الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
في لقطة مكة
[م-1986] اختلف العلماء في لقطة مكة على قولين:
القول الأول:
حكم لقطة مكة كحكم لقطة سائر البلدان من حيث جواز الالتقاط، والتعريف لمدة سنة، وجواز التملك بعد التعريف، وهذا مذهب الجمهور، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية
(1)
.
جاء في الهداية شرح البداية: «ولقطة الحل والحرم سواء، وقال الشافعي: يجب التعريف في لقطة الحرم إلى أن يجيء صاحبها
…
»
(2)
.
وجاء في التاج والإكليل: «قال عياض: قول مالك وأصحابه أن لقطة مكة كغيرها، وكذلك قال المازري وابن القصار»
(3)
.
(1)
عمدة القارئ شرح صحيح البخاري (2/ 166)، فتح القدير لابن الهمام (6/ 128)، غمز عيون البصائر (4/ 51)، بدائع الصنائع (6/ 202)، حاشية ابن عابدين (4/ 279)، شرح البخاري لابن بطال (6/ 556)، الذخيرة للقرافي (9/ 114)، مواهب الجليل (6/ 74)، شرح الخرشي (7/ 125)، الفواكه الدواني (2/ 173)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/ 172)، فتح الباري (5/ 88)، شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 126)، الحاوي الكبير (8/ 5)، الوسيط (4/ 298)، روضة الطالبين (5/ 412)، نهاية المطلب (8/ 489)، مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (5/ 2316)، المغني (6/ 11)، الروايتان والوجهان (2/ 9)، الإنصاف (6/ 413، 414)،.
(2)
الهداية شرح البداية (2/ 419).
(3)
التاج والإكليل (6/ 74).
وقال الخرشي: «ولا فرق على المشهور بين لقطة مكة وغيرها من الأقطار»
(1)
.
القول الثاني:
أن لقطة الحرم لا يحل أخذها للتملك، وإنما تؤخذ للتعريف أبدًا إلى أن يجيء صاحبها فيدفعها إليه، اختار هذا الباجي وابن رشد وابن العربي من المالكية، وهو أصح الوجهين في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، رجحها ابن تيمية
(2)
.
قال ابن دقيق العيد: «ذهب الشافعي إلى أن لقطة الحرم لا تؤخذ للتملك، وإنما تؤخذ للتعريف لا غير»
(3)
.
وقال النووي: «في لقطة مكة وحرمها وجهان:
الصحيح أنه لا يجوز أخذها للتملك، وإنما تؤخذ للحفظ أبدًا.
والثاني: أنها كلقطة سائر البقاع»
(4)
.
(1)
شرح الخرشي (7/ 125).
(2)
المنتقى للباجي (6/ 138)، المقدمات الممهدات (2/ 477)، القوانين الفقهية (ص: 225)، شرح النووي على صحيح مسلم (9/ 126)، مغني المحتاج (2/ 417)، روضة الطالبين (5/ 412)، أسنى المطالب (2/ 494)، الحاوي الكبير (8/ 5)، الوسيط (4/ 298)، نهاية المطلب (8/ 489)، البيان للعمراني (7/ 516)، المغني (6/ 11)، الإنصاف (6/ 413)، المبدع (5/ 284)، رؤوس المسائل الخلافية (3/ 1084)، الفروع (4/ 568)، الاختيارات (ص: 169).
(3)
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (2/ 64).
(4)
روضة الطالبين (5/ 412).
(1)
.
° دليل من قال: لقطة الحرم كغيرها:
الدليل الأول:
عموم الأحاديث الواردة في اللقطة، كحديث زيد بن خالد في الصحيحين، وحديث أبي بن كعب فيهما، فإنها لم تفرق بين الحل والحرم.
ويناقش:
بأن الأحاديث المطلقة أو العامة تقبل التقييد والتخصيص، وقد ورد دليل خاص في لقطة مكة (لا يحل لقطتها إلا لمنشد) كما سيأتي في أدلة القول الثاني، والخاص والمقيد مقدم على العام والمطلق.
الدليل الثاني:
أن حرم مكة أحد الحرمين، فأشبه حرم المدينة، ولا يختلف الناس في أن لقطة المدينة لا تختلف في الحكم عن سائر البلدان، فكذلك مكة.
ويناقش:
بأن هذا نظر في مقابل النص، فيكون نظرًا فاسدًا على أن هناك قول يقول: لقطة المدينة كلقطة مكة.
(1)
المحلى، مسألة (918).
الدليل الثالث:
ولأن اللقطة أمانة فلم يختلف حكمها في الحل والحرم كالوديعة.
والجواب عنه كالجواب عن الدليل السابق.
° دليل من قال: لقطة الحرم لا تحل إلا لمنشد:
الدليل الأول:
(ح-1208) ما رواه البخاري ومسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال:
حدثني أبو هريرة رضي الله عنه، قال: لما فتح الله على رسوله عليه السلام مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، فإنها لا تحل لأحد كان قبلي، وإنها أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد .... الحديث
(1)
.
الدليل الثاني:
(ح-1209) ما رواه البخاري من طريق خالد، عن عكرمة،
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام قال: حرم الله مكة فلم تحل لأحد قبلي، ولا لأحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف. فقال العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا؟ فقال: إلا الإذخر، ورواه مسلم
(2)
.
(1)
صحيح البخاري (3/ 125)، ومسلم (447 - 1355).
(2)
البخاري (1349)، ومسلم (445 - 1353).
الدليل الثالث:
(ح-1210) ما رواه مسلم من طريق عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب،
عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أن رسول الله عليه السلام نهى عن لقطة الحاج
(1)
.
وجه الاستدلال بهذه الأدلة:
في هذه الأحاديث دليل على أن لقطة الحرم لا تملك بحال، وأنها لا تلتقط إلا للتعريف لا للتمليك، وإلا لم يكن لتخصيص مكة بذلك فائدة أصلًا.
ونوقش هذا:
بأن الحاج لما كان يرجع إلى بلده وقد لا يعود فاحتاج الملتقط بها إلى المبالغة في التعريف، ولأن الغالب أن لقطة مكة ييئس ملتقطها من صاحبها، وييئس صاحبها من وجدانها؛ لتفرق الخلق إلى الآفاق البعيدة فربما داخل الملتقط الطمع في تملكها من أول وهلة فلا يعرفها، فنهى الشارع عن ذلك، وأمر أن لا يأخذها إلا من يقوم بتعريفها.
ولأن الحديث نفى الحل واستثنى المنشد فدل على أن الحل ثابت للمنشد؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، ويلزم على هذا أن مكة وغيرها سواء
(2)
.
ورد هذا النقاش:
بأن لقطة مكة لو كان حكمها حكم غيرها؛ ما كان لقوله: (لا تحل لقطتها إلا
(1)
صحيح مسلم (11 - 1724).
(2)
انظر فتح الباري (5/ 88).
لمنشد) معنى تختص به مكة كما تختص بسائر ما ذكر في هذا الحديث؛ لأن لقطة غيرها كذلك يحل لمنشدها بعد الحول الانتفاع بها، فدل مساق هذا الحديث كله على تخصيص مكة ومخالفة لقطتها لغيرها من البلدان، كما خالفتها في كل ما ذكر في الحديث من أنها حرام لا تحل لأحد ساعة من نهار بعد النبي عليه السلام، وأنه لا ينفر صيدها، ولا يختلي خلاها وغير ذلك مما خصت به من أنه لم يستبح دماءهم ولا أموالهم
(1)
.
الدليل الرابع:
خصت مكة بهذا الحكم من بين سائر الآفاق أن الناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة، فلا يتمكن صاحب الضالة من طلبها والسؤال عنها، بخلاف غيرها من البلاد، قاله ابن تيمية
(2)
.
ولعل التخصيص لهذا ولمعان أخرى، فإن لقطة المدينة كغيرها، مع أن المعنى الموجود في مكة موجود في المدينة، وكذا يقال في اللقطة في عرفة فإن الصحيح أن اللقطة فيها كغيرها من الأماكن، والناس يتفرقون عنها إلى الأقطار المختلفة كتفرقهم عن مكة، وقد خصت في الحديث بأحكام أخرى تحريم الصيد والاحتشاش ونحو ذلك لشرفها وفضلها، والله أعلم.
القول الثالث:
ذهب جرير الرازي وإسحاق بن راهوية بأنه لا يحل أخذها للتعريف، ولو كان
(1)
انظر شرح البخاري لابن بطال (6/ 557).
(2)
انظر زاد المعاد (3/ 398).
مؤبدًا، بل لا يحل أخذها إلا إذا كان قد سمع صاحبها ينشدها قبل ذلك، فيرفعها ليردها، لا ليعرفها
(1)
.
وهذا قول ثالث في المسألة؛ لأنه أضيق من مذهب الشافعي، ومن وافقه، وإن كان يتفق معه في كون لقطة الحرم لا تملك
(2)
.
وقال ابن الملقن في شرحه للبخاري: «وفيها قول ثالث، قاله جرير بن عبد الحميد، قوله: (إلا لمنشد) يعني إلا من سمع ناشدًا يقول: من أصاب كذا فحينئذ يجوز للملتقط أن يرفعها إذا رآها لكي يردها على صاحبها. ومال إسحاق بن راهوية إلى هذا القول، وقاله النضر بن شميل»
(3)
.
° وحجة هذا القول:
(ح-1211) ما رواه الطحاوي من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد،
عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه:(ولا يرفع لقطتها إلا لمنشديها)
(4)
.
[ضعيف]
(5)
.
(1)
جاء في مسائل أحمد وإسحاق رواية الكوسج (5/ 2317): «قال إسحاق: قال جرير الرازي: معنى قوله عليه السلام: لا تحل لقطتها إلا لمنشد، يقول: إلا الرجل سمع صاحبها ينشدها قبل ذلك، فحينئذ له أخذها، وهذا الذي أختاره.
(2)
قال الحافظ في الفتح (5/ 88): «قال إسحاق بن راهويه: قوله: (إلا لمنشد): أي لمن سمع ناشدًا يقول: من رأى لي كذا فيحنئذ يجوز لواجد اللقطة أن يعرفها ليردها على صاحبها، وهو أضيق من قول الجمهور؛ لأنه قيده بحالة للمعرف دون حالة» .
(3)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (15/ 540).
(4)
شرح معاني الآثار (4/ 140).
(5)
فيه يزيد بن أبي زياد، وقد تغير بآخرة، قال ابن حجر: ضعيف، كبر، فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعيًا.
ويرد تفسير الإمام إسحاق رحمه الله ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس بلفظ: (ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرف) وسبق تخريجه.
وقد جاء في البدر المنير: «في المنشد قولان:
أحدهما: قول أبي عبيد أنه صاحبها الطالب، والناشد هو الواجد، أي لا يحل أن يعطيها أحدًا إلا مالكها.
والثاني: قول الشافعي: إن المنشد الواجد، والناشد المالك، أي ولا تحل إلا لمعرف يعرفها ولا يتملكها»
(1)
.
القول الرابع:
أن لقطة مكة لا تحل إلا لربها الذي يطلبها، قال أبو عبيد: وهو جيد في المعنى، ولكن لا يجوز في العربية أن يقال للطالب: منشد، وإنما المنشد المعرف، والطالب هو الناشد، يدل على ذلك أنه عليه السلام سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد، فقال: أيها الناشد غير الواجد»
(2)
.
° الراجح:
أرى أن مذهب الشافعية هو الراجح، وأن لقطة الحرم لها خصوصية ليست كغيرها، وأنها لا تلتقط للتملك، وإنما للتعريف خاصة؛ لأن الحديث كله في سياق ما خص الله سبحانه وتعالى مكة عن غيرها من البلاد، والله أعلم.
* * *
(1)
البد المنير (7/ 167).
(2)
انظر التوضيح لشرح الجامع الصحيح (15/ 540).