى وقت إقامة البينة كما في سائر الأحكام.
وإن نكل لهما قضي بالوديعة بينهما نصفين، وضمن مثلها بينهما؛ لأن كل واحد منهما يدعي أن الوديعة كاملة له، ولأن التجهيل من الوديع موجب للضمان عليه، وقد صار مجهلًا في حق كل واحد منهما، فيصير ضامنًا، ثم بنكوله صار مقرًا لكل واحد منهما أنه أخذ جميعها منه، وإنما رد على كل واحد منهما نصفها، فيصير ضامنا لكل واحد منهما ما بقي من حقه.
وإن نكل لأحدهما وحلف للآخر قضي بالوديعة للذي نكل له، ولا شيء
للذي حلف له؛ لأن النكول حجة من نكل له، لا حجة من حلف له. هذا ملخص مذهب الحنفية
(1)
.
القول الثاني: مذهب المالكية:
في مذهب المالكية قولان:
أحدهما: إذا تنازع الوديعة رجلان، فقال الوديع: لا أدري لمن هي منهما، أنهما يقتسمانها جميعًا بينهما إن حلفا أو نكلا؛ لعدم وجود المرجح بينهما. وتكون للحالف منهما إن نكل أحدهما عن اليمين.
لأن الأمين لا يلزمه رد أكثر من الوديعة، فيقتسمانها بينهما، ولا يغرم أكثر من ذلك.
الثاني: يضمن لكل واحد منهما وديعة كاملة إن حلفا أو نكلا، لأنه بالتجهيل قد ضمن الوديعة، وكل واحد منهما تحتمل دعواه الصدق
(2)
.
جاء في بداية المجتهد: «ويختلف في المذهب في ضمانها بالنسيان
…
أو يدعيها رجلان، فقيل: يحلفان وتقسم بينهما. وقيل: إنه يضمن لكل واحد منهما»
(3)
.
(1)
المبسوط (11/ 131)، بدائع الصنائع (6/ 210)، الهداية شرح البداية (3/ 216)، المحيط البرهاني (5/ 538)، تبيين الحقائق (5/ 82).
(2)
البيان والتحصيل (10/ 450)، بداية المجتهد (2/ 234)، الذخيرة (9/ 152)، التاج والإكليل (5/ 267)، منح الجليل (7/ 47).
(3)
بداية المجتهد (2/ 234).
القول الثالث: مذهب الشافعية:
إذا ادعى رجلان وديعة، فقال المودع: لا أدري لأيكما هو، وقد علمت أنه لأحدكما. فإن لم يدعيا علمه، فلا كلام لهما معه؛ فإنه ليس متعديا باتفاقهما، ونسيانه لا يلحقه بالمتعدين وفاقًا، فإذا لم يكن ضامنًا، ولم يدع عليه علم، انقطعت الطلبة عنه. هذا ما ذكره الأصحاب.
وإن ادعيا عليه العلم طلب منه اليمين أنه لا يدري من المستحق منهما، وتنقطع الطلبة عنه.
وإن نكل عن اليمين رد اليمين على المدعين، فإما أن يحلفا، أو ينكلا جميعًا، أو ينكل أحدهما.
فإن نكلا جميعًا لم يدفع المال إليهما، ولكن يوقف كما يوقف كل مال بين جماعة أشكل مستحقه منهم حتى يقيم أحدهما بينة على ما يدعي.
وإن اصطلاحا وتراضيا فهو إليهما.
واختار بعض الشافعية أنهما إذا لم يحلفا قسمت الوديعة بينهما قهرًا.
وأما إذا حلفا: فقيل: تقسم الوديعة بينهما.
وقيل: إذا تحالفا سقطت يمينهما لتعارضها وتضادها، ويلتحقا بما إذا نكلا
(1)
.
(1)
انظر نهاية المطلب (11/ 428)، وما بعدها، الحاوي الكبير (8/ 382 - 383)، الأم (7/ 116)، أسنى المطالب (3/ 86)، مختصر المزني (ص: 147).
القول الرابع: مذهب الحنابلة:
ذهب الحنابلة إلى أن الوديع إذا قال: هي لأحدكما، ولا أعرف عينه، فإن صدقاه فلا يمين عليه، وعليه التسليم لأحدهما بالقرعة مع يمينه.
وإن كذباه، أو أحدهما، حلف لهما يمينًا واحدة أنه لا يعلم؛ لأنه منكر، فإن نكل قضي عليه بالنكول، وألزم تعيين صاحبها، فإن أبى أجبر على دفع القيمة مع العين فيقترعان عليهما أو يتفقان، هذه طريقة صاحب المحرر وجماعة، وقدمها الحارثي، وقال: في كلام المحرر ما يقتضي الاقتراع على العين، فمن أخذها تعينت القيمة للآخر، قال: وهو أولى؛ لأن كلًا منهما يستحق ما يدعيه في هذه الحالة، أو بدله عند التعذر، والتعذر لا يتحقق بدون الأخذ، فتعين الاقتراع. اهـ فمن خرجت له القرعة حلف أنها له؛ لاحتمال عدمه، وأخذها بمقتضى القرعة، ثم إن قامت بينة بالعين لآخذ القيمة سلمت إليه العين للبينة، وتقديمها على القرعة، وردت القيمة إلى الوديع ولا شيء للقارع على الوديع لأنه لم يفوت عليه شيئًا، بل المفوت البينة
(1)
.
هذه أقوال المذاهب في هذه المسألة، والله أعلم بالصواب.
* * *
(1)
الإنصاف (6/ 347 - 348)، المحرر (2/ 218)، الإقناع (2/ 384)، شرح منتهى الإرادات (2/ 361)، كشاف القناع (4/ 184).