الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
إذا جحد الوديعة معاملة بالمثل
[م-1957] إذا جحد الوديع الوديعة، ثم أودع عند المالك وديعة، فهل يجوز أن يجحد منها مقدار حقه؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال، منها:
القول الأول:
يجوز إن كانت الوديعة من جنس حقه، فإن كانت الوديعة من غير جنس حقه لم يكن له أن يأخذ حقه منها، وهذا مذهب الحنفية، وبه قال الثوري
(1)
.
° حجة الحنفية في المنع إن اختلف الجنس:
الأخذ من جنس الحق يعتبر استيفاء، ولصاحب الحق أن ينفرد بالاستيفاء، وأما الأخذ من غير الجنس فهو من باب المعاوضة كالبيع، وهذا لا يصح أن ينفرد به أحد المتعاوضين، بل لا بد من رضا المتبادلين، لقوله تعالى:{إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29].
القول الثاني:
لا يجوز استيفاء حقه من الوديعة مطلقًا، سواء أكانت من جنس حقه أم من
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 359)، المبسوط (11/ 124، 128)، البحر الرائق (7/ 192، 193)، تبيين الحقائق (4/ 182)، مجمع الضمانات (ص: 459)، قرة عين الأخيار (8/ 14)، وانظر قول الإمام الثوري في شرح السنة للبغوي (8/ 205 - 206).
غير جنسه، وهذا القول هو رواية ابن القاسم عن مالك، والمشهور من مذهب الحنابلة
(1)
.
واشترط الشافعية في أحد الوجهين: ألا تكون له بينة، فإن كانت له بينة لم يجز له أخذه؛ لأنه يمكنه أخذه عن طريق القاضي
(2)
.
° دليل من قال: لا تجوز:
(ح-1190) روى الإمام أحمد من طريق حميد، عن رجل من أهل مكة، يقال له: يوسف، قال: كنت أنا ورجل من قريش نلي مال أيتام، قال: وكان رجل قد ذهب مني بألف درهم، قال: فوقعت له في يدي ألف درهم، قال: فقلت للقرشي إنه قد ذهب لي بألف درهم، وقد أصبت له ألف درهم، قال: فقال القرشي:
حدثني أبي، أنه سمع رسول الله عليه السلام يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك.
[هذا إسناده ضعيف لإبهام ابن الصحابي الذي روى عنه يوسف وله شواهد ضعيفة، قال أحمد: لا أعرفه عن النبي عليه السلام من وجه صحيح]
(3)
.
(1)
التمهيد لابن عبد البر (20/ 159 ـ 160)، شرح البخاري لابن بطال (6/ 584)، الفروق (4/ 77)، شرح الخرشي (6/ 118)، التاج والإكليل (5/ 265)، الشرح الكبير (3/ 431)، البيان والتحصيل (3/ 242)، مسائل أحمد رواية أبي الفضل (671)، الكافي (4/ 510)، المبدع (10/ 97)، المغني (10/ 276)، شرح منتهى الإرادات (3/ 536 - 537).
(2)
(3/ 242)، المهذب (2/ 317).
(3)
سبق تخريجه.
ويناقش:
بأن الحجة في القدر المرفوع من الحديث، وليست الحجة في فهم أحد رواته، فالحديث ينهى عن مقابلة الخيانة بمثلها، وأخذ حقك ممن ظلمك لا يعتبر خيانة منك له، بل يعتبر إبراء لذمته من المطالبة به يوم القيامة.
قال تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41].
وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل:126].
القول الثالث:
يجوز له أن يأخذ من الوديعة بقدر حقه، من غير فرق بين جنس ماله وغيره، وهذا هو المشهور من مذهب المالكية.
وقالت الشافعية: إن قدر على الجنس فلا يأخذ من غيره، فإن لم يجد إلا غير الجنس جاز الأخذ منه، وهو ورواية عن أحمد
(1)
.
قال الدردير: «المذهب أن له الأخذ منها بقدر حقه إن أمن العقوبة، والرذيلة وربها ملد، أو منكر، أو ظالم
…
ولا فرق بين أخذ العين، والمثل، والقيمة على المذهب»
(2)
.
(1)
التاج والإكليل (5/ 265)، الشرح الكبير (3/ 431)، المقدمات الممهدات (2/ 458)، الحاوي الكبير (17/ 412)، مغني المحتاج (4/ 462)، المهذب (2/ 317)، أسنى المطالب (4/ 387)، نهاية المحتاج (8/ 334)، المبدع (10/ 98)، روضة الطالبين (12/ 3)، تحفة المحتاج (10/ 288)، الكافي (4/ 510)، المغني (10/ 275).
(2)
الشرح الكبير (3/ 431).
° حجة القائلين بجواز الأخذ:
الدليل الأول:
من القرآن الكريم، قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} [البقرة: 194].
الدليل الثاني:
(ح-1191) ما رواه البخاري من طريق هشام، قال: أخبرني أبي،
عن عائشة، أن هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: خذي ما يكفيك وولدك، بالمعروف
(1)
.
القول الرابع:
يجوز للوديع أن يأخذ بقدر حقه من وديعته بشرط ألا يكون عليه دين لغيره، فإن كان عليه دين فإنه يحاصصه، وهذا رواية ابن وهب عن مالك
(2)
.
° وجه هذا القول:
أنه إذا كان عليه دين آخر فإنما يتحاصان في ماله إذا أفلس، فلا يصح أن ينفرد بالأخذ عنه بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين آخر.
ويناقش:
بأن هذا في حق المفلس، ولكن هذا ليس مفلسًا بل مماطلًا فلا يصح القياس عليه.
(1)
البخاري (5364)، صحيح مسلم (1714).
(2)
التاج والإكليل (5/ 265).
القول الخامس:
أن هذا فرض عليه، وهو اختيار ابن حزم.
قال في المحلى: «كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه وإنصاف المظلوم منه»
(1)
.
° حجة ابن حزم على القول بالوجوب:
الدليل الأول:
احتج ابن حزم بجملة من الآيات القرآنية بعضها فيها الأمر بالمعاقبة بالمثل، والأصل في الأمر الوجوب.
وبعضها فيها الإذن بالمجازاة بالمثل، من ذلك:
قول الله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126].
وقوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 41، 42].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
وقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194].
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى} [البقرة: 194].
(1)
المحلى، (6/ 491).
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: 227].
الدليل الثاني:
واحتج من السنة بحديث عائشة في قصة هند مع أبي سفيان، وقوله عليه السلام لها: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف
(1)
.
(ح-1192) وبما رواه مسلم من طريق ليث، عن بكير، عن عياض بن عبد الله،
عن أبي سعيد الخدري، قال: أصيب رجل في عهد رسول الله عليه السلام في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله عليه السلام: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله عليه السلام لغرمائه: خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك
(2)
.
قال ابن حزم: وهذا إطلاق منه عليه السلام لصاحب الحق على ما وجد للذي له عليه الحق.
وأما قولنا: إن لم يفعل فهو عاص لله تعالى، فلقول الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو، أو مسلم، أو ذمي، فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين، لم يعن على البر والتقوى بل أعان على الإثم والعدوان، هذا أمر يعلم ضرورة.
(1)
البخاري (5364)، صحيح مسلم (1714).
(2)
صحيح مسلم (1556).
وكذلك أمر رسول الله عليه السلام: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع
(1)
.
فمن قدر على كف الظلم وقطعه، وإعطاء كل ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر فلم يفعل فقد عصى الله عز وجل، وخالف أمر رسول الله عليه السلام إلا أن يحلله من حق نفسه فقد أحسن بلا خلاف، والدلائل على هذا تكثر جدًا.
القول السادس:
يستحب له أخذ حقه من وديعته، وهذا قول ابن الماجشون من المالكية
(2)
.
القول السابع:
يجوز له الأخذ إن كان سبب الحق ظاهرًا لا يحتاج إلى إثبات، مثل استحقاق النفقة بسبب النكاح أو القرابة، وحق الضيف، ونحو ذلك، أما إذا كان سبب الاستحقاق خفيًا يتطلب إثباتًا، وينسب الآخر إلى خيانة أمانته بحيث يتهم بالأخذ، وينسب في الظاهر إلى الخيانة لم يكن له الأخذ، وهذا اختيار ابن تيمية وابن القيم من الحنابلة
(3)
.
° حجة هذا القول:
الدليل الأول:
(ح-1193) ما رواه البخاري من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير،
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه قال: قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا، فننزل بقوم
(1)
حديث من رأى منكم منكرًا رواه مسلم في صحيحه (49).
(2)
المقدمات الممهدات (2/ 458).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (30/ 371)، زاد المعاد (5/ 449)، إغاثة اللهفان (2/ 75).
فلا يقروننا، فما ترى؟ فقال لنا رسول الله عليه السلام: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم
(1)
.
الدليل الثاني:
أذن النبي عليه السلام لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي ولدها بالمعروف. وسبق تخريج الحديث.
ولأنه يشق على الزوجة أن ترفع الأمر إلى الحاكم، فيلزمه بالإنفاق أو الفراق، وفي ذلك مضرة عليها مع تمكنها من أخذ حقها.
ولأن حقها يتجدد كل يوم فليس هو حقًا واحدًا مستقرًا يمكن أن تستدين عليه، أو ترفعه إلى الحاكم بخلاف حق الدين
(2)
.
فهذه الأحاديث كلها دليل على أن الحق إذا كان سببه ظاهرًا كالنكاح والقرابة، وحق الضيف جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، وإن كان سبب الحق خفيًا، بحيث يتهم بالأخذ، وينسب إلى الخيانة ظاهراً، لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة، وإن كان في الباطن آخذًا حقه كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه، وإن ادَّعى أنه محق غير متهم.
قال ابن القيم: «وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها، وبه تجتمع الأحاديث»
(3)
.
* * *
(1)
صحيح البخاري (6137)، صحيح مسلم (1727).
(2)
انظر زاد المعاد (5/ 449 - 450).
(3)
إغاثة اللهفان (2/ 77).