الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثالث
الوديعة لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط
الوديعة أمانة في يد المودَع، فإن تلفت من غير تفريط لم يضمن.
هلاك الأمانة في يد الأمين كهلاكها في يد صاحبها.
[م-1927] إذا كانت الوديعة أمانة من الأمانات، ترتب على هذا التوصيف ألا ضمان على المودع إذا تلفت من غير تعد منه ولا تفريط.
والتعدي: بأن يفعل ما ليس له فعله.
والتفريط: بأن يترك ما يجب عليه فعله.
وهذه المسألة منها ما هو محل وفاق، ومنها ما هو محل خلاف:
أما ما هو محل وفاق: فإن الوديعة إذا تلفت بتعديه وتفريطه ضمن بلا خلاف
(1)
.
وكذلك لو تلفت مع ماله من غير تعد ولا تفريط فلا ضمان عليه بلا نزاع
(2)
.
وعليه يحمل الإجماعات المنقولة في دواوين الفقه.
قال أبو إسحاق الشيرازي: «الوديعة أمانة في يد المودَع، فإن تلفت من غير تفريط لم يضمن .... وهو إجماع فقهاء الأمصار»
(3)
.
(1)
الإنصاف (6/ 317).
(2)
المرجع السابق.
(3)
المهذب (1/ 359).
وقال الوزير ابن هبيرة: «واتفقوا على أن الوديعة أمانة
…
وأن الضمان لا يجب على المودع إلا بالتعدي»
(1)
.
وقال ابن المنذر: «أجمع أكثر أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم تلفت من غير جنايته أن لا ضمان عليه»
(2)
.
فالتعبير بأنه إجماع أكثر أهل العلم يشير إلى أن في المسألة خلافًا وإن كان في بعض الصور.
وقال ابن رشد: «اتفقوا على أنها أمانة لا مضمونة إلا ما حكي عن عمر بن الخطاب»
(3)
.
[م-1928] واختلفوا في الوديعة إذا تلفت وحدها من بين مال الوديع، وإن لم يتعد أو يفرط على قولين:
القول الأول:
لا ضمان عليه، وهي أمانة في يده مطلقًا من غير فرق بين ما إذا كان الحفظ بأجرة أو بدون أجرة. وهو مذهب المالكية، والشافعية.
ووافقهم الحنابلة على أنها أمانة، غير مضمونة إلا أنهم منعوا أخذ الأجرة على حفظ الوديعة
(4)
.
(1)
الإفصاح (2/ 23).
(2)
الإشراف (6/ 330).
(3)
بداية المجتهد (2/ 233).
(4)
فتح القدير لابن الهمام (8/ 485)، تحفة الفقهاء (3/ 171)، بدائع الصنائع (6/ 210)، تبيين الحقائق (5/ 76)، التعليل المختار (3/ 25)، المقدمات الممهدات (2/ 455)، شرح الخرشي (6/ 109)، الشرح الكبير (3/ 419)، الشرح الصغير مع حاشية الصاوي (3/ 550)، المهذب (1/ 359)، البيان للعمراني (6/ 476)، المغني (6/ 300)، الكافي لابن قدامة (2/ 374)، الإنصاف (6/ 316).
وقد سبق بحث أخذ الأجرة على الوديعة في مسألة مستقلة.
° دليل من قال: لا ضمان:
الدليل الأول:
قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91].
وجه الاستدلال:
المودع إذا حفظ الوديعة فإنه يقوم بذلك لمصلحة مالكه، لا لمصلحته، وهو بذلك محسن بما يقوم به، فإذا تلفت الوديعة بلا تعد ولا تفريط فلا سبيل عليه، وإلزامه بالضمان نوع من السبيل.
(1)
.
وفي تفسير القاسمي: «يدل على أن المستودع والوصيّ والملتقط لا ضمان عليهم مع عدم التفريط، وأنه لا يجب عليهم الرد»
(2)
.
(1)
تفسير السعدي (ص: 347).
(2)
محاسن التأويل (5/ 478).
الدليل الثاني:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].
قال ابن نجيم الحنفي، وابن رشد المالكي، والشيرازي الشافعي، وابن قدامة الحنبلي:«الوديعة أمانة»
(1)
.
وإنما كانت الوديعة أمانة؛ لأن صاحبها ائتمن المودع على حفظها، فاطمأن عليه، وإذا كانت الوديعة أمانة فإن الأمانات لا تضمن إلا بالتعدي.
الدليل الثالث:
الأصل عدم الضمان، وهذا كاف في الاستدلال، فمن قال: عليه الضمان هو المطالب بالدليل.
(2)
.
(ح-1178) والدليل على عصمة مال الوديع ما رواه الشيخان من حديث أبي بكرة، وفيه:
فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب
…
(3)
.
(1)
الفوائد الزينية (ص: 157)، المقدمات الممهدات (2/ 455)، المهذب (1/ 359)، الكافي لابن قدامة (2/ 374).
(2)
السيل الجرار (3/ 342).
(3)
صحيح البخاري (67)، وصحيح مسلم (1679).
الدليل الرابع:
(ح-1179) ما رواه ابن ماجه من طريق أيوب بن سويد، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، قال: قال رسول الله عليه السلام: من أودع وديعة فلا ضمان عليه
(1)
.
[ضعيف]
(2)
.
الدليل الخامس:
(ح-1180) ما رواه الدارقطني من طريق عمرو بن عبد الجبار، عن عبيدة بن حسان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،
عن جده، عن النبي عليه السلام، قال: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان.
[ضعيف جدًا]
(3)
.
الدليل السادس:
(ث-297) ما رواه عبد الرزاق، قال: أخبرنا قيس بن الربيع، عن الحجاج، عن هلال،
عن عبد الله بن عكيم الجهني قال: قال عمر بن الخطاب: «العارية بمنزلة الوديعة، ولا ضمان فيها إلا أن يتعدى
(4)
.
[ضعيف]
(5)
.
(1)
سنن ابن ماجه (2401)، ومن طريق المثنى رواه الخطيب البغدادي في تلخيص المشتبه (1/ 550).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
المصنف (14785).
(5)
في إسناده حجاج بن أرطأة ضعيف، وقيس بن الربيع مختلف فيه.
الدليل السابع:
المودع يقبض الوديعة لمصلحة مالكها، فلو لزمه الضمان لا متنع الناس من قبول الوديعة، وهذا مضر لما في الناس من الحاجة إليها لحفظ أموالهم.
القول الثاني:
إن تلفت وحدها من بين ماله ضمن، وإن لم يتعد ولم يفرط، وبه قضى عمر بن الخطاب
(1)
، وهو رواية عن أحمد، وقال به إسحاق
(2)
.
قال الزركشي: ينبغي أن يكون محل الرواية إذا ادعى التلف، أما إن ثبت التلف ـ يعني بلا تعد ولا تفريط ـ فإنه ينبغي انتفاء الضمان رواية واحدة
(3)
.
° حجة هذا القول:
(ث-298) ما رواه ابن الجعد في مسنده، قال: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن النظر بن أنس،
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر ضمنه وديعة سرقت من بين ماله
(4)
.
[صحيح]
(5)
.
(1)
سيأتينا إن شاء الله تعالى تخريج أثر عمر عند الكلام على أدلة المسألة.
(2)
الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (6/ 331).
(3)
الإنصاف (6/ 317).
(4)
مسند ابن الجعد (972).
(5)
ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 289) من طريق عاصم بن علي، عن شعبة به.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (14799)، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كان عند أنس بن مالك وديعة، فهلكت من بين ماله فضمنه إياها عمر بن الخطاب، فقال معمر: لأن عمر اتهمه يقول: «كيف ذهبت من بين مالك.
ولم يسمعه قتادة من أنس كما في رواية شعبة، بل رواه عن النظر بن أنس، عن أنس.
القول الثالث:
أن الوديعة إذا هلكت بما لا يمكن التحرز منه كحريق وغرق غالبين فلا ضمان على الوديع مطلقًا سواء أكانت بأجر أم بدون أجر.
وأما إن هلكت بما يمكن التحرز منه، فينظر: إن كانت بغير أجر، فلا ضمان على الوديع؛ لأنها هلكت بدون تعد ولا تفريط.
وإن كان الحفظ بأجر فإن عليه الضمان. وهذا مذهب الحنفية
(1)
.
جاء في مجمع الضمانات: «الوديعة ما يترك عند الأمين، وهي أمانة في يد المودَع إذا هلكت لا يضمنها كما في الهداية وغيرها.
(1)
مجمع الضمانات (ص: 68)، حاشية ابن عابدين (6/ 68)، فتح القدير لابن الهمام (9/ 122)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 235)، غمز عيون البصائر (3/ 133)، الهداية شرح البداية (3/ 242).
هناك تشابه واختلاف بين الوديع بأجر وبين الأجير المشترك:
فيتشابهان بأنهما لا يضمنان العين إذا تلفت بأمر غالب كحريق وغرق،
ويفترقان من وجهين:
أحدهما: أن المعقود عليه في الأجير المشترك هو العمل، والحفظ واجب تبعًا وليس مقصودًا في العقد، وأما في الوديعة فالمعقود عليه الحفظ، والأجرة في مقابل الحفظ.
الثاني: أن الوديعة بأجرة مضمونة بالاتفاق عند الحنفية إذا هلكت بما يمكن التحرز منه كالسرقة، والغصب. وأما الأجير المشترك ففيه خلاف بين أبي حنيفة صاحبيه.
فيضمن عند أبي يوسف ومحمد بن الحسن إذا هلكت ا لعين بما يمكن التحرز منه؛ لأن الأجرة في مقابلة العمل والحفظ.
ولا يضمن عند أبي حنفية؛ لأن الأجرة في مقابلة العمل فقط عنده، فحصل فرق بين المودع والأجير المشترك. انظر قرة عيون الأخيار لتكملة رد المحتار (8/ 470)، حاشية ابن عابدين (6/ 68).
قال في الأشباه: الوديعة أمانة إلا إذا كانت بأجر فمضمونة، ذكره الزيلعي انتهى»
(1)
.
جاء في مجلة الأحكام العدلية: «الوديعة أمانة في يد الوديع. بناء عليه: إذا هلكت بلا صنع المستودع أو تعديه، أو تقصيره في الحفظ فلا يلزمه الضمان، إلا إذا كان الإيداع بأجرة على حفظ الوديعة، فهلكت، أو ضاعت بسبب يمكن التحرز منه لزم المستودع ضمانها»
(2)
.
° وجه القول بالضمان:
أن الحفظ إذا كان في مقابل أجر يصبح مستحقًا على الوديع؛ إذ الأجر في مقابل الحفظ، فإذا تلفت بأمر يمكنه التحرز منه كان ضامنًا حيث لم يقم بالعمل الواجب عليه.
° الراجح:
أرى أن قول الجمهور أقوى، والوديعة أمانة سواء كانت بأجرة أو بغير أجرة، أرأيت العين المستأجرة قد قبضت في مقابل عوض، ومع ذلك هي أمانة في يد المستأجر، وأما القول بأنها إذا هلكت من بين ماله فإنه يضمن هذا القول أرى أن الخلاف فيه لا يدخل تحت مسألة، هل الوديعة أمانة، أو مضمونة؛ لأن التضمين في هذه المسألة إنما هو للتهمة، كما أن القول بتضمين المودع إذا تعدى أو فرط لا يخرج الوديعة عن عقود الأمانات فكذلك هنا، ولذلك عبر ابن المنذر بقوله: وقال أحمد وإسحاق: لا يضمن صاحب الوديعة إلا أن يتهم
(1)
مجمع الضمانات (ص: 68).
(2)
مجلة الأحكام العدلية، مادة (777).
بريبة، كما ضمن عمر أنسًا
(1)
، والتهمة هنا: هو مظنة التفريط، حيث حفظ ماله دون الوديعة.
وقال معمر كما في مصنف عبد الرزاق: لأن عمر اتهمه يقول: كيف ذهبت من بين مالك؟! والله أعلم.
* * *
(1)
الإشراف (6/ 331).