الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
في اقتراض المودع من الوديعة
الاقتراض عقد تمليك لا يصح بلا إذن المقرض ورضاه.
الوديع لا يملك ولاية التصرف في الوديعة إلا بإذن المالك
الإقراض من الوديع إن كان رفقًا بالمالك صح أو كان إرفاقًا بالمقترض لم يصح.
[م-1940] إذا اقترض الوديع مال الوديعة فإن كان ذلك بإذن صاحبها فإن كانت مالًا مثليًا جاز الاقتراض بالاتفاق.
وإن كانت مالًا قيميًا، كان الخلاف في جوازها راجعًا إلى الخلاف في جواز اقتراض المال القيمي:
فمن اشترط في القرض أن يكون المال مثليًا كالحنفية فإنه سوف يمنعه، والجمهور على جوازه.
وسبق بحث هذه المسألة في عقد القرض، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، ولله الحمد.
وإن اقترض الوديع من الوديعة بدون إذن صاحبها وجب عليه ضمانها بالاتفاق.
[م-1941] واختلفوا في حكم فعله، هل يحرم عليه الاقتراض، أو يكره، أو يباح؟ على قولين:
القول الأول:
يحرم عليه الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها، وبهذا قال الحنفية، والشافعية، والحنابلة
(1)
.
وجعل ابن تيمية العلم برضا صاحبها بمنزلة الإذن.
قال ابن تيمية: «إن علم المودع علمًا اطمأن إليه قلبه أن صاحب المال راض بذلك فلا بأس بذلك، وهذا إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة، وعلمت منزلتك عنده كما نقل مثل ذلك عن غير واحد، وكما كان النبي عليه السلام يفعل في بيوت بعض أصحابه
…
ومتى وقع في ذلك شك لم يجز الاقتراض»
(2)
.
° وجه القول بالتحريم:
أن المالك ائتمنه على الحفظ، فاقتراض الوديعة بدون إذن صاحبها يعتبر تعديًا، وخيانة للأمانة، واغتصاباً لمال الغير بدون إذن المالك.
القول الثاني:
أن الاقتراض من الوديعة بدون إذن صاحبها ليس حراماً إذا تحقق شرطان: أن يكون المال مثلياً، وأن يكون المتصرف مليئاً.
فالمالكية يرون أنه يحرم على الوديع أن يستلف من الوديعة إن كان فقيراً،
(1)
الهداية (3/ 216)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 308)، النتف في الفتاوى للسغدي (2/ 581)، المبسوط (11/ 111)، الاختيار لتعليل المختار (3/ 26)، الأم (4/ 137)، المهذب (1/ 361)، الحاوي الكبير (8/ 364)، نهاية المطلب (11/ 417)، الوسيط (4/ 508)، المبدع (5/ 241)، الإنصاف (6/ 332)، المحرر (1/ 364).
(2)
مجموع الفتاوى (30/ 394 - 395).
سواء أكانت الوديعة من القيميات أم من المثليات، وذلك لتضرر مالكها بعدم الوفاء نظراً لإعدامه.
وأما إن كان موسراً، فإن كانت الوديعة عرضاً قيمياً فيحرم على الوديع اقتراضها؛ لانعدام المثل هنا.
وإن كانت الوديعة مثلية، فإن كانت نقوداً، فيكره على الوديع اقتراضها؛ لأن المثل هنا يقوم مقام العين.
وقيل يجوز بلا كراهة.
وعلل بعض المالكية عدم التحريم بتعليلات منها:
التعليل الأول:
أن المودِع قد ترك الانتفاع بها مع القدرة عليه فجاز للمودَع الانتفاع بها، ويجري ذلك مجرى الانتفاع بظل حائطه، وضوء سراجه.
التعليل الثاني:
أن المودَع لم يبطل على المودِع غرضه؛ لأنه إنما أمر بحفظها، وهذا حاصل.
التعليل الثالث:
أن الدراهم لا تتعين بالتعيين، ولذلك كان للمودَع أن يرد مثلها، ويتمسك بها مع بقاء عينها
(1)
.
وإن كانت الوديعة المثلية ليست نقوداً، فإن كانت مما يكثر اختلافه، ولا
(1)
منح الجليل (7/ 10)، التاج والإكليل (5/ 255).
يتحصل أمثاله، فيحرم اقتراضها كالقيميات، وإلا فيجوز تسلفها كالدراهم والدنانير في ظاهر المدونة
(1)
.
° الراجح:
أرى أنه لا يجوز الاقتراض من الوديعة مطلقًا، حتى ولو كانت الوديعة مثلية كالدراهم، وسواء كان المقترض معسرًا أو كان موسرًا، لأن يد المودع يد أمانة، وقد وضعت على هذا المال للحفظ، وليس لشيء آخر، واقتراضها بدون إذن صاحبها يحوله إلى رجل غير أمين، فالإيداع عقد على حفظ العين، فهي تتعين بالتعيين، ولو كانت من الدراهم.
(1)
جاء في الموطأ (2/ 735): «قال يحيى: سمعت مالكاً يقول: إذا استودع الرجل مالاً فابتاع به لنفسه، وربح فيه، فإن ذلك الربح له؛ لأنه ضامن للمال حتى يؤديه إلى صاحبه» .
قال الباجي في المنتقى في شرح عبارة الإمام مالك (5/ 279): «وهذا على حسب ما قال: إن من تجر بمال استودعه، فربح فيه فإن الربح له وقد اختلف قول مالك في جواز السلف من الوديعة بغير إذن المودع: فحكى القاضي أبو محمد في معونته أن ذلك مكروه.
وقد روى أشهب عن مالك في العتبية أنه قال: ترك ذلك أحب إلي، وقد أجازه بعض الناس، فروجع في ذلك فقال: إن كان له مال فيه وفاء، وأشهد، فأرجو أن لا بأس به.
ووجه الكراهية: ما احتج به القاضي أبو محمد; لأن صاحبها إنما دفعها إليه; ليحفظها لا لينتفع بها، ولا ليصرفها فليس له أن يخرجها عما قبضها عليه.
وفي المدونة من رواية محمد بن يحيى، عن مالك من استودع مالاً أو بعث به معه، فلا أرى أن يتجر به، ولا أن يسلفه أحداً، ولا يحركه عن حاله ; لأني أخاف أن يفلس أو يموت فيتلف المال ويضيع أمانته.
ووجه الرواية الثانية أنا إذا قلنا: إن الدنانير والدراهم لا تتعين ; فإنه لا مضرة في انتفاع المودع بها إذا رد مثلها وقد كان له أن يرد مثلها ويتمسك بها مع بقاء أعيانها». وانظر منح الجليل (7/ 10).
نعم يجوز إقراض الوديعة إذا كان ذلك رفقًا بالمالك، كما لو أقرض الوصي والولي مال الصغير إذا خاف عليه من السرقة فيجوز إقراضه لمن كان موسرًا، وأخذ رهنًا بذلك.
وكما يجوز للوديع إذا خاف على الوديعة أن يقرضها للبنوك، باعتبار أن ودائع البنوك قروض على الصحيح وإن سماها الناس ودائع، والله أعلم.
* * *