الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثاني
في صفة الإنفاق
[م-1926] تكلمت في المبحث السابق هل يلزم الوديع الإنفاق على الوديعة، أو لا يلزمه؟
وفي حال ترك الإنفاق عليها، هل يضمن الوديعة، أو لا يضمن؟ ونريد أن نتكلم في هذا المبحث عن طريقة الإنفاق على الوديعة، فإذا قلنا: إن قبول الوديعة يعني المحافظة عليها، ومن المحافظة عليها الإنفاق عليها، فكيف ينفق على ملك غيره؟
القول الأول:
يرى الحنفية أن على المودع أن يرفع الأمر إلى القاضي، فإذا أقام البينة على أن العين وديعة عنده، وأن صاحبها غائب، فإن أمكن تأجير الوديعة، والإنفاق عليها من غلتها أمره القاضي بذلك، وإلا فللقاضي أن يأمره بالإنفاق عليها اليوم واليومين والثلاثة رجاء أن يحضر صاحبها، ولا يأمره بالإنفاق أكثر من ذلك، بشرط ألا يتجاوز ما صرفه الثلاثة أيام قيمة العين المودعة إلا أن تكون عبدًا، فإذا لم يحضر أمره بالبيع وإمساك الثمن، وما أنفقه عليها في الثلاثة أيام يرجع به على صاحبها. وإن أنفق عليها بدون الرجوع إلى القاضي كان متبرعًا. هذا ملخص مذهب الحنفية
(1)
.
(1)
المبسوط (11/ 126)، درر الحكام شرح مجلة الأحكام (2/ 251)، مجلة الأحكام العدلية، مادة (786)، الفتاوى الهندية (4/ 360)، النتف في الفتاوى (581).
جاء في الفتاوى الهندية: «لو أنفق على الوديعة حال غيبة المالك بغير أمر القاضي كان متبرعًا
…
وإن رفع الأمر إلى القاضي سأله القاضي البينة على كون العين الوديعة عنده، وعلى كون المالك غائبًا، فإذا أقام بينة على ذلك، فإن كانت الوديعة شيئًا يمكن أن يؤاجر، وينفق عليه من غلتها أمره القاضي بذلك، وإن كانت الوديعة شيئًا لا يمكن أن يؤاجر فالقاضي يأمره بأن ينفق عليها من ماله يومًا أو يومين، أو ثلاثة رجاء أن يحضر المالك، ولا يأمره بالإنفاق عليها زيادة على ذلك، بل يأمره بالبيع وإمساك الثمن والحاصل أن القاضي يفعل بالوديعة ما هو أصلح وأنظر في حق صاحبها، وإن كان القاضي أمره بالبيع في أول الوهلة كان جائزا وما أنفق المودع على الوديعة بأمر القاضي فهو دين على صاحبها يرجع به عليه إذا حضر غير أن في الدابة يرجع بقدر قيمة الدابة لا بزيادة على ذلك، وفي العبد يرجع بالزيادة على قيمته، كذا في المحيط»
(1)
.
القول الثاني:
ذهب المالكية إلى أن الوديعة إن احتاجت إلى نفقة، وقام المودَع بذلك فإنه يرجع على صاحبها بما أنفق عليها مطلقًا، حتى ولو كان ذلك بدون إذن المالك، ولا إذن القاضي.
قال ابن عبد البر: «وما انفق المودع على الوديعة فعلى ربها، سواء أذن له أو لم يأذن له إذا احتاجت إلى ذلك»
(2)
.
(1)
الفتاوى الهندية (4/ 360).
(2)
الكافي لابن عبد البر (ص: 404).
القول الثالث:
قسم الشافعية حال الوديعة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: إذا أمره بالإنفاق عليها، فلا يخلو حاله في الإذن من أحد أمرين:
إما أن يشترط له الرجوع، أو لا:
فإن اشترط له الرجوع ففي وجوب تقديره للنفقة وجهان:
أحدهما: يجب تقدير النفقة لتنتفي الجهالة عن ضمانها، وليزول الخلف بينهما في قدرها، فإن أنفق عليها من غير تقدير النفقة كان متطوعًا لا يرجع بنفقته، وإن قدر له قدرًا رجع به، وإن زاد عليه كان متطوعًا.
الوجه الثاني: لا يجب تقديرها؛ فإذا أذن له بالنفقة عليها كان له أن يتولاها المستودع بنفسه، ويقبل قوله في قدرها إذا لم يدع سرفًا؛ لأنه أمين.
وإن لم يشترط له الرجوع بالنفقة حين أمره بالنفقة، ففي رجوعه على المالك وجهان:
أحدهما: يرجع اعتبارًا بالأغلب من حال الإذن؛ ولأنه أخرجها بإذنه فلم يكن متطوعًا.
والثاني: لا يرجع؛ لأن الإذن لم يتضمن اشتراط الرجوع.
القسم الثاني: إذا أودعه ونهاه عن الإنفاق عليها، فعليه أن يأتي الحاكم حتى يجبر المالك على علفها إن كان حاضرًا، أو يأذن له القاضي في علفها إن كان غائبًا، فإن علفها من غير حكم حاكم لم يرجع.
القسم الثالث: إذا أودعه ولم يأمره بالإنفاق، ولم ينهه عن النفقة، فإنه يرجع إليه أو إلى وكيله ليستردها، أو يعطي علفها، فإن لم يظفر بهما، رفع الأمر إلى الحاكم ليقترض على المالك، أو يؤجرها، ويصرف الأجرة في مؤنتها، أو يبيع جزءًا منها أو جميعها إن رآه كما لو خاف أن ينفق عليها أكثر من قيمتها.
فإن رأى الحاكم أن يأذن للمستودع في النفقة عليها، فهل يلزمه تقديرها له أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين في المالك لو كان هو الآذن.
وهل يجوز أن يتولى النفقة عليها بنفسه، أو ينصب له أمينا يأخذها منه؟ على وجهين.
فإن أنفق بغير إذن الحاكم، فإن أمكنه الحاكم، أو لم يمكنه ولم يشهد على النفقة فلا رجوع.
وإن لم يقدر على الحاكم، فإن لم ينو الرجوع، ولم يشهد لم يرجع؛ لأن الظاهر أنه متطوع.
وإن أشهد على الإنفاق ليرجع، فهل له أن يرجع؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع؛ لأنه موضع ضرورة.
والثاني: لا يرجع؛ لأنه لا ولاية له عليه.
فإن تعذر الإشهاد، قال ابن الصباغ: ينوي الرجوع، فأقام نية الرجوع مقام الإشهاد عند تعذر الإشهاد.
والمعتمد أنه لا يكفي نية الرجوع إن تعذر الإشهاد؛ لأنه عذر نادر.
قال أبو إسحاق المروزي: فإذا قلنا: له أن يرجع بما أنفق بنفسه فله أن يبيع
البهيمة، ويحفظ ثمنها لمالكها، أو يبيع جزءًا منها، أو يؤجرها مما يرى المصلحة في ذلك؛ لأنا قد أقمناه مقام الحاكم في ذلك
(1)
. هذا تحرير مذهب الشافعية في المسألة، والله أعلم.
القول الرابع:
ذهب الحنابلة إلى أن المستودع إن قدر على صاحبها أو وكيله طالبه بالإنفاق عليها أو بردها عليه، أو أن يأذن له في الإنفاق عليها ليرجع به.
فإن عجز عن صاحبها ووكيله رفع الأمر إلى الحاكم، فإن وجد لصاحبها مالًا أنفق عليها منه، وإن لم يجد فعل ما يرى فيه الحظ لصاحبها من بيعها، أو بيع بعضها وإنفاقه عليها، أو إجارتها، أو الاستدانة على صاحبها فيدفعه إلى المودع أو غيره فينفق عليها، ويجوز أن يأذن للمودع أن ينفق عليها من ماله، ويكون المودع قابضًا من نفسه لنفسه، ويكل ذلك إلى اجتهاده في قدر ما ينفق ويرجع به على صاحبها
…
وإذا أنفق عليها بإذن حاكم رجع به قولًا واحدًا. وإن كان بغير إذنه مع تعذره، وأشهد على الإنفاق رجع به. قال الحارثي: رواية واحدة حكاه الأصحاب.
وإن كان مع إمكان إذن الحاكم، ولم يستأذنه، بل نوى الرجوع لم يرجع على الصحيح من المذهب.
(1)
الحاوي الكبير (8/ 365 - 366)، البيان للعمراني (6/ 491 - 492)، نهاية المحتاج (6/ 122)، تحفة المحتاج (7/ 114)، حاشيتا قليوبي وعميرة (3/ 185)، حاشية الجمل (4/ 81)، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (2/ 378)، أسنى المطالب (3/ 79)، روضة الطالبين (6/ 332)، نهاية المطلب (11/ 412 - 413).
وقيل: يرجع؛ لأنه مأذون فيه عرفًا، اختاره جمع من الحنابلة
(1)
.
هذا هو تحرير المذاهب في مسألة كيفية النفقة، وملخصه ما يلي:
القول الأول:
يرى جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة في المشهور أنه لا ينفق عليها حتى يرجع إلى القاضي مع إمكان الرجوع، فإن أنفق عليها مع إمكان الرجوع إلى القاضي فليس له الرجوع على صاحبها بما أنفقه عليها؛ بل يكون متبرعًا بما أنفقه.
° وجه القول بوجوب الرجوع إلى القاضي:
أن القاضي له ولاية النظر في أموال الغائبين، فهو ينوب عن أصحابها، فإذا أمره بالإنفاق كان كما لو أمره صاحبها بذلك، ولأن القاضي وحده الذي له النظر في تقدير الأصلح في حق صاحبها من الإنفاق أو البيع، أو التأجير والإنفاق عليها من غلتها.
فإذا ترك الرجوع إلى القاضي مع إمكانه فإن ذلك يعني أنه متطوع بما أنفق؛ فهو بمنزلة ما لو كان بإمكانه الرجوع إلى صاحبها واستئذانه، فأنفق عليها بدون الرجوع إلى صاحبها لم يستحق شيئًا، فكذلك إذا ترك الرجوع إلى القاضي مع إمكانه.
القول الثاني:
له الرجوع على صاحبها بما أنفق عليها، سواء رجع إلى القاضي أو لم يرجع، وسواء أذن له صاحبها أو لم يأذن، وهذا مذهب المالكية.
(1)
الإقناع (2/ 379)، المغني (6/ 309)، الإنصاف (6/ 320 - 321)، كشاف القناع (4/ 171).
° وجه القول بذلك:
أن المودع مأمور بحفظها، ومن حفظها الإنفاق عليها، وهو مؤتمن، والأمين مصدق إذا ادعى ما يشبه في النفقة عليها
القول الثالث:
يرجع به إذا أشهد، ونوى الرجوع، ولو لم يرجع إلى الحاكم، وهذا قول في مذهب الحنابلة.
وجهه: قاسه الحنابلة على ما إذا قضى دين غيره بنية الرجوع على صاحبه فله الرجوع بل هذه أولى؛ لأن للحيوان حرمة في نفسه توجب تقديمه على قضاء الدين.
وإذا أنفق عليها مع تعذر الرجوع إلى القاضي:
فقيل: له الرجوع إن نوى الرجوع، وأشهد على ذلك، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
لأنه لما تعذر الرجوع إلى المالك والقاضي قام المودع مقام القاضي بالنظر في مال الغائب للضرورة.
وقيل: له الرجوع إذا نوى الرجوع، ولو لم يشهد، وهو قول في مذهب الحنابلة بناء على أنه مأمور بالحفظ، ومؤتمن عليه،
وأما مذهب المالكية فقد تقدم أن له الرجوع مطلقًا، سواء رجع إلى الحاكم أو لم يرجع، والله أعلم.
* * *