الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
في إيداع المال لدى الصبي المميز
الإيداع استنابة في الحفظ فاقتضى البلوغ والرشد.
من لم يباشر حفظ ماله لم يصح أن يباشر حفظ مال غيره.
كل من ضمن الوديعة بالإتلاف ضمنها بالتفريط إلا الصبي المميز فإنه يضمنها بالإتلاف ولا يضمنها بالتفريط.
هل الإذن للصبي بالتجارة إذن في توابعها، ومنها الإيداع؟
[م-1901] إذا أودع الرجل ماله صبيًا مميزًا هل تصح الوديعة؟
اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
يصح أن يودع الرجل ماله عند صبي مميز بشرط أن يكون مأذونًا له في التجارة، أو يكون الولي قد أذن له في قبول الوديعة، فإن كان لم يؤذن له فلا يصح قبول الوديعة منه؛ لأنه محجور عليه، وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
جاء في بدائع الصنائع: «يصح قبول الوديعة من الصبي المأذون؛ لأنه من أهل الحفظ، ألا ترى أنه أذن له الولي، ولو لم يكن من أهل الحفظ لكان الإذن له سفهًا»
(2)
.
(1)
بدائع الصنائع (6/ 207)، حاشية ابن عابدين (8/ 333)، الفتاوى الهندية (4/ 345)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 264).
(2)
بدائع الصنائع (6/ 207).
هذا في صحة الوديعة، أما في ضمان الوديعة:
فإن قبل الصبي المحجور عليه الوديعة، فتلفت لم يضمنها، وإن استهلكها، فإن كانت عبدًا أو أمة ضمن بالاتفاق.
° وجه القول بالضمان:
أن هذا الضمان ليس من قبيل ضمان المال، وإنما هو من قبيل ضمان الدم، فالقتل يوجب الضمان مطلقًا.
وإن كانت الوديعة ليست آدميًا فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن.
° وجه القول بعدم الضمان:
أن إيداع الصبي المحجور عليه إهلاك للمال معنى، فلما وضع المال في يد المحجور عليه فقد وضعه في يد من لا يحفظه عادة، ولا يجب عليه الحفظ شرعًا؛ ولو كان من أهل حفظ المال لدفع إليه ماله، قال تعالى:{فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
وقال أبو يوسف يجب عليه الضمان:
° وجه قول أبي يوسف:
كون الوديعة لا تصح للصبي المحجور عليه يجعلها كأن لم تكن، فصار الحال بعد الوديعة كالحال قبل الوديعة، واستهلاك الوديعة قبل الإيداع يوجب الضمان فكذلك بعد الإيداع.
وإن كان الصبي مأذونًا له، سواء كان إذنًا عامًا كما لو أذن له في التجارة،
أو كان إذنًا خاصًا كما لو أذن الولي له في قبول الوديعة، فإن تلفت الوديعة في يده لم يضمن؛ لأنها أمانة في يده.
وإن استهلك الوديعة فإنه يجب عليه الضمان؛ لأن الصبي المأذون له يحفظ المال عادة، ألا ترى أنه دفع إليه ماله، ولو لم يوجد منه الحفظ عادة لكان الدفع إليه سفهًا
(1)
.
جاء في حاشية ابن عابدين: «أودع صبيًا وديعة فهلكت منه لا ضمان عليه بالإجماع
(2)
. فإن استهلكها: إن كان مأذونا في التجارة ضمنها إجماعًا، وإن كان محجورًا عليه إن قبضها بإذن وليه ضمن أيضًا إجماعًا، وإن قبضها بغير إذن وليه لا ضمان عليه عندهما لا في الحال، ولا بعد الإدراك، وقال أبو يوسف يضمن في الحال»
(3)
.
القول الثاني:
يصح الإيداع لدى الصبي المميز، وبه قال ابن رشد من المالكية، وحكى عليه الاتفاق.
(1)
انظر بدائع الصنائع (6/ 207).
(2)
يقصد بالإجماع إجماع الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وليس الإجماع الاصطلاحي عند أهل الأصول والذي هو حجة شرعية.
(3)
حاشية ابن عابدين (8/ 333)، وانظر الفتاوى الهندية (4/ 345)، الجوهرة النيرة (1/ 347).
أما قول الحنفية كما في الدر المختار (5/ 663) وغيره: «وكون المودع مكلفًا شرط لوجوب الحفظ عليه، فلو أودع صبيًا فاستهلكها لم يضمن، ولو عبدًا محجورًا ضمن بعد عتقه» . فالمقصود بالصبي هنا هو المحجور عليه فرقًا بينه وبين المأذون له، فإن المأذون له لو استهلك الوديعة ضمن، كما تقدم النقل في ذلك، والله أعلم.
جاء في حاشية الدسوقي: «كل من جاز له أن يوكل
…
جاز له أن يودع، ومن جاز له أن يتوكل جاز له أن يقبل الوديعة، والذي يجوز له أن يتوكل: هو المميز على ما قاله ابن رشد، وحكى عليه الاتفاق، وخالفه اللخمي وقال لا بد أن يكون بالغًا رشيدًا ووافقه القرافي وابن الحاجب وابن عبد السلام والمصنف في التوضيح قال ابن عرفة وعليه عمل أهل بلدنا»
(1)
.
القول الثالث:
لا يصح الإيداع، وإن أذن له وليه وبه قال أكثر المالكية، والأظهر في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة
(2)
.
(3)
.
وقال إمام الحرمين: «الصبي ليس من أهل أن يؤتمن، ويده لا تصلح لحفظ الودائع»
(4)
.
(1)
حاشية الدسوقي (3/ 419).
(2)
الشرح الكبير (3/ 419)، منح الجليل (6/ 93)، عقد الجواهر الثمينة (2/ 850)، حاشية الدسوقي (3/ 296)، الذخيرة للقرافي (9/ 140، 141)، البيان للعمراني (6/ 474)، نهاية المطلب (11/ 438)، الوسيط (4/ 497)، روضة الطالبين (6/ 325)، المهذب (1/ 359)، تحفة المحتاج (7/ 104)، المغني (6/ 311)، الإنصاف (6/ 335)، الشرح الكبير على المقنع (7/ 312)، كشاف القناع (4/ 178)، مطالب أولي النهى (4/ 148)، المبدع (5/ 92)، تصحيح الفروع (4/ 311).
(3)
الوسيط (4/ 497).
(4)
نهاية المطلب (11/ 438).
وإذا أودع فأتلف الصبي فلا ضمان عليه عند أكثر المالكية، والصحيح من مذهب الحنابلة.
واستثنى المالكية من عدم الضمان ما لو صرفه الصبي أو السفيه فيما لابد لهما منه، ولهما مال فيرجع عليهما بالأقل مما أتلفاه أو مما صونا من مالهما
(1)
.
قال ابن شاس المالكي: «من أودع عند صبي شيئًا بإذن أهله أو بغير إذنهم، فأتلفه الصبي أو ضيعه لم يضمن؛ لأنه سلطه عليه، كما لو أقرضه أو باعه، وكذلك السفيه»
(2)
.
وفي التاج والإكليل أن هذا القول قول ابن القاسم
(3)
.
وفي الإنصاف: «وإن أودع الصبي وديعة، فتلفت بتفريطه لم يضمن، وكذلك المعتوه. وهذا هو الصحيح من المذهب»
(4)
.
وقال ابن قدامة: «فإن أودع رجل عند صبي أو معتوه وديعة، فتلفت، لم يضمنها، سواء حفظها أو فرط في حفظها»
(5)
.
وقسم الشافعية التلف إلى ثلاثة أقسام:
جاء في الحاوي الكبير: «وإذا دفع الرجل وديعة إلى صبي استودعه إياها كان
(1)
حاشية الدسوقي (3/ 296)، شرح ميارة (2/ 189).
(2)
عقد الجواهر الثمينة (2/ 850).
(3)
التاج والإكليل (5/ 267).
(4)
الإنصاف (6/ 335 - 336).
(5)
المغني (6/ 311).
مغررا بماله، لأن الصبي لا يباشر حفاظ ماله فكيف مال غيره، فإن تلفت في يد الصبي لم يخل تلفها من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تتلف بغير تفريط ولا جناية فلا ضمان عليه فيها، لأن البالغ لا يضمنها.
والثاني: أن تتلف بتفريط منه فلا ضمان عليه، وإن ضمنها البالغ، لأن حفظها لا يلزمه لأن صاحبها هو المفرط دونه.
والقسم الثالث: أن تتلف بجنايته، ففي وجوب ضمانها في ماله وجهان:
أحدهما: أنها غير مضمونة عليه، لأن مالكها هو الذي سلطه على استهلاكها فصار كما لو باعه شيئا فاستهلكه لم يضمنه.
والوجه الثاني: أنها مضمونة في ماله، لأن الائتمان عليها ليس بإذن في استهلاكها
…
»
(1)
.
وقد بين السيوطي القاعدة في ذلك، فقال:«كل من ضمن الوديعة بالإتلاف ضمنها بالتفريط إلا الصبي المميز فإنه يضمنها بالإتلاف على الأظهر، ولا يضمنها بالتفريط قطعًا؛ لأن المفرط هو الذي أودعه»
(2)
.
° الراجح:
مسألة الإيداع والضمان ترجع إلى مسألتين:
الأولى: هل يدفع المال إلى الصبي للاختبار قبل البلوغ، حتى إذا بلغ كان
(1)
الحاوي الكبير (8/ 384).
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي (ص: 468).
الولي على معرفة بأهلية الصبي لدفع المال، أو لا يدفع المال إليه، وإنما يختبر عن طريق السوم، والمفاوضة، والقبول يترك للولي، والأول مذهب الجمهور، والثاني مذهب الشافعية، وقد بينت في عقد البيع أن الراجح أن بعض المال لا كله يدفع إلى الصبي إذا راهق البلوغ.
الثانية: هل الإذن له بالتجارة يستلزم الإذن له بالإيداع، والاستيداع، أو لا يستلزم ذلك.
فمن الفقهاء من قال: الإذن بالتجارة يعني الإذن في توابعها، ومنها الإيداع والاستيداع كالحنفية.
ومن الفقهاء من رأى أن دفع بعض المال للاختبار لا يجعل من يد الصبي كيد البالغ الرشيد في حفظ الأموال، وتقبل الأمانات، لأن ذلك ليس إلا للرجل المكلف الرشيد، واختباره لا يعني دفع جميع ماله له، وإنما يدفع جزء قليل من ماله لمصلحته، حتى لو نجح في الاختبار لم يدفع إليه ماله كله حتى يبلغ، وإذا كانت يده ليست صالحة لقبض جميع ماله فكيف تكون يده صالحة لأن تكون حافظة لمال غيره من الناس.
قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
وهذا ما عليه أكثر المالكية، والحنابلة، وهو الذي أميل إليه، والله أعلم.
* * *