الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
في تأجير الوديعة
الوديع لا يملك ولاية التصرف في الوديعة.
[م-1948] إذا قام الوديع بتأجير الوديعة، فإن كان بإذن صاحبها فذلك جائز، ويكون الوديع وكيلًا عن صاحبها، نائبًا عنه في ذلك
(1)
.
جاء في مجلة الأحكام العدلية: «
…
للمستودع أن يستعمل الوديعة بإذن صاحبها فله أيضا أن يؤجرها ويعيرها ويرهنها»
(2)
.
[م-1949] وإن قام بذلك بدون إذن صاحبها، فهل يملك ذلك، ولمن تكون الأجرة؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول:
ليس للوديع أن يؤجر العين المستأجرة، وإذا فعل ذلك ضمن، وهذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.
وإذا تلفت العين المودعة، فقال الحنفية المالك بالخيار إن شاء ضمن الوديع، وإن شاء ضمن المستأجر، وأما الأجرة فهي للوديع في مقابل الضمان
(3)
.
(1)
مجلة الأحكام العدلية، مادة (792)، الحاوي الكبير (8/ 384).
(2)
مجلة الأحكام العدلية، مادة (792).
(3)
النتف في الفتاوى (2/ 578)، مجمع الضمانات (ص: 69)، الفتاوى الهندية (4/ 338)، المبسوط (11/ 126)، مجمع الأنهر (2/ 348)، البحر الرائق (7/ 275)، مرشد الحيران، مادة (822).
(1)
.
وجاء في مجمع الضمانات: «الوديعة لا تودع، ولا تعار، ولا تؤجر، ولا ترهن، فإن فعل شيئًا منها ضمن»
(2)
.
وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعية والحنابلة حيث جعلوا حكم الوديع إذا أجر الوديعة بدون إذن صاحبها أنه في حكم الغاصب
(3)
.
وجاء في مجلة الأحكام الحنبلية: «ليس للوديع تأجير الوديعة ولا إعارتها ولا قرضها ولا الانتفاع بها إلا بإذن المالك فإن فعل ذلك كان متعديا ضامنًا»
(4)
.
القول الثاني:
ذهب المالكية إلى أن المالك مخير بين أن يسترد العين المستأجرة، ويأخذ أجرتها، وعليه نفقتها، وبين أن يتركها للوديع، ويضمنه قيمتها يوم كرائه؛ لأنه يوم التعدي، ولا شيء له من أجرتها. وهذا هو المشهور من مذهب المالكية.
(1)
المبسوط (11/ 126).
(2)
مجمع الضمانات (ص: 69)، وانظر الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 234).
(3)
المغني (5/ 158)، مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية، مادة (1413، 1415).
(4)
مجلة الأحكام الشرعية، مادة (1358).
واختار بعض المالكية أن الوديعة إن كانت للقنية فليس لربها إلا كراؤها، وإن كانت للتجارة فيخير ربها بين أخذ الأجرة وبين الضمان
(1)
.
° وجه التخيير بين الأجرة وبين الضمان:
هذه صورة من الصور التي لا يجوز الجمع فيها بين الأجرة والضمان، وقد صاغ بعض الفقهاء قاعدة فقهية قالوا فيها: الأجرة والضمان لا يجتمعان.
والقول بأنهما لا يجتمعان في هذه الصورة:
أن الضمان مرتبط بالاعتداء، والأجرة تستحق بالعقد.
فإن أخذ المالك الأجرة فإن هذا يعني إجازة العقد، وإذا أجيز العقد فلا معنى لوجوب الضمان.
وأما إذا اختار المالك الضمان فإن هذا يعني عدم إجازة عقد الإجارة، وعليه فلا يصح للمالك الجمع بين أخذ الأجرة وبين الضمان، والله أعلم.
° الراجح:
أرى أن قول الجمهور أقوى، والله أعلم.
* * *
(1)
المدونة (6/ 157)، شرح الزرقاني على خليل (6/ 121)، التهذيب في اختصار المدونة (4/ 302 - 303)، الخرشي (6/ 114)، الشرح الكبير للدردير (3/ 427)، منح الجليل (7/ 27)، حاشية الدسوقي (3/ 427).
ومثله عند المالكية ما إذا اكترى رجل دابة، فجاوز المسافة المتفق عليها، فمالك الدابة مخير بين أخذ الكراء الزائد مضموماً إلى الكراء الأول، وبين أخذ الكراء الأول فقط، وتضمين قيمة الدابة دون أخذ كراء المسافة التي تعدى فيها، ولا يحق للمالك أن يجمع بين كراء المسافة الزائدة وقيمة الدابة. انظر
المبحث الخامس
في السفر بالوديعة
[م-1950] إذا كان عند الرجل وديعة، فأراد سفرًا، فإن أذن له صاحبها بالسفر بها فلا خلاف في جوازه، ولا يعتبر متعديًا.
وكذا إذا نهاه المالك عن السفر بالوديعة صراحة، فليس له السفر بها.
وقد اعتبر جمهور الفقهاء أن إيداع المسافر حال سفره إذن ضمني له أن يسافر بها؛ لأن علم المالك بحاله رضا ضمني بجواز السفر بها
(1)
.
أما إذا لم ينهه مالكها عن السفر، ولم يأذن له فيه، فهل يعتبر السفر بالوديعة تعديًا يوجب الضمان؟
اختلف الفقهاء في ذلك على أقوال خمسة:
القول الأول:
ذهب الحنفية، والشافعية في أحد القولين أن للمستودع السفر بالوديعة ولا ضمان عليه بذلك ما لم ينهه صاحبها عن السفر بها، أو يعين له مكان حفظها، أو يكن الطريق مخوفًا وإلا كان ضامنا بسفره بها فيما عدا حالة الضرورة
(2)
.
جاء في مرشد الحيران: «يجوز للمستودع السفر بالوديعة برًا وإن كان لها
(1)
نهاية المطلب (11/ 381).
(2)
بدائع الصنائع (6/ 209)، فتح القدير لابن الهمام (8/ 490)، المبسوط (11/ 122)، الهداية (3/ 217)، الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة (ص: 123)، البناية شرح الهداية (10/ 121)، روضة الطالبين (6/ 328).
حمل ما لم ينهه صاحبها عن السفر بها، أو يعين مكان حفظها نصًا، أو يكن الطريق مخوفًا»
(1)
.
° وجه قول الحنفية:
الوجه الأول:
أن الأمر بالحفظ صدر مطلقًا فلا يتقيد بالمكان كما لا يتقيد بالزمان إلا بدليل، والمفازة محل للحفظ إذا كان الطريق آمنًا.
ونوقش:
بأن المطلق ينصرف إلى المتعارف، وهو الحفظ في الأمصار عادة.
الوجه الثاني:
قياس الوديع على الأب والوصي، فإذا كان الأب والوصي يملك السفر في مال الصغير مع أن تصرفهما مقيد بالأصلح، لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152].
فلولا أنه من الأحسن لما جاز ذلك لهما، فإذا جاز لهما جاز للوديع قياسًا عليهما، لأن يد الجميع يد أمانة، والله أعلم.
ويناقش:
بأن هناك خلافًا في حق الأب والوصي في السفر بمال الصغير، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك فرقًا بين الأب والوصي وبين الوديع، ذلك أن
(1)
مرشد الحيران، مادة (823).
الأب والوصي يملكان الاتجار بمال الصغير، ولا يملك ذلك الوديع، ومن لوازم الاتجار السفر بالمال طلبًا للربح، والله أعلم.
القول الثاني:
يملك الوديع أن يسافر بالوديعة إلا أن يكون لها حمل ومؤونة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية
(1)
.
° وجه قولهما:
أن السفر بالوديعة إذا كان لحملها مؤونة فيه ضرر بالمالك لجواز أن يموت الوديع في السفر، فيحتاج المالك لاسترداد وديعته إلى النفقة، وقد لا يمكنه ذلك بخلاف ما إذا كانت الوديعة لا حمل لها ولا مؤونة، والله أعلم.
القول الثالث:
ذهب المالكية إلى أن سفر الوديع بالوديعة من غير عذر تعد موجب للضمان، فإن هلكت ضمن، وإن رجع بها سالمة في ذاتها، وصفتها، وسوقها، ثم تلفت لم يضمن
(2)
.
جاء في المدونة: «قلت: فلو أن رجلا استودعني وديعة فحضر مسيري إلى بعض البلدان فخفت عليها فحملتها معي فضاعت أأضمن في قول
(1)
بدائع الصنائع (6/ 209)، الهداية شرح البداية (3/ 217).
(2)
المدونة (6/ 145)، عقد الجواهر الثمينة لابن شاس (2/ 850)، الكافي لابن عبد البر (ص: 403)، شرح الخرشي (6/ 109)، التاج والإكليل (5/ 254)، الشرح الكبير (3/ 421)، منح الجليل (7/ 9).
مالك؟ قال: نعم. قلت وكيف أصنع بها؟ قال: تستودعها في قول مالك ولا تعرضها للتلف»
(1)
.
وقال ابن شاس: «لو سافر بها مع القدرة على إيداعها عند أمين لضمن، فإن سافر بها عند العجز عن ذلك كما لو كان في قرية مثلًا لم يضمن»
(2)
.
° دليل من قال: إن سافر بها ضمن:
(ح-1186) روى الشيخان من طريق مالك، عن سمي، عن أبي صالح،
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام، قال: السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته، فليعجل إلى أهله
(3)
.
فإذا كان يمنع كمال الطعام والشراب والنوم وهي أركان الحياة مع ما فيه من المشقة والتعب، ومقاساة الحر والبرد والخوف، وخشونة العيش، وكل هذه الأمور تؤثر على قدرة الوديع في حفظ الوديعة، ويتعرض فيها للخطر، ومنه السرقة، لهذا كان السفر بها من غير ضرورة، ولا إذن من المالك تعريض للوديعة لخطر الضياع والسرقة، فيوجب ذلك ضمانها إذا تلفت.
القول الرابع:
ذهب الشافعية إلى أن الوديع إذا سافر بالوديعة مع القدرة على ردها لمالكها أو وكيله، أو إلى الحاكم إن لم يقدر عليهما، أو إلى أمين، إن لم يقدر على
(1)
المدونة (6/ 145).
(2)
عقد الجواهر الثمينة (2/ 850).
(3)
صحيح البخاري (1804)، وصحيح مسلم (1927).
الحاكم فإنه يضمنها
(1)
.
فإن قدر الوديع على صاحبها أو وكيله ردها إليه، أو أخذ الإذن منه بالسفر بها وبرئ من الضمان.
فإن لم يقدر على أحد منهما، وقدر على الحاكم قام الحاكم مقام الغائب؛ لأن له ولاية النظر في أموال الغائبين.
فإذا لم يقدر على الحاكم، وقدر على الإيداع عند رجل أمين فإن هذا عذر يسمح له بإيداع الوديعة لأجنبي؛ لأنه لما تعذر رد الوديعة إلى صاحبها لأنه لا يعلم مكان وجوده، ولا يمكننا منعه من السفر؛ لأن هذا حجر عليه، وهو متبرع بالحفظ، ولا يمكنه السفر بها؛ لأن في السفر بها تعريضًا لها للهلاك، ولم يأذن له مالكها، فلم يبق له إلا إيداعها لثقة على الوجه الذي يحفظ به ماله لو أراد إيداعه، فلا يصير ضامنًا بالدفع إلى غيره في هذه الحالة، والله أعلم.
واستدل الشافعية على جواز إيداعها لأجنبي:
(ح-1187) بما رواه البيهقي من طريق محمد بن إسحاق قال: أخبرني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال:
حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله عليه السلام، فذكر الحديث في خروج النبي عليه السلام، قال فيه: فخرج رسول الله عليه السلام وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه
(1)
مغني المحتاج (3/ 83)، أسنى المطالب (3/ 77)، روضة الطالبين (6/ 328)، الحاوي الكبير (8/ 357)، نهاية المطلب (11/ 381)، شرح البهجة (4/ 53)، نهاية المحتاج (6/ 116)، الوسيط (4/ 501).
ثلاث ليال وأيامها؛ حتى أدى عن رسول الله عليه السلام الودائع التي كانت عنده للناس، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله عليه السلام.
[قال الحافظ: إسناده قوي]
(1)
.
وقد يقال: إن علي وكيل عن النبي عليه السلام، ويد الوكيل كيد الموكل.
القول الخامس:
ذهب الحنابلة إلى أنه لا ضمان على الوديع إن سافر بها مع حضور مالكها إذا لم يخف عليها من السفر، أو كان السفر أحفظ لها من إبقائها ولم ينهه صاحبها عنه، وإلا اعتبر متعديًا ضامنًا ما لم يكن له عذر بذلك، أو اضطرار.
وقول الحنابلة قريب من قول الحنفية، وقد سبق ذكره، فأغنى ذلك عن إعادته، ولله الحمد.
° الراجح:
لا شك أن السفر في هذا العصر يختلف عن السفر في العصور السابقة، فالسفر في الطائرة، والسيارة لا يشبه السفر بالجمال وعن طريق الصحراء، وإذا كان كذلك فإن السفر بالوديعة اليوم أكثر أمنًا من السفر فيها في العصور السابقة، ومع ذلك إذا كان البلد المسافر إليها لا يتوفر فيها الأمن، ويكثر فيها السرقات كان الوديع ممنوعًا من السفر بالوديعة، فله أن يودعها عند القاضي، أو يودعها عند ثقة، ولا يعتبر ذلك تعديًا، والله أعلم.
* * *
(1)
سبق تخريجه.