الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الخامس
في اشتراط الضمان على الوديع
اشتراط الضمان على الأمين باطل.
كل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه، وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه.
[م-1933] اختلف الفقهاء في اشتراط الضمان على المودِع، وهذه المسألة فرع من مسائل كثيرة، وهي هل الأمانات يصح اشتراط الضمان فيها؟
ونستطيع أن نقسم الأمانات إلى قسمين:
ما كان من عقود المعاوضات كضمان رأس مال المضاربة، وضمان العين المستأجرة، فهذه المسائل سبق تحرير الخلاف فيها، ولا أرى صحة اشتراط الضمان فيها بحال، وذلك أن التزام الضمان فيها يجعل الضمان جزءاً من المعاملة: ففي ضمان رأس مال المضاربة يوقع الضمان في الربا، حيث يتحول رأس المال إلى ما يشبه القرض، ويتحول الربح إن وجد إلى فائدة للقرض.
وفي ضمان العين المستأجرة يوقع المستأجر في الغرر، حيث إن الضمان جزء من الإجارة، ولا يعلم مقدار ما سوف يغرم بسبب التلف، وجهالة الأجرة مفسدة للعقد. وراجع بحث المسألتين في عقد المضاربة، وعقد الإجارة فقد استوفيت ذكر الأدلة مما يغني ذلك عن إعادته هنا.
أما الأمانات القائمة على التبرع، كالعارية، والوديعة ونحوهما، فهل يصح اشتراط الضمان أو لا يصح؟
في ذلك خلاف بين العلماء على قولين:
القول الأول:
لا يصح اشتراط الضمان على الوديع، وبهذا قال الحنفية
(1)
، والمالكية في المشهور، والشافعية، والمشهور من مذهب الحنابلة، وقال به الثوري، وإسحاق، وغيرهم، على خلاف بينهم: هل يفسد العقد لبطلان الشرط أو يفسد الشرط وحده، ويصح العقد
(2)
.
قال ابن المنذر: «وإذا شرط المودع على المودَع أنه ضامن للوديعة فلا ضمان عليه، كذلك قال الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ويشبه ذلك مذهب مالك .... »
(3)
.
وقد صاغ الفقهاء على اختلاف مذاهبهم قواعد وضوابط فقهية لبيان أن التزام الضمان لا يصح.
ففي مذهب الحنفية، قالوا:«اشتراط الضمان على الأمين باطل»
(4)
.
(1)
يستثنى من هذه المسألة ما سبق بحثه في مسألة سابقة أن الوديعة إذا كان حفظها بأجر، وتلفت بما يمكن التحرز منه فإن الوديع ضامن، فإذا اشترط الضمان في هذه الحالة فإنه اشتراط لما يقتضيه العقد، وسبق بحث هذه المسألة.
(2)
حاشية ابن عابدين (5/ 663)، البحر الرائق (7/ 274)، غمز عيون البصائر (3/ 133)، مجمع الضمانات (ص: 68)، مجمع الأنهر (2/ 338)، الإشراف على مسائل الخلاف (2/ 42)، بداية المجتهد (2/ 233)، الذخيرة للقرافي (9/ 138)، شرح الزرقاني على خليل (6/ 117)، الأم (3/ 168)، الحاوي الكبير (7/ 45)، المهذب (1/ 359)، المغني (6/ 300)، المبدع (5/ 145).
(3)
الإشراف (6/ 347).
(4)
انظر المبسوط (11/ 157)، غمز عيون البصائر (3/ 133)، البحر الرائق (7/ 274)، مجمع الضمانات (ص: 33).
وفي مذهب الشافعي: «الشيء إذا كان حكمه في الأصل على الأمانة فإن الشرط لا يغيره عن حكم أصله»
(1)
.
وجاء في المذهب الحنبلي: «كل ما كان أمانة لا يصير مضموناً بشرطه، وما كان مضموناً لا ينتفي ضمانه بشرطه»
(2)
.
واحتج الجمهور على بطلان الشرط:
الدليل الأول:
أن اشتراط الضمان على الأمين شرط ليس في كتاب الله: أي في حكمه.
(ح-1184) وقد روى البخاري من طريق هشام بن عروة، عن أبيه
عن عائشة مرفوعاً في قصة عتق بريرة من حديث طويل، وقوله صلى الله عليه وسلم: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق
(3)
.
وفي رواية: من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له، وإن شرط مائة شرط
(4)
.
ونوقش هذا:
بأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السنة على تحريم اشتراط الضمان في الأمانات، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حراماً؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز.
(1)
معالم السنن (5/ 198).
(2)
المبدع (5/ 145)، الإنصاف (6/ 113)، مطالب أولي النهى (3/ 379).
(3)
صحيح البخاري (2168)، ومسلم (1504).
(4)
صحيح البخاري (456)، مسلم (1504).
الدليل الثاني:
يد الوديع يد أمانة، واشتراط الضمان على الأمين باطل؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد، واشتراط ما ينافي مقتضى العقد يفسده تماماً كما لو اشترط عليه في البيع ألا يتصرف فيه، وفي النكاح ألا يدخل بها.
ويناقش من وجهين:
الوجه الأول:
لا نسلم بأن اشتراط الضمان على الوديع ينافي مقتضى العقد، نعم يصح أن يقال: إنه مخالف لمقتضى العقد، وبينهما فرق، فاشتراط ما ينافي مقتضى العقد لا يصح بحال، كالبيع عليه بشرط ألا يستعمله، ولا يتصرف فيه.
وأما اشتراط ما يخالف مقتضى العقد فإنه لا مانع منه إذا كان الباعث عليه غرضًا صحيحًا، كما لو باع عليه، واشترط عليه ألا يبيعه، وقصد من هذا الشرط نفع المشتري، أو نفع السلعة، فمثال الأول: كما لو كان المشتري إذا ملك شيئاً باعه ولم يحسن التصرف في ثمنه، وأراد البائع أن ينتفع المشتري من المبيع.
ومثال الثاني كما لو باعه حيواناً، وعلم أن المشتري يرفق به، ولم يرغب في بيعه لغيره فلا مانع من اشتراط مثل ذلك على الصحيح، وإن كان شرطاً يخالف مقتضى العقد، وسبق بحث هذه المسألة في عقد البيع، والله أعلم.
الوجه الثاني:
نسلم لكم أن عقود الأمانات المطلقة الأصل فيها عدم الضمان، ولكن إذا التزم الشخص الضمان بالشرط فإنه يلزمه؛ لأنه قد أوجب على نفسه بالشرط ما لا يجب عليه بدونه، والأصل في الشروط الصحة والجواز.
القول الثاني:
يصح اشتراط الضمان على الأمين، وهو قول عبيد الله بن الحسن العنبري
(1)
، وهو مخرج من كلام عام في صحة التزام ضمان الأمانات على وجه العموم، وهو قول في مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد.
جاء في شرح ميارة، تحت عنوان: فصل في العارية والوديعة والأمناء نقلاً عن ابن الحاجب: «وإذا اشترط إسقاط الضمان فيما يضمن، أو إثباته فيما لا يضمن، ففي إفادته قولان»
(2)
.
وجاء في الإنصاف عند الكلام على ضمان العارية، قال: «وكل ما كان أمانة لا يصير مضمونًا بشرطه، هذا المذهب، وعليه الأصحاب
…
وعنه المسلمون على شروطهم كما تقدم»
(3)
.
وفي قول للحنفية صححوا اشتراط الضمان في العارية
(4)
.
° دليل من قال: يصح اشتراط الضمان:
الدليل الأول:
لم يثبت دليل من الكتاب أو من السنة على تحريم اشتراط الضمان في رد الوديعة، وإذا لم يثبت فإن التزام مثل هذا الشرط لا يكون حرامًا؛ لأن الأصل في الشروط الصحة والجواز.
(1)
الذخيرة للقرافي (9/ 138)، الإشراف على مسائل الخلاف (2/ 42)، الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (6/ 347).
(2)
شرح ميارة (2/ 186).
(3)
الإنصاف (6/ 113).
(4)
جاء في تبيين الحقائق (5/ 85): «العارية إذا اشترط فيها الضمان تضمن عندنا في رواية» .
نعم نقل الإجماع في تحريم اشتراط ضمان رأس مال المضاربة؛ مع كونه أمانة في يد العامل؛ لأن ذلك يؤدي إلى الوقوع في الربا كما بينت في مدخل هذه المسألة، ويلحق به اشتراط ضمان العين المستأجرة؛ لأن ذلك يؤدي إلى الوقوع في الغرر، باعتبار أن الضمان في عقود المعاوضات سيكون جزءاً من الأجرة، وهو مجهول، بخلاف الضمان في عقود التبرع، حيث لا يوقع في غرر، وعلى فرض أنه أوقع فيه؛ فإن الغرر في عقود التبرع مغتفر، وقد تبرع به المودع فلا حرج في اشتراطه، والله أعلم.
الدليل الثاني:
(ح-1185) ما رواه الإمام أحمد، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أمية بن صفوان بن أمية،
عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم خيبر أدرعاً، فقال: أغصبا يا محمد؟ فقال: بل عارية مضمونة. قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له فقال: أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام أرغب
(1)
.
وجه الاستدلال:
قياس الوديعة على العارية، وذلك أن العارية ليست مضمونة على الصحيح، بل هي أمانة في يد صاحبها لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، وقد ضمنها النبي صلى الله عليه وسلم بالشرط، فدل على أن الأمانات تضمن بالشرط.
وأجيب بعدة أجوبة:
الجواب الأول:
أن الحديث مضطرب من مسند صفوان.
(1)
المسند (3/ 400).
ورد هذا:
بأن الحديث وإن كان مضطربًا من مسند صفوان، فإنه حسن من مسند جابر رضي الله عنه
(1)
.
الجواب الثاني:
أن الرسول عليه السلام قد أخذ العارية بدون رضا صاحبها، وإذا أخذ شيء بدون رضا صاحبه صح اشتراط الضمان فيه، بخلاف الوديعة فإن المودَع قد دفع الشيء لمصلحته هو، وليس لمصلحة الوديع.
جاء في تبيين الحقائق: «وحديث صفوان كان بغير إذنه لحاجة المسلمين، ولهذا قال «أغصبًا يا محمد.» وعند الحاجة يرخص تناول مال الغير بغير إذنه بشرط الضمان كحالة المخمصة
…
»
(2)
.
الجواب الثالث:
من الشروط الأساسية لصحة القياس أن يكون الأصل المقيس عليه ثابتاً بالنص أو بالإجماع، والعارية قد اختلف العلماء، هل هي مضمونة مطلقاً، أو أمانة في يد صاحبها لا تضمن إلا بالتعدي أو بالتفريط، فإذا كان الأصل مختلفاً فيه فكيف يحتج علينا بالقياس عليه، فقد يقول من يرى أن الأصل في العارية الضمان: إن هذا الحديث دليل على ضمان العواري ولو بدون شرط.
الجواب الرابع:
لو صح الاستدلال بالحديث لكان هناك فرق بين العارية والوديعة، فالعارية
(1)
سبق تخريجه، انظر (ح 906).
(2)
تبيين الحقائق (5/ 85).
يقبضها المستعير لمصلحته، وما قبضه لمصلحته صح اشتراط الضمان عليه، بخلاف الوديعة فإن الوديع يقبضها لمصلحة مالكها، فافترقا.
وعندي أن هذه الأجوبة لا تقوم على رد الاستدلال، فالعارية على الصحيح ليست مضمونة، وإذا صح اشتراط ضمانها، فهو دليل على صحة اشتراط الضمان في عقود الأمانات لكن يشترط في الأمانة المضمونة أن تكون من عقود التبرع، كالوديعة والعارية، ولا يصح الاستدلال بهذا الحديث على صحة اشتراط الضمان في جميع الأمانات كضمان رأس مال المضاربة، أو ضمان العين المستأجرة لما بينا سابقًا، والله أعلم.
القول الثالث:
حكى ابن حبيب عن مطرف في ذلك تفصيلًا: وهو أنه إن كان شرط عليه الضمان لأمر خافه من طريق مخوفة، أو لصوص، أو ما أشبه ذلك، فيلزمه الشرط إن تلف في ذلك المعنى الذي خافه، وإن تلف في سواه، لم يلزمه الشرط
(1)
.
ولم أقف على دليل على هذا التفصيل، ويمكن التماسه بأن اشتراط الضمان مطلقًا لا يصح لما سبق، واشتراط الضمان من أمر خاص كان المالك يحذره من طريق مخوفة أو لصوص فإذا قبله الوديع لزمه الضمان؛ لأن قبول اشتراط الضمان يعني تعهد الوديع للمالك بعدم حدوث ذلك، فإذا حدث هذا المخوف فكأن الوديع قد غرر بالمالك، فلزمه الضمان، والله أعلم.
(1)
انظر المقدمات الممهدات (2/ 252، 473).
° الراجح من الخلاف:
أرى أن القول باشتراط الضمان في عقود التبرع كالعارية والوديعة لا مانع منه، وإذا التزم الوديع والمستعير بالضمان لزمه، والله أعلم.
* * *