الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإِْقْرَارَ مِمَّا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إِلَاّ فِي بَعْضِ مَسَائِل: مِنْهَا الإِْقْرَارُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَالْوَقْفِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ وَالنِّكَاحِ وَإِبْرَاءِ الْكَفِيل وَإِبْرَاءِ الْمَدِينِ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَبْرِئْنِي (1) . فَلَوْ قَال الْمُقَرُّ لَهُ لِلْمُقِرِّ: لَيْسَ لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ، أَوْ لَا عِلْمَ لِي، وَاسْتَمَرَّ التَّكْذِيبُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ.
وَالتَّكْذِيبُ يُعْتَبَرُ مِنْ بَالِغٍ رَشِيدٍ. (2)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ وَكَانَ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِعَيْنٍ - تُرِكَ الْمَال الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ يَدَهُ مُشْعِرَةٌ بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا، وَالإِْقْرَارُ بِالطَّارِئِ عَارَضَهُ التَّكْذِيبُ فَسَقَطَ، فَتَبْقَى يَدُهُ عَلَى مَا مَعَهُ يَدَ مِلْكٍ لَا مُجَرَّدَ اسْتِحْفَاظٍ. وَيُقَابِل الأَْصَحَّ أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْزِعُهُ مِنْهُ وَيَحْفَظُهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ (3) . وَإِذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ جِنْسًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ كَذَّبَ الْمُقِرَّ حَلَفَ الْمُقِرُّ. (4)
أَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْمُقِرُّ بِشَيْءٍ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْ وَارِثُهُ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - أَنَّ الْمُقِرَّ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي إِقْرَارِهِ. وَقِيل: لَا يَحْلِفُ، وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: أَقَرَّ فَمَاتَ فَقَال وَرَثَتُهُ: إِنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا فَلَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ، وَالْمُقَرُّ لَهُ عَالِمٌ بِهِ لَيْسَ لَهُمْ تَحْلِيفُهُ، إِذْ وَقْتَ الإِْقْرَارِ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِمَال الْمُقِرِّ فَصَحَّ الإِْقْرَارُ، وَحَيْثُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ صَارَ حَقًّا لِلْمُقَرِّ لَهُ. (5)
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 469.
(2)
الشرح الصغير 3 / 526 - 527، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 398.
(3)
نهاية المحتاج 5 / 75.
(4)
كشاف القناع 6 / 480.
(5)
حاشية ابن عابدين 4 / 457 - 458.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُقَرُّ بِهِ:
34 -
الْمُقَرُّ بِهِ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ الْعَبْدِ. (1) وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ، وَحَقٌّ لِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ وَلِلْعَبْدِ أَيْضًا.
وَلِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ شُرُوطٌ هِيَ: تَعَدُّدُ الإِْقْرَارِ، وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَالْعِبَارَةُ. حَتَّى إِنَّ الأَْخْرَسَ إِذَا كَتَبَ الإِْقْرَارَ فِيمَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ بِيَدِهِ، أَوْ بِمَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِهَذِهِ الأَْشْيَاءِ يَجُوزُ، بِخِلَافِ الَّذِي اعْتُقِل لِسَانُهُ، لأَِنَّ لِلأَْخْرَسِ إِشَارَةً مَعْهُودَةً فَإِذَا أَتَى بِهَا يَحْصُل الْعِلْمُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنِ اعْتُقِل لِسَانُهُ، وَلأَِنَّ إِقَامَةَ الإِْشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْخَرَسُ ضَرُورَةٌ لأَِنَّهُ أَصْلِيٌّ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الصَّحْوُ حَتَّى يَصِحَّ إِقْرَارُ السَّكْرَانِ، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ مُبَيَّنٌ فِي الْحُدُودِ، وَعِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ الْمَال، مِنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالْقِصَاصِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِهَا مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. فَهِيَ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالشَّرَائِطُ الْمُخْتَصَّةُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إِلَى الْمُقَرِّ بِهِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ الْفَرَاغُ عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ.
فَإِنْ كَانَ مَشْغُولاً بِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ، فَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُهُ مِنْ غَيْرِ
(1) بدائع الصنائع 7 / 223، والمهذب 2 / 343.
رِضَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ. (1)
35 -
وَلَمَّا كَانَ الإِْقْرَارُ إِخْبَارًا عَنْ كَائِنٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولاً، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ بِغَيْرِ خِلَافٍ. (2) فَلَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، أَوْ جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالأَْرْشِ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالْمَجْهُول إِخْبَارًا عَنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ لأَِنَّهُ هُوَ الْمُجْمَل، فَكَانَ الْبَيَانُ عَلَيْهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً، لأَِنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَصْل.
36 -
لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً، أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُعَيَّنَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَإِلَاّ حَلَّفَهُ عَلَيْهَا إِنْ أَرَادَ، لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالاً آخَرَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَإِلَاّ حَلَّفَهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا عَيَّنَهُ، لأَِنَّهُ أَبْطَل إِقْرَارَهُ بِالتَّكْذِيبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قَال: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ، يُصَدَّقُ
(1) البدائع 7 / 224.
(2)
البدائع 7 / 214، ورد المحتار 4 / 450، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه 5 / 4، وتكملة الفتح والهداية 6 / 285، وحاشية الدسوقي 3 / 410، والتاج والإكليل 5 / 230 - 231، ومواهب الجليل 5 / 231، ونهاية المحتاج 5 / 286، والمهذب 2 / 344، والمغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 453، 465، والإنصاف 12 / 204.
(3)
سورة القيامة / 18 - 19.
فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ؛ لأَِنَّ الْمَال اسْمُ مَا يُتَمَوَّل، وَهَذَا يَقَعُ عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلاً وَمُنْفَصِلاً. (1) وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَال الزَّكَوِيِّ، وَأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ مَالِكٍ حَكَوْا عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا كَغَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالثَّانِي: لَا يُقْبَل إِلَاّ أَوَّل نِصَابٍ مِنْ نُصُبِ الزَّكَاةِ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَالثَّالِثُ: مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ وَيَصِحُّ مَهْرًا. (2)
وَيَقُول الزَّيْلَعِيُّ: لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَل مِنْ دِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ مَا دُونَهُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَال عَادَةً وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ.
وَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَالْوَاجِبُ نِصَابٌ، لأَِنَّهُ عَظِيمٌ فِي الشَّرْعِ حَتَّى اعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، لأَِنَّهُ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ، وَهُوَ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ وَيَصْلُحُ مَهْرًا. (3)
وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا بَيَّنَ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ اعْتُبِرَ رُجُوعًا، وَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنِ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ. (4)
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ حَقٍّ، وَقَال: أَرَدْتُ حَقَّ
(1) البدائع 7 / 214، ورد المحتار 4 / 450، وتبيين الحقائق 5 / 4 - 5، ونهاية المحتاج 5 / 86، والمغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 476.
(2)
المغني 5 / 188 - 189.
(3)
تبيين الحقائق 5 / 5.
(4)
تكملة الفتح والهداية 6 / 285.
الإِْسْلَامِ، لَا يَصِحُّ إِنْ قَالَهُ مَفْصُولاً، وَيَصِحُّ إِنْ قَالَهُ مَوْصُولاً. (1)
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: لَكَ أَحَدُ ثَوْبَيْنِ، عَيَّنَ الْمُقِرُّ. فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الأَْدْنَى حَلَفَ إِنِ اتَّهَمَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ بِأَنْ قَال: لَا أَدْرِي. قِيل لِلْمُقَرِّ لَهُ: عَيِّنْ أَنْتَ. فَإِنْ عَيَّنَ أَدْنَاهُمَا أَخَذَهُ بِلَا يَمِينٍ، وَإِنْ عَيَّنَ أَجْوَدَهُمَا حَلَفَ لِلتُّهْمَةِ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ قَال: لَا أَدْرِي، حَلَفَا مَعًا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَاشْتَرَكَا فِيهِمَا بِالنِّصْفِ. (2)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال: لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ، أَوْ فِي هَذَا الْحَائِطِ، أَوْ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِجُزْءٍ مِنْهَا قُبِل تَفْسِيرُهُ، قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا، شَائِعًا كَانَ أَوْ مُعَيَّنًا.
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لأَِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ، فَيُحْبَسُ بِهِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ. وَقَال الْقَاضِي: يُجْعَل نَاكِلاً وَيُؤْمَرُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْبَيَانِ. وَقَالُوا: إِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أُخِذَ وَرَثَتُهُ بِمِثْل ذَلِكَ، لأَِنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ عَلَى مُورَثِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَيَلْزَمُهُمْ مَا لَزِمَ مُورَثَهُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُبَيَّنًا، وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمَيِّتُ تَرِكَةً فَلَا شَيْءَ عَلَى الْوَرَثَةِ. (3)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِمَا لَا يُتَمَوَّل - لَكِنْ مِنْ جِنْسِهِ - كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ، أَوْ بِمَا يَحِل اقْتِنَاؤُهُ
(1) حاشية ابن عابدين 4 / 450، وحاشية الدسوقي 3 / 410، ومواهب الجليل 5 / 231، والتاج والإكليل 5 / 230 - 231.
(2)
التاج والإكليل 5 / 228.
(3)
المغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 453، 480 - 481، والإنصاف 12 / 204.
كَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ، قُبِل فِي الأَْصَحِّ وَيَحْرُمُ أَخْذُهُ وَيَجِبُ رَدُّهُ. وَقِيل: لَا يُقْبَل فِيهِمَا، لأَِنَّ الأَْوَّل لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِكَلِمَةِ " عَلَيَّ "، وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمَالٍ، وَظَاهِرُ الإِْقْرَارِ الْمَال. (1) وَقَالُوا: لَا يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِنَحْوِ عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَرَدِّ سَلَامٍ، إِذْ لَا مُطَالَبَةَ بِهِمَا، وَهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ (2) . أَمَّا لَوْ كَانَ قَال: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، فَإِنَّهُ يُقْبَل لِشُيُوعِ الْحَقِّ فِي اسْتِعْمَال كُل ذَلِكَ. (3)
وَكَذَلِكَ يُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَتَى فَسَّرَ إِقْرَارَهُ بِمَا يُتَمَوَّل فِي الْعَادَةِ قُبِل تَفْسِيرُهُ وَثَبَتَ، إِلَاّ أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَيَدَّعِيَ جِنْسًا آخَرَ أَوْ لَا يَدَّعِيَ شَيْئًا، فَبَطَل إِقْرَارُهُ، وَكَذَا إِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ غَيْرِ جَائِزٍ اقْتِنَاؤُهُ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ، الأَْوَّل: يُقْبَل لأَِنَّهُ شَيْءٌ يَجِبُ رَدُّهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَجِبُ ضَمَانُهُ وَهَذَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ لَمْ يُقْبَل، لأَِنَّ هَذَا لَا يُتَمَوَّل عَادَةً عَلَى انْفِرَادِهِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ وَيَئُول إِلَى مَالٍ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَدِّ قَذْفٍ قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ - وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ - غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِحَدِّ الْقَذْفِ: يَحْتَمِل أَلَاّ يُقْبَل لأَِنَّهُ لَا يَئُول إِلَى مَالٍ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ وَإِنْ فَسَّرَهُ بِرَدِّ سَلَامٍ أَوْ تَشْمِيتِ عَاطِسٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُقْبَل - خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ - لأَِنَّهُ يَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَالُوا:
(1) نهاية المحتاج5 / 86، 87.
(2)
نهاية المحتاج 5 / 81.
(3)
نهاية المحتاج 5 / 88.
يَحْتَمِل أَنْ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ، فَهُمْ فِي هَذَا كَالشَّافِعِيَّةِ. (1)
37 -
وَلَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الأَْصْل وَمَجْهُول الْوَصْفِ، نَحْوَ أَنْ يَقُول: إِنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا مِنَ الْعُرُوضِ، فَيُصَدَّقُ فِي الْبَيَانِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ سَلِيمًا كَانَ أَوْ مَعِيبًا، لأَِنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَادَةً، وَقَدْ بَيَّنَ الأَْصْل وَأَجَّل الْوَصْفَ، فَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ الْوَصْفِ إِلَيْهِ فَيَصِحُّ مُنْفَصِلاً، وَمَتَى صَحَّ بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ (2) وَإِنْ قَال: غَصَبْتُ شَيْئًا فَطَلَبَ مِنْهُ الْبَيَانَ فَفَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ قُبِل، لأَِنَّ اسْمَ الْغَصْبِ يَقَعُ عَلَيْهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ مِمَّا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ. (3)
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ مَا عِنْدَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ رَهْنًا، فَقَال الْمُقَرُّ لَهُ: بَل وَدِيعَةٌ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ (الْمَالِكِ) لأَِنَّ الْعَيْنَ تَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ، وَادَّعَى الْمُقِرُّ دَيْنًا لَا يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، وَلأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ لِغَيْرِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بِهِ تَعَلُّقًا (حَقًّا فِي الاِحْتِبَاسِ) فَلَمْ يُقْبَل، كَمَا لَوِ ادَّعَاهُ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ وَقَال: اسْتَأْجَرْتُهَا، أَوْ بِثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ خَاطَهُ بِأَجْرٍ يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ. لَمْ يُقْبَل لأَِنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا فَلَا يُقْبَل قَوْلُهُ إِلَاّ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنْ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ
(1) المغني 5 / 187، وكشاف القناع 6 / 480 - 481، والإنصاف 12 / 205.
(2)
البدائع 7 / 215.
(3)
المغني 5 / 188.
أَقْبِضْهُ، فَقَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بَل لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ وَلَا شَيْءَ لَكَ عِنْدِي. قَال أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا. الْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ، لأَِنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِالأَْلْفِ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَبِيعًا، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا قَال: هَذَا رَهْنٌ، فَقَال الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ، أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَمْ أَقْبِضْهَا.
الثَّانِي: الْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ فِي مُقَابَلَةِ حَقٍّ لَهُ وَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ. (1)
وَيُصَرِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الإِْقْرَارِ بِالْمَجْهُول تُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِهِ صَحِيحٌ، وَمَا كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْمَعْلُومِ (2) .
38 -
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ أَلَاّ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُقِرِّ حِينَ يُقِرُّ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ لَيْسَ إِزَالَةً عَنِ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ عَلَى الْخَبَرِ، فَلَوْ قَال: دَارِي أَوْ ثَوْبِي أَوْ دَيْنِي الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِعَمْرٍو وَلَمْ يُرِدِ الإِْقْرَارَ فَهُوَ لَغْوٌ، لأَِنَّ الإِْضَافَةَ إِلَيْهِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ لَهُ، فَيُنَافِي إِقْرَارَهُ لِغَيْرِهِ وَيُحْمَل عَلَى الْوَعْدِ بِالْهِبَةِ. وَلَوْ قَال: هَذَا لِفُلَانٍ وَكَانَ مِلْكِي إِلَى أَنْ أَقْرَرْتُ بِهِ، فَأَوَّل كَلَامِهِ إِقْرَارٌ، وَآخِرُهُ لَغْوٌ، فَلْيُطْرَحْ آخِرُهُ فَقَطْ، وَيُعْمَل بِأَوَّلِهِ، لاِشْتِمَالِهِ عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ. (3)
39 -
كَمَا اشْتَرَطُوا لإِِعْمَال الإِْقْرَارِ - أَيِ التَّسْلِيمِ
(1) المغني 5 / 194.
(2)
المغني 5 / 193.
(3)
نهاية المحتاج 5 / 81 - 82.