الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في الاختلاف بين المالك والوديع
المبحث الأول
إذا أنكر أصل الإيداع
الوديعة تصير غصبًا بالجحود.
[م-1951] إذا طلب المالك الوديعة فأنكر الوديع أن يكون عنده له وديعة، فالقول قول الوديع بيمنه؛ لأن المالك يدعي الإيداع، والوديع: ينكر، والقاعدة الفقهية تقول: البينة على المدعي، فإن لم يقم بينة على دعواه، فإن القول قول المدعى عليه مع يمينه
(1)
.
(ح-1188) لما رواه مسلم من طريق ابن أبي مليكة،
عن ابن عباس، أن النبي عليه السلام قال: لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه
(2)
.
قال أبو إسحاق الشيرازي: «إذا اختلف المودع والمودع فقال: أودعتك وديعة وأنكرها المودع فالقول قوله
…
ثم ذكر حديث ابن عباس المتقدم، وقال: ولأن الأصل أنه لم يودعه فكان القول قوله»
(3)
.
(1)
المبسوط (11/ 116 - 117)، المدونة (6/ 151)، الذخيرة (9/ 185)، الأم (4/ 136)، المهذب (1/ 362)، روضة الطالبين (6/ 343)، البيان للعمراني (6/ 497)، الكافي لابن قدامة (2/ 380).
(2)
مسلم (1711)، ورواه البخاري بنحوه (2514، 4552).
(3)
المهذب (1/ 362)، روضة الطالبين (6/ 343).
وقال العمراني في البيان: «وإن ادعى على رجل أنه أودعه وديعة معلومة، فقال المدعى عليه: ما أودعتني، ولا بينة للمدعي فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لقوله عليه السلام: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه. ولأن الأصل عدم الإيداع»
(1)
.
وقال ابن قدامة: «فإن طولب بالوديعة فأنكرها، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها»
(2)
.
فإن نكل الوديع عن اليمين، أو أقام المالك البينة عليها، أو رجع الوديع واعترف بالوديعة، فإنه يصير بجحوده خائنًا ضامنًا لخروجه به عن كونه أمينًا فتنقلب يده إلى يد غاصب، فلا يبرأ إلا بردها إلى صاحبها
(3)
.
قال الكساني: «ومنها ـ أي ما يجعل الوديعة مضمونة ـ جحود الوديعة في وجه المالك عند طلبه، حتى لو قامت البينة على الإيداع، أو نكل المودع عن اليمين، أو أقر به، دخلت في ضمانه؛ لأن العقد لما ظهر بالحجة؛ فقد ظهر
(1)
البيان (6/ 497).
(2)
الكافي لابن قدامة (2/ 380).
(3)
المبسوط (11/ 116 - 117)، بدائع الصنائع (6/ 307)، البحر الرائق (7/ 277)، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق (5/ 77)، الجوهرة النيرة (1/ 348)، مجمع الضمانات (ص: 86)، تحفة الفقهاء (3/ 173)، المدونة (6/ 151)، الذخيرة (9/ 185)، الخرشي (6/ 113)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 561)، جامع الأمهات (ص: 404)، الأم (4/ 136)، المهذب (1/ 362)، روضة الطالبين (6/ 343)، البيان للعمراني (6/ 497)، أسنى المطالب (3/ 83)، نهاية المحتاج (6/ 131)، حاشيتا قليوبي وعمييرة (3/ 188)، الحاوي الكبير (8/ 377)، المغني (6/ 311)، الإنصاف (6/ 330)، شرح منتهى الإرادات (2/ 357)، كشاف القناع (4/ 181).
ارتفاعه بالجحود، أو عنده؛ لأن المالك لما طلب منه الوديعة، فقد عزله عن الحفظ، والمودع لما جحد الوديعة حال حضرة المالك، فقد عزل نفسه عن الحفظ؛ فانفسخ العقد، فبقي مال الغير في يده بغير إذنه؛ فيكون مضمونا عليه، فإذا هلك تقرر الضمان»
(1)
.
وقال القرافي في الذخيرة: «إذا جحدك وشهدت البينة ضمن؛ لأنه بالجحد صار غاصبًا»
(2)
.
وقال الماوردي: «رجل أودع رجلًا وديعة، ثم طالبه بها، فجحدها وقال: لم تودعني شيئًا، ثم عاد فاعترف بها وقال: قد كنت استودعتها وتلفت، أو قامت بها البينة عليه فادعى بتلفها لم يقبل منه، لأمرين:
أحدهما: أنه قد صار بالجحد متعديًا فضمنها، ومن ضمن وديعة لم يسقط عنه الغرم بتلفها.
والثاني: أنه بالإنكار الأول قد أكذب نفسه بادعاء التلف»
(3)
.
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع (6/ 212).
(2)
الذخيرة (9/ 185).
(3)
الحاوي الكبير (8/ 377).
(4)
المغني (6/ 307).
فهذه نصوص مختلفة عن أصحاب الأئمة الأربعة تتفق على أن الوديع إذا قال: ما أودعتني، ثم قامت البينة على الإيداع، أو نكل الوديع عن اليمين، أو أقر بالوديعة بعد الاعتراف أنه يكون ضامنًا بذلك حتى يردها إلى صاحبها.
وهذا الكلام في الجملة، ولهم تفصيلات قد يتفقون عليها وقد يختلفون فيها، أذكر أهمها:
المسألة الأولى: من المسائل محل الوفاق بين الأئمة الأربعة أن الوديع لو قال: ما عندي لك وديعة، ثم ادعى الهلاك، فإنه يسمع؛ لأن هناك فرقًا بين قوله: ما أودعتني، وبين قوله: ما عندي لك وديعة، فالأول ينفي أصل الإيداع. والثاني ينفي وجود الوديعة أو استحقاقها حال طلب صاحبها، وهذا لا يتناقض مع دعوى الرد أو الهلاك
(1)
.
جاء في الفتاوى الهندية: «ولو طلب الوديعة، فقال: ما أودعتني، ثم ادعى الرد أو الهلاك لا يصدق، ولو قال: ليس له علي، ثم ادعى الرد أو الهلاك يسمع، كذا في خزانة المفتين»
(2)
.
(3)
.
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 356)، الذخير للقرافي (9/ 173)، الزرقاني على خليل (6/ 119)، التاج والإكليل (5/ 258)، الأم (4/ 137)، نهاية المطلب (7/ 42)، روضة الطالبين (6/ 343)، المغني (6/ 307).
(2)
الفتاوى الهندية (4/ 356).
(3)
البحر الرائق (7/ 41).
(1)
.
(2)
.
المسألة الثانية: لا يضمن إذا كان الهدف من جحود الوديعة الستر والخفاء، أو جحد الوديعة لوجود عدو يخافه عليها من التلف؛ لأن هذا الجحود لمصلحة المالك ومصلحة الوديعة، وهذا قد نص عليه الحنفية والشافعية، خلافًا لزفر
(3)
.
جاء في فتح القدير: «ولو جحدها عند غير صاحبها لا يضمنها عند
(1)
روضة الطالبين (6/ 343).
(2)
المغني (6/ 307).
(3)
فتح القدير لابن الهمام (8/ 490)، بدائع الصنائع (6/ 212)، الهداية شرح البداية (3/ 214)، الوسيط (4/ 512)، روضة الطالبين (6/ 342).
أبي يوسف خلافًا لزفر؛ لأن الجحود عند غيره من باب الحفظ؛ لأن فيه قطع طمع الطامعين»
(1)
.
(2)
.
وجه قول زفر: أن ما هو سبب وجوب الضمان لا يختلف بالحضرة، والغيبة كسائر الأسباب
(3)
.
المسألة الثالثة: إذا جحد الوديعة، ثم هلكت قبل نقلها، فهل يضمن؟
قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا ضمان عليه، ولهذا لو كانت الوديعة عقارًا لم يضمنها بالجحود؛ لأن العقار لا يمكن نقله عن مكانه
(4)
.
قال ابن نجيم: «المودع إذا جحدها ضمنها إلا إذا هلكت قبل النقل كما في الأجناس»
(5)
.
وفي الفتاوى الهندية: «في الأجناس: الوديعة إنما تضمن بالجحود إذا نقلها
(1)
فتح القدير لابن الهمام (8/ 490).
(2)
روضة الطالبين (6/ 342).
(3)
بدائع الصنائع (6/ 212).
(4)
البحر الرائق (7/ 277)، مجمع الأنهر (2/ 340)، حاشية ابن عابدين (5/ 671)، الفتاوى الهندية (4/ 352)، غمز عيون البصائر (3/ 161).
(5)
الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 236).
من موضعها الذي كانت فيه حال إنكاره وهلكت، فإن لم ينقلها وهلكت لا يضمن»
(1)
.
° وجه اشتراط النقل عند الحنفية:
أن الوديع إذا جحد الوديعة صار غاصبًا، والغصب لا يتصور إلا حيث يتصور النقل.
ونص الشافعية والحنابلة ومحمد بن الحسن بأن الوديع يضمن بالجحود، نقلها أو لم ينقلها
(2)
.
قال ابن رجب: «يصير المودع ضامنًا بمجرد جحود الوديعة من غير نقل، ولا إزالة يد»
(3)
.
وهذا هو الراجح، ولهذا لو جلس على بساط الغير مغتصبًا ضمن، ولو لم يكن هناك نقل.
المسألة الرابعة: إذا أقام الوديع البينة على هلاكها، فهذا له ثلاث صور.
الصورة الأولى:
أن يقيم البينة على الهلاك بعد الجحود.
فذهب الحنفية والشافعية، ورجحه ابن قدامة في المغني، وصوبه في الإنصاف: أن البينة لا تنفعه، وأن الضمان واجب عليه
(4)
.
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 352).
(2)
مجمع الأنهر (2/ 340)، تقويم النظر في مسائل خلافية ذائعة (3/ 82)، الأشباه والنظائر للسبكي (2/ 277)، القواعد لابن رجب (ص: 235).
(3)
القواعد لابن رجب (ص: 235).
(4)
المبسوط (11/ 117)، بدائع الصنائع (6/ 212)، الحاوي الكبير (8/ 377)، لإنصاف (6/ 341)، المغني (6/ 307)، شرح الزركشي (2/ 299).
° وجه القول بوجوب الضمان:
لأن الوديع بالجحود صار ضامنًا، وهلاك المضمون في يد الضامن يوجب عليه الضمان، فلم تنفعه البينة.
(1)
.
وجاء في الحاوي الكبير: «لو أقام بينة على تلفها، فهذا على ضربين:
أحدهما: أن تشهد له البينة بتلفها بعد الجحود، فلا تسمع، والغرم واجب عليه؛ لأنها تلفت بعد الضمان»
(2)
.
القول الثاني:
أن البينة تنفعه؛ لأنه ليس بمكذب لها، وهذا هو الأصح في مذهب الحنابلة
(3)
.
(4)
.
(1)
المبسوط (11/ 117).
(2)
الحاوي الكبير (8/ 377).
(3)
الإنصاف (6/ 341)، الإقناع (2/ 383)، كشاف القناع (4/ 181).
(4)
الإنصاف (6/ 341).
الصورة الثانية: أن يقيم البينة على أنها هلكت قبل جحوده، ففيها خلاف:
القول الأول:
لا يقبل منه؛ وعليه الضمان، إلا أن يصدقه المالك بذلك، وهذا مذهب الحنفية، وقول في مذهب المالكية، وأحد الوجهين في مذهب الشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة
(1)
.
وقال الشافعية: يصدق في دعوى التلف، لكنه كالغاصب، فيضمن
(2)
.
قال السرخسي: «جحوده أصل الإيداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله»
(3)
.
وقال في تحفة الفقهاء: «فإن أقر بالوديعة وأقام المودع البينة على أنها هلكت قبل جحوده الوديعة لا يقبل؛ لأنه بالجحود أكذب بينته»
(4)
.
(5)
.
° وجه القول بالضمان:
أنه بالجحود أكذب بينته، فلا تقبل، وعليه الضمان.
(1)
تحفة الفقهاء (3/ 173)، المبسوط (11/ 117)، منح الجليل (7/ 23)، التاج والإكليل (5/ 258).
(2)
روضة الطالبين (6/ 343).
(3)
السرخسي (11/ 117).
(4)
تحفة الفقهاء (3/ 173).
(5)
التاج والإكليل (5/ 258).
القول الثاني:
تسمع بينته، ولا ضمان عليه؛ لأن الهلاك لما ثبت بالبينة فقد ظهر انتهاء العقد قبل الجحود، فلا يرتفع بالجحود. وهذا قول في مذهب الحنفية، والمشهور في مذهب المالكية
(1)
.
جاء في منح الجليل: «تحصل فيمن أنكر أمانة ثم ادعى ضياعها أو ردها ثلاثة أقوال: الأول لمالك من سماع ابن القاسم يقبل قوله فيهما.
الثاني لمالك أيضا: لا يقبل قوله فيهما.
الثالث لابن القاسم: يقبل قوله في الضياع دون الرد. المشهور أنه إن قامت بينة على ضياعه أو رده فإنها تنفعه بعد إنكاره»
(2)
.
وجاء في بدائع الصنائع: «وإن أقام البينة على أنها هلكت قبل الجحود تسمع بينته، ولا ضمان عليه؛ لأن الهلاك قبل الجحود لما ثبت بالبينة فقد ظهر انتهاء العقد قبل الجحود، فلا يرتفع بالجحود، فظهر أن الوديعة هلكت من غير صنعة، فلا يضمن»
(3)
.
ولعل الجمع بين هذا القول والقول السابق، أن الوديع إذا جحد الوديعة، ثم أقام البينة على هلاكها قبل الجحود، فإن قال: ليس لك عندي وديعة قبلت بينته، ويبرأ عن الضمان.
وإن قال: لم تستودعني، ثم ادعى الهلاك قبل الجحود لم يقبل
(4)
.
(1)
بدائع الصنائع (6/ 212)، منح الجليل (7/ 23).
(2)
منح الجليل (7/ 23).
(3)
المرجع السابق (6/ 212).
(4)
انظر مجمع الضمانات (ص: 87)، حاشية ابن عابدين (5/ 671).
الصورة الثالثة:
أن يدعي الهلاك قبل الجحود، ولا بينة لأحد منهما.
فاختار الحنفية أن القاضي يطلب اليمين من المالك أنه ما يعلم أنها هلكت قبل جحوده، فإن حلف، قضى بالضمان، وإن نكل المالك قضى بالبراءة.
جاء في الدر المختار: «ولو ادعى هلاكها قبل جحوده حلف المالك ما يعلم ذلك فإن حلف ضمنه، وإن نكل برئ»
(1)
.
(1)
الدر المختار مع حاشية ابن عابدين (8/ 359)، وانظر قرة عين الأخيار (8/ 497)، بدائع الصنائع (6/ 212).