الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأَْمْوَال، فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالإِْبَاحَةِ وَالإِْذْنِ، كَمَا لَوْ قَال لَهُ: أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ (1) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَال لَهُ: اقْطَعْ يَدِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ، فَلَهُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الإِْبْرَاءِ بَعْدَ الْقَطْعِ، مَا لَمْ يَتَرَامَ بِهِ الْقَطْعُ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ، فَلِوَلِيِّهِ الْقَسَامَةُ وَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ (2) .
17 -
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجَارِحِ: فَقَال الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِل الدِّيَةُ، لأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل، فَكَذَا الأَْمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْل، وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، إِلَاّ أَنَّهُ سَقَطَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ. وَلأَِنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْل وَقَعَ قَتْلاً، وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْقَطْعُ لَا الْقَتْل.
أَمَّا لَوْ عَفَا عَنِ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ (3) .
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ سَرَى الْقَطْعُ الْمَأْذُونُ بِهِ إِلَى النَّفْسِ فَهَدَرٌ؛ لأَِنَّ الْقَتْل الْحَاصِل مِنَ الْقَطْعِ وَالشَّجَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهِمَا يُشْبِهُ الاِنْتِحَارَ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ
(1) البدائع 7 / 236، وابن عابدين 5 / 352، 361، ونهاية المحتاج 7 / 296، ومواهب الجليل 6 / 236، وشرح منتهى الإرادات 3 / 275
(2)
ابن عابدين 5 / 352، والشرح الكبير للدردير 4 / 240، ونهاية المحتاج 7 / 296، والمغني 9 / 496
(3)
ابن عابدين 5 / 361، والشرح الكبير للدردير 4 / 240، ونهاية المحتاج 7 / 296، والمغني 9 / 469 - 470
قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَلأَِنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْل، فَكَذَا الأَْمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْل. وَلأَِنَّ الأَْصَحَّ ثُبُوتُ الدِّيَةِ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ أَسْقَطَهَا بِإِذْنِهِ (1) .
وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَال إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الإِْبْرَاءِ.
أَمْرُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ:
18 -
إِذَا أَمَرَ الإِْنْسَانُ غَيْرَهُ - أَمْرًا لَمْ يَصِل إِلَى دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ - بِقَتْل نَفْسِهِ فَقَتَل نَفْسَهُ، فَهُوَ مُنْتَحِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الآْمِرِ؛ لأَِنَّ الْمَأْمُورَ قَتَل نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ قَال اللَّهُ تَعَالَى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) وَمُجَرَّدُ الأَْمْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الاِخْتِيَارِ وَلَا فِي الرِّضَا، مَا لَمْ يَصِل إِلَى دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ التَّامِّ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الإِْكْرَاهُ عَلَى الاِنْتِحَارِ:
19 -
الإِْكْرَاهُ هُوَ: حَمْل الْمُكْرَهِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ. وَهُوَ نَوْعَانِ: مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ.
فَالْمُلْجِئُ: هُوَ الإِْكْرَاهُ الْكَامِل، وَهُوَ أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى تَلَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ. وَهَذَا النَّوْعُ يُعْدِمُ الرِّضَا، وَيُوجِبُ الإِْلْجَاءَ، وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ (3) .
وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ: هُوَ أَنْ يُكْرِهَهُ بِمَا لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُوجِبُ الإِْلْجَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ. وَالْمُرَادُ هُنَا الإِْكْرَاهُ الْمُلْجِئُ الَّذِي يُعْدِمُ الرِّضَا
(1) نهاية المحتاج 7 / 296، والبدائع 7 / 237
(2)
سورة النساء / 29
(3)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 5 / 181، والبدائع 7 / 175، وأسنى المطالب 3 / 282، ومواهب الجليل 4 / 45، والمغني لابن قدامة 8 / 260
وَيُفْسِدُ الاِخْتِيَارَ.
20 -
إِذَا أَكْرَهَ إِنْسَانٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُل الْمُكْرَهَ، بِأَنْ قَال لَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلَاّ قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الاِنْتِحَارِ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْقَاتِل الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لأَِنَّ الْمُكْرَهَ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَالآْلَةِ بِيَدِ الْمُكْرِهِ فِي الإِْكْرَاهِ التَّامِّ (الْمُلْجِئِ) فَيُنْسَبُ الْفِعْل إِلَى الْمُكْرِهِ وَهُوَ الْمَقْتُول، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَل نَفْسَهُ، كَمَا اسْتَدَل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلأَِنَّ إِذْنَ الْمُكَلَّفِ يُسْقِطُ الدِّيَةَ وَالْقِصَاصَ مَعًا كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ، فَكَيْفَ إِذَا اشْتَدَّ الأَْمْرُ إِلَى دَرَجَةِ الإِْكْرَاهِ الْمُلْجِئِ؟
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لأَِنَّ الْقَتْل لَا يُبَاحُ بِالإِْذْنِ، إِلَاّ أَنَّهُ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ (1) . وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ، وَقَدْ سَبَقَ رَأْيُهُمْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِل إِذَا أَمَرَهُ الْمَقْتُول بِالْقَتْل.
21 -
إِذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُل الْغَيْرُ نَفْسَهُ، بِأَنْ قَال لَهُ: اقْتُل نَفْسَكَ وَإِلَاّ قَتَلْتُكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُل نَفْسَهُ، وَإِلَاّ يُعَدُّ مُنْتَحِرًا وَآثِمًا؛ لأَِنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ عَنِ الْمُكْرَهِ بِهِ، فَكِلَاهُمَا قَتْلٌ، فَلأََنْ يَقْتُلَهُ الْمُكْرِهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْتُل هُوَ نَفْسَهُ. وَلأَِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْقَتْل بِتَرَاجُعِ الْمُكْرِهِ، أَوْ بِتَغَيُّرِ الْحَالَةِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَحِرَ
(1) الوجيز للغزالي 2 / 143، ونهاية المحتاج 7 / 248، 296، وشرح منتهى الإرادات 3 / 275، والبدائع 7 / 179
وَيَقْتُل نَفْسَهُ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا قَتَل نَفْسَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لاِنْتِفَاءِ كَوْنِهِ إِكْرَاهًا حَقِيقَةً، لاِتِّحَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُخَوَّفِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَتْل كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الآْمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ شَرِيكٌ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ قَتْل نَفْسِهِ (1) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، إِذَا قَتَل الْمُكْرَهُ نَفْسَهُ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ (2) .
وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْل نَفْسِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَعْذِيبًا شَدِيدًا كَإِحْرَاقٍ أَوْ تَمْثِيلٍ إِنْ لَمْ يَقْتُل نَفْسَهُ، كَانَ إِكْرَاهًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَزَّارُ، وَمَال إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ (3) .
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: لَوْ قَال لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْجَبَل أَوْ لأََقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَل، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ، لأَِنَّهُ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ، لأَِنَّهُ قُتِل بِالْمُثَقَّل، فَكَذَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لأَِنَّهُ كَالْقَتْل بِالسَّيْفِ عِنْدَهُ. أَمَّا إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا (4) .
(1) نهاية المحتاج7 / 247
(2)
كشاف القناع 5 / 518، ونهاية المحتاج 7 / 247
(3)
نهاية المحتاج7 / 247
(4)
تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي 5 / 190