الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعَلَيْهَا تُبْنَى الثَّمَرَةُ وَكَسْبُ عَبْدٍ حَصَلَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْقَبُولِ، وَنَفَقَتُهُ وَفِطْرَتُهُ، وَيُطَالِبُ الْمُوصَى لَهُ بالنَّفَقَةِ إِنْ تَوَقَّفَ فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ.
فصلٌ [في أحكام الوصية الصحيحة ولفظها]
أَوْصى بِشَاةٍ .. تَنَاوَلَ صَغِيرَةَ الْجُثَّةِ وَكَبِيرَتَهَا، سَلِيمَةً وَمَعِيبَةً، ضَأْنًا وَمَعْزًا، وَكَذَا ذَكَرٌ فِي الأَصَحِّ،
===
جعله للميت؛ فإنه لا يملك، ولا للوارث؛ فإنه لا يملك إلا بعد الوصية والدين، ولا للموصى له، وإلا .. لم يصحَّ رده؛ كالإرث، فتعين وقفه مراعاة.
وقوله: (فإن قبل
…
) إلى آخره: تفسير الوقف، ووجه الأول: التشبيه بالإرث والتدبير، ووجه الثاني: أنه تمليك بعقد فيتوقف على القبول؛ كالبيع، وإذا قلنا بالأول .. فلا يستقر ملكه عليه حتى يقبل؛ كما حكاه العراقيون، وإذا قلنا بالثاني .. فالملك قبله للوارث في الأصحِّ، وقيل: للميت.
(وعليها)؛ أي: على هذه الأقوال (تبنى الثمرة وكسب عبد حصلا بين الموت والقبول، ونفقته وفطرته) فعلى الأول: هما له، وعليه النفقة والفطرة، وإن قلنا بالثاني .. فلا شيء له ولا عليه قبل القبول، أو بالأظهر .. فموقوفة؛ فإن قبل .. فله وعليه، وإلا .. فلا.
(ويطالب الموصى له بالنفقة إن توقف في قبوله وردّه) كما لو امتنع مطلق إحدى زوجتيه من التعيين؛ فإن لم يقبل ولم يرد .. خيّره الحاكم بين القبول والرد، فإن لم يفعل .. حكم عليه بالإبطال؛ كالمتحجر إذا امتنع من الإحياء.
* * *
(فصل: أوصى بشاة) وأطلق ( .. تناول صغيرةَ الجثة وكبيرتها، سليمةً ومعيبة، ضأنًا ومعزًا) لصدق الاسم، (وكذا ذَكَرٌ في الأصحِّ) لأنه اسم جنس؛ كالإنسان، وليست (التاء) فيه للتأنيث، بل للوحدة؛ كحمام وحمامة، ويدل له قولهم: لفظ (الشاة) يذكر ويؤنث، والثاني: المنع؛ نظرًا للعرف؛ فإنه لا يُسمَّى شاة، بل كبشًا
لَا سَخْلَةٌ وَعَنَاقٌ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ: (أَعْطُوهُ شَاةً مِنْ غَنَمِي) وَلَا غَنَمَ لَهُ .. لَغَتْ،
===
أو تيسًا، وهذا ما نص عليه في "الأم"(1).
ومحلُّ الخلاف: ما إذا لم تدل قرينة على المراد؛ فلو قال: (شاة لينزيها على غنمه) .. فذكر، أو (يحلبها) أو (ينتفع بدَرّها ونسلها) .. فأنثى كبيرة تصلح لذلك، ولو قال:(لينتفع بصوفها) .. حمل على الضأن، أو (بشعرها) .. حمل على المعز.
(لا سخلة وعناق في الأصحِّ) لأن كلًّا منهما لا تُسمَّى شاة، كذا علله القاضي الحسين، وكأنه يريد عرفًا، والثاني: يتناولهما؛ لصدق الاسم لغة وشرعًا.
وترجيح الأول تبعا فيه الصَّيْدَلاني (2)، قال الإمام: وهو خلاف مقتضى النصِّ، وقول صاحب "التقريب"، وأئمة العراق ومعظم المراوزة (3)، وخلاف ما صرح به الأصحاب كلُّهم، واختاره السبكي.
و(السخلة): الأنثى من ولد الضأن ما لم يتم لها أربعة أشهر، و (العناق): الأنثى من ولد المعز ما لم يتم لها سنة، و (الجدي): ذكره.
وفهم من كلام المصنف: أنه إذا امتنع في الأنثى .. ففي الذكر أولى.
(ولو قال: "أعطوه شاة من غنمي" ولا غنم له .. لغت) لعدم ما تتعلق به الوصية، وليس المراد: لا غنم له حال الوصية كما يفهمه كلامه، بل لو ملكها بعد الوصية وقبل موته .. صحت على الأصحِّ.
وشمل إطلاقه الإلغاء: ما إذا كان له ظباء، لكن الرافعي حكى وجهين فيما لو قال:(أعطوه شاة من شياهي): وليس له إلا ظباء، قال في "زيادة الروضة":(ينبغي أن يكون الأصحُّ: تنزيل الوصية على واحدة منها)(4).
(1) الأم (5/ 192).
(2)
الشرح الكبير (7/ 81)، روضة الطالبين (6/ 159).
(3)
نهاية المطلب (11/ 165).
(4)
الشرح الكبير (7/ 81 - 82)، روضة الطالبين (6/ 160).
وَإِنْ قَالَ: (مِنْ مَالِي) وَلَا غَنَمَ لَهُ .. اشْتُرِيَتْ لَهُ. وَالْجَمَلُ وَالنَّاقَةُ يَتَنَاوَلَانِ الْبَخَاتِيَّ وَالْعِرَابَ، لَا أَحَدُهُمَا الآخَرَ. وَالأَصَحُّ: تَنَاوُلُ بَعِيرٍ نَاقَةً، لَا بَقَرَةٍ ثَوْرًا، وَالثَّوْرُ لِلذَّكَرِ. وَالْمَذْهَبُ: حَمْلُ الدَّابَّةِ عَلَى فَرَسٍ وَبَغْلٍ وَحِمَارٍ
===
(وإن قال: "من مالي" ولا غنم له .. اشتريت له)(1) أي: اشتري ما ينطلق عليه الاسم عملًا بقوله.
(والجمل والناقة يتناولان البَخَاتيَّ والعِراب) لصدق الاسم (لا أحدهما الآخر) أي: لا يتناول الجمل الناقة ولا عكسه؛ لأن لفظ (الجمل) للذكر، و (الناقة) للأنثى؛ كما قاله الأزهري وغيره (2).
(والأصحُّ: تناول بعيرٍ ناقةً) لأنه لغةً اسم جنس؛ كالإنسان، والثاني: المنع، وهو المنصوص ورجحه كثيرون، وقال الماوردي والإمام والغزالي: إنه المذهب؛ لأنه لا يُسمَّى بعيرًا عرفًا؛ كالجمل (3).
(لا بقرةٍ ثورًا) على الأصحِّ؛ لأن اللفظ موضوع للأنثى، والثاني: يتناول، و (الهاء) للوحدة؛ كثمرة وزبيبة، وهو كالخلاف في الشاة، والتصحيح متعاكس.
وذكر المصنف في "التحرير": اتفاق أهل اللغة على وقوع البقرة على الذكر والأنثى (4) مع حكايته الخلاف هنا، وهو يقدح في تعليلهم الأصحَّ بوضع اللفظ للأنثى.
(والثور للذكر) خاصة لاستعماله فيه لغة وعرفًا.
(والمذهب: حمل الدابة على فرس وبغل وحمار) لشهرة استعمالها في هذه الثلاثة وإن كانت لغة لكلِّ ما دب، وهذا هو المنصوص، وهو مطرد في جميع البلاد على الأصحِّ، وقال ابن سريج: إن المنصوص ذكره الشافعي على عادة أهل مصر في ركوبها جميعًا واستعمال الدابة فيها، وأما سائر البلاد فحيث لا يستعمل اللفظ إلا في
(1) جملة (ولا غنم له) ليست في (ز).
(2)
تهذيب اللغة (11/ 106).
(3)
الحاوي الكبير (10/ 65)، نهاية المطلب (11/ 166)، الوسيط (4/ 439).
(4)
تحرير ألفاظ التنبيه (ص 243).
وَيَتَنَاوَلُ الرَّقِيقُ: صَغِيرًا وَأُنْثَى وَمَعِيبًا وَكَافِرًا وَعُكُوسَهَا، وَقِيلَ: إِنْ أَوْصَى بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ .. وَجَبَ الْمُجْزِئُ كَفَّارَةً. وَلَوْ أَوْصَى بِأَحَدِ رَقِيقِهِ فَمَاتُوا أَوْ قُتِلُوا قَبْلَ مَوْتِهِ .. بَطَلَتْ، وَإِنْ بَقِيَ وَاحِدٌ .. تَعَيَّنَ، أَوْ بِإِعْتَاقِ رِقَابٍ .. فَثَلَاثٌ،
===
الفرس؛ كالعراق .. لا يعطى إلا الفرس، هذا كلُّه عند الإطلاق، فلو قال:(للكَرّ والفرّ) .. فهو للفرس، أو (للحمل) .. حمل على البغل والحمار؛ فإن اعتادوا الحمل على البراذين .. دخلت.
(ويتناول الرقيقُ: صغيرًا وأنثى، ومعيبًا وكافرًا، وعكوسها) لصدق الاسم على الجميع، (وقيل: إن أوصى بإعتاق عبد .. وجب المجزئ كفارة) لأنه المعروف في الإعتاق، بخلاف:(أعطوه عبدًا)، واختاره أبو الطيب وغيره وغلط في "التجربة" من قال:(غيره)، والخلاف في عتق التطوع، فلو قال:(عن كفارة) .. تعين المجزئ فيها.
وقوله: (كفارة) هو منصوب على الحال، أو التمييز.
(ولو أوصى بأحد رقيقه) مبهمًا (فماتوا أو قتلوا قبل موته .. بطلت) الوصية؛ لأنه لا رقيق له، (وإن بقي واحد .. تعيّن) لأنه الموجود، وليس للوارث إمساكه وإعطاؤه قيمة المقتول.
واحترز بقوله: (قبل موته): عما بعد موته، فان كان القتل بعد القبول .. انتقل حقه إلى قيمة أحدهم بخيرة الوارث، أو قبل القبول .. فكذلك إن ملكناه بالموت أو توقفنا، وإلا .. بطلت، قاله الرافعي، قال في "الكفاية": وهو احتمال الإمام، قال هو: إنه لم يصر إليه أحد من الناس (1)، وحكى في "المطلب" ما قاله الرافعي عن المتولي، وحكى الأَذْرَعي وغيره عن القاضي الحسين: أنه لا فرق بين أن نقول: يملك بالموت أو بالقبول.
(أو بإعتاق رقاب .. فثلاث) لأنه أقلُّ الجمع على المرجح، والمراد: أنه أقلُّ ما يكفي ثلاثٌ، قال الشافعي: والاستكثار مع الاسترخاص أولى من الاستقلال مع الاستغلاء، ومعناه: أن إعتاق خمس رقاب قليلة القيمة .. أفضلُ من إعتاق أربع كثيرة
(1) الشرح الكبير (7/ 84)، كفاية النبيه (12/ 229).
فَإِنْ عَجَزَ ثُلُثُهُ عَنْهُنَّ .. فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى شِقْصٌ بَلْ نَفِيسَتَانِ بِهِ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَنْفَسِ رَقَبَتَيْنِ شَيْءٌ .. فَلِلْوَرَثَةِ. وَلَوْ قَالَ: ثُلُثِي لِلْعِتْقِ .. اشْتُرِيَ شِقْصٌ. وَلَوْ وَصَّى لِحَمْلِهَا فَأَتَتْ بِوَلَدَيْنِ .. فَلَهُمَا، أَوْ بِحَيٍّ وَمَيِّتٍ .. فَكُلُّهُ لِلْحَيِّ فِي الأَصَحِّ. وَلَوْ قَالَ:(إِنْ كَانَ حَمْلُكِ ذَكَرًا - أَوْ قَالَ: أُنْثَى - فَلَهُ كَذَا)، فَوَلَدَتْهُمَا .. لَغَتْ
===
القيمة، ولا يجوز صرف ما أوصى به إلى رقبتين مع إمكان ثلاث.
(فإن عجز ثُلُثه عنهن .. فالمذهب: أنه لا يُشترى شقص) أي: لا يسترى مع رقبتين شقص، (بل نفيستان به) أي: يشترى بما أوصى به نفيستان.
(فإن فضل) من الثلث (عن أنفَس رقبتين شيء .. فللورثة) لأن الشقص ليس رقبة، ألا ترى أنه لو أوصى بأن يشترى بثلثه رقبة، فلم يوجد به إلا شقص .. لم يُشتر قطعًا، وقيل: يشترى في مسألتنا الشقص؛ لأنه أقرب إلى غرض الموصي من صرف الفاضل للورثة، واختاره الغزالي، ومال إليه ابن الرفعة، ورجحه السبكي.
وتعبيره بالمذهب: يقتضي حكاية طريقين وليس في "الروضة" و"أصلها" إلّا وجهان (1).
(ولو قال: "ثلثي للعتق" .. اشتُرِي شقص) قطعًا؛ تحصيلًا لغرضه ما أمكن.
(ولو وصى لحملها فأتت بولدين) حيين ( .. فلهما) لأنه مفرد مضاف فعمَّ، ولا يفضل الذكر على الأنثى؛ كما لو وهب لرجل وامرأة شيئًا إلا أن يصرح بالتفضيل.
(أو بحي وميت .. فكلُّه للحي في الأصحِّ) لأن الميت كالمعدوم، والثاني: له النصف والباقي لورثة الموصي؛ كما لو أوصى لحيٍّ وميّت.
(ولو قال: "إن كان حملك ذكرًا - أو قال: أنثى - فله كذا"، فولدتهما .. لغت) لأنه شرط صفة الذكورة أو الأنوثة في جملة الحمل ولم يحصل، ولو ولدت غلامين .. فكذلك عند الغزالي (2)، وقيل: يقسم بينهما، واختاره في "الروضة"(3).
(1) الشرح الكبير (7/ 86)، روضة الطالبين (6/ 166).
(2)
الوسيط (4/ 444).
(3)
روضة الطالبين (6/ 167).
وَلَوْ قَالَ: (إِنْ كَانَ بِبَطْنِهَا ذَكَرٌ)، فَوَلَدَتْهُمَا .. اسْتَحَق الذَّكَرُ، أَوْ وَلَدَتْ ذَكَرَيْنِ .. فَالأَصَحُّ: صِحَّتُهَا وَيُعْطِيهِ الْوَارِثُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا. وَلَوْ وَصَّى لِجِيرَانِهِ .. فَلأَرْبَعِينَ دَارًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ
===
بخلاف قوله: إن كان حملها ابنًا .. فله كذا، وإن كان بنتًا .. فلها كذا فولدت ابنين؛ فإنه لا شيء لهما، والفرق: أن الذكر والأنثى اسما جنس يقع على الواحد والعدد، بخلاف الابن والبنت، قال الرافعي: والفرق ليس بواضح، وخالفه المصنف، وقال: إنه واضح (1).
(ولو قال: "إن كان ببطنها ذكر") فله كذا (فولدتهما .. استحقّ الذكر) لأن الصيغة ليست حاصرة للحمل فيه، (أو ولدت ذكرين .. فالأصحُّ: صحتها) لأنه لم يحصر الحمل في واحد، بل حصر الوصية فيه، والثاني: المنع؛ لاقتضاء التنكير التوحيد.
(ويعطيه الوارث من شاء منهما) كما لو وقع الإبهام في الموصى به .. يرجع إلى بيان الوارث، وليس له التشريك بينهما، وقيل: يوزع عليهما، وقيل: يوقف إلى أن يتأهلا للقبول، فيصطلحا.
(ولو وصى لجيرانه .. فلأربعين دارًا من كلِّ جانب) من الجوانب الأربعة؛ لما رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" عن أبي هريرة مرفوعًا: "حَقُّ الْجِوَاِر إِلَى أَرْبَعِينَ دَارًا هَكَذَا وَهَكَذَا، وَهَكَذَا وَهَكَذَا، يَمِينًا وَشِمَالًا، وَقُدَّامًا وَخَلْفًا" وفي إسناده ضعف، لكن له طرق تقويه، ورواه أبو داوود مرسلًا بإسناد صحيح (2).
وقضية كلامه: أن المجموع مئة وستون، وبه صرح القاضي أبو الطيب، ويقسم المال على عدد الدور لا على عدد سكانها؛ كما جزم به في "الروضة"، قال السبكي: وينبغي أن يزاد فيه وتقسم حصة كلِّ دار على عدد سكانها، وما جزم به المصنف هو الصحيح المنصوص (3).
(1) الشرح الكبير (7/ 88)، روضة الطالبين (6/ 167).
(2)
مسند أبي يعلى (5982) عن أبي هريرة رضي الله عنه، مراسيل أبي داوود (342) عن ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى.
(3)
روضة الطالبين (6/ 168).
وَالْعُلَمَاءُ: أَصْحَابُ عُلُومِ الشَّرْعِ مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَفِقْهٍ، لَا مُقْرِئٌ وَطَبِيبٌ وَمُعَبِّرٌ وَأَدِيبٌ،
===
وقيل: هو الملاصق داره، وقيل: من نسب إلى سكنى محلته، وقيل: أهل الزقاق غير النافذ، وقيل: غير ذلك.
(والعلماء) فيما إذا أوصى للعلماء (أصحاب علوم الشرع من تفسير وحديث وفقه) للعرف، والمراد بالتفسير: علم معاني كتاب الله تعالى خبرًا وحكمًا، وبالحديث: العلم بطرقه، ومعانيه، لا من يسمعه ولا علم له بطرقه ومتونه وأسماء رجاله؛ إذ السماع المجرد ليس بعلم، وبالفقه: معرفة الأحكام الشرعية نصًّا واستنباطًا؛ ولهذا لا تدخل فيه الظاهرية كما أجاب به ابن سريج والقاضي الحسين.
ولو أوصى لأعلم الناس .. صرف إلى الفقهاء؛ لتعلق الفقه بأكثر العلوم، قاله الماوردي (1).
وقضية كلام المصنف: الحصر في هذه الثلاثة، وليس كذلك بل يدخل العالم بأصول الفقه؛ كما قاله الصَّيْمَري وصاحب "البيان" لانبناء الفقه عليه (2).
وعدّ الغزالي في مقدمة "المستصفى" من العلم الديني علم الباطن؛ يعني: علم القلب وتطهيره عن الأخلاق الذميمة (3).
(لا مقرئ وطبيب ومُعبِّر وأديب) ومنجم وحاسب ومهندس؛ لأن أهل العرف لا يعدونهم منهم، وكذا العالم باللغة والتصريف، والعروض والقوافي، والمعاني والبيان والبديع، والموسيقا ونحوها.
قال في "المطلب": والمراد بالمقرئ: التالي فقط، أما العالم بالروايات ورجالها .. فكالعالم بطرق الحديث، وقد أفهم كلام "الوسيط" (4): أنه منهم، قال السبكي: وفيه نظر؛ فإن التالي قارئ لا مقرئ، وذكر كلامًا طويلًا، ثم اختار أن
(1) الحاوي الكبير (10/ 214).
(2)
البيان (8/ 228).
(3)
المستصفى (1/ 5).
(4)
الوسيط (4/ 445 - 446).
وَكَذَا مُتَكَلِّم عِنْدَ الأَكْثَرِينَ
===
العلماء بالقراءات علماء قطعًا يصرف إليهم من الوصية للعلماء، ومن الوقف عليهم؛ كما قاله ابن الرفعة، قال: بل هم أولى الناس بهذا، والمراد بالمعبر: مفسر المنام، والأفصح: عابر؛ لأنه يقال: عبرت - بالتخفيف - كما قال تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} .
وبالأديب: النحوي، وقال ابن يونس: ينبغي أن يدخل؛ لانبناء الفقه عليه.
(وكذا متكلم عند الأكثرين) للعرف، ونقله العبادي في "زياداته" عن النصِّ، وقيل: يدخل، ومال إليه الرافعي.
واقتضى كلامه: أن الدليل يقتضي التسوية بينه وبين المحدث والمقرئ، فإما أن يستووا في الدخول كلهم، أو في الخروج، ولأجل هذا التوقف عدل المصنف عن الأصحِّ إلى قوله:(عند الأكثرين).
وقال السبكي ما حاصله: إن العلم بالله وصفاته وما يجب له وما يستحيل عليه؛ ليرد على المبتدعة، ويميز بين الاعتقاد الفاسد والصحيح، وتقرير الحق ونمره .. من أجلِّ العلوم الشرعية، والعالم به من أفضلهم، ويصرف إليه من الوصية للعلماء والوقف عليهم.
ومَنْ دأبُه الجدل والشبه وخبط عشواء في الحق والباطل، والزيادة عليه إلى أن يكون مبتدعًا، أو داعيًا إلى ضلالة .. فذلك باسم الجهل أحق. انتهى.
وهذا هو القسم الذي أنكره الإمام الشافعي رضي الله عنه وقال: لأن يلقى العبدُ ربه بكلِّ ذنب ما خلا الشرك .. خيرٌ من أن يلقاه بعلم الكلام.
وأما القسم الأول: فهو الذي عدوه في (كتاب السير) من فروض الكفايات.
قال السبكي: وكذا الصوفية ينقسمون إلى هذين القسمين، وذكر في ذلك كلامًا نفيسًا، وقال في آخره: ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين؛ كابن عربي وابن سبعين والقطب القونوي والعفيف التلمساني .. فهؤلاء ضلال جهال خارجون عن طريق الإسلام؛ فضلًا عن العلماء (1).
(1) انظر "النجم الوهاج"(6/ 285 - 286)، و "مغني المحتاج"(3/ 80).
وَيَدْخُلُ فِي وَصِيَّةِ الْفقَرَاءِ الْمَسَاكِينُ وَعَكْسُهُ، وَلَوْ جَمَعَهُمَا .. شُرِّكَ نِصْفَيْنِ، وَأَقَلُّ كُلِّ صنْفٍ ثَلَاثَةٌ، وَلَهُ التَّفْضِيلُ. أَوْ لِزَيْدٍ وَالْفُقَرَاءِ .. فَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ كَأَحَدِهِمْ فِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ أَقَلَّ مُتَمَوَّلٍ، لكِنْ لَا يُحْرَمُ
===
(ويدخل في وصية الفقراء المساكينُ وعكسُهُ) فيجوز الصرف لهؤلاء من الوصية لهؤلاء وعكسه، لأن كلَّ واحد من الاسمين يقع على كلٍّ من الفريقين عند الانفراد في العرف.
قال ابن سراقة في "التلقين": وإنما تصرف الوصية لفقراء المسلمين؛ كالزكاة، وهل يختص بها فقراء بلد المال أو يجوز نقلها؟ فيه خلاف مرتب على الخلاف في نقل الزكاة، والمذهب في "أصل الروضة" هنا: الجواز (1)؛ لأن الأطماع لا تمتد إليها امتدادها في الزكاة.
(ولو جمعهما) أي: أوصى للفقراء والمساكين ( .. شُرِّك نصفين) كما في الزكاة، بخلاف ما إذا أوصى لبني زيد وبني عمرو .. فإنه يقسم على عددهم ولا ينصف.
(وأقلُّ كلِّ صنف ثلاثة) لأنه جمع، وأقلُّ الجمع ثلاثة، فلو دفع الوصي إلى اثنين .. غرم للثالث الثلث، أو أقلَّ ما يتمول، فيه الخلاف في نظيره من الزكاة، والمنصوص عليه في "الأم" في مسألتنا: أنه يضمن الثلث؛ كما قاله الماوردي (2)، هذا إذا لم يكونوا محصورين، فإن أوصى لفقراء بلد وهم محصورون .. اشترط استيعابهم والتسوية بينهم؛ كتعيينهم.
(وله التفضيل) بين آحاد كلِّ صنف بحسب الحاجة، ولا تجب التسوية بل يتأكد تفضيل الأشدِّ حاجة وعيالًا.
(أو لزيد والفقراء .. فالمذهب: أنه كأحدهم في جواز إعطائه أقلَّ متموَّل) لأنه ألحقه بهم (لكن لا يحرم) قطعًا وإن كان غنيًّا لنصه عليه.
وقوله: فـ (المذهب): عبر في "الروضة": بالأصحِّ، وحكى في المسألة سبعة
(1) روضة الطالبين (6/ 171).
(2)
الحاوي الكبير (10/ 108).
أَوْ لِجَمْعٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ مُنْحَصِرٍ .. صَحَّتْ فِي الأَظْهَرِ، وَلَهُ الاقْتِصَارُ عَلَى ثَلَاثَةٍ. أَوْ لِأقَارِبِ زَيْدٍ .. دَخَلَ كُلُّ قَرَابَةٍ وَإِنْ بَعُدَ، إِلَّا أَصْلًا وَفَرْعًا فِي الأَصَحِّ،
===
أوجه؛ منها: أن لزيد ربع الوصية؛ لأن أقلَّ من يقع عليه اسم الفقراء ثلاثة، ومنها: أن له النصف ولهم النصف؛ لأنه قابل بينه وبينهم في الذكر، فأشبه ما إذا أوصى لزيد وعمرو (1)، وقد اعتمده السبكي فيما لو وقف على مدرس وإمام وعشرة فقهاء .. فقال: المذهب: أنه يقسم على ثلاثة للعشرة ثلثها.
(أو لجمع معين غيرِ منحصر) كالعلوية (2)، والهاشمية، وبني تميم ونحوها ( .. صحت في الأظهر) كالوصية للفقراء.
(وله الاقتصار على ثلاثة) كما في الفقراء، والثاني: البطلان؛ لأن التعميم يقتضي الاستيعاب وهو ممتنع، بخلاف الفقراء؛ فإن عرف الشرع خصصه بثلاثة فأتبع.
(أو لأقارب زيد .. دخل كلُّ قرابة وإن بعد) ووارثًا وغيره، ومسلمًا وكافرًا، وغنيًّا وفقيرًا وإن بعد؛ لشمول الاسم للكلِّ، ولا يختص هنا بالجمع وإن كان جمعًا حتى لو لم يكن سوى قريبين أو قريب واحد .. أخذ الكلَّ لا القسط في الأصحِّ.
وأفهم قوله: (كل قرابة): وجوب استيعابهم، ومحله: إذا انحصروا، فإن لم ينحصروا .. فكالوصية للعلوية.
(إلا أصلًا وفرعًا في الأصحِّ) إذ لا يسمون أقارب عرفًا، وعبر عنه في "المحرر" بالأظهر (3)، والثاني: يدخلان، وصححه في "الكفاية"؛ لأنهما يدخلان في الوصية لأقرب الأقارب، فكيف لا يكونان من الأقارب؟ ! (4)
قال السبكي بعد أن نقل عن جماعة الجزم به: وهذا أظهر نقلًا وبحثًا، وقال البُلْقيني: إنه المختار، وإن نص "الأم" و"المختصر" ظاهر فيه.
(1) روضة الطالبين (6/ 183).
(2)
قوله: (كالعلوية) في غير (أ) من المتن.
(3)
المحرر (ص 274).
(4)
كفاية النبيه (12/ 206 - 207).
وَلَا تَدْخُلُ قَرَابَةُ أُمٍّ فِي وَصِيَّةِ الْعَرَبِ فِي الأَصَحِّ، وَالْعِبْرَةُ بِأَقْرَبِ جَدٍّ يُنْسَبُ إِلَيْهِ زَيْدٌ، وَتُعَدُّ أَوْلَادُهُ قَبِيلَةً. وَيَدْخُلُ فِي أَقْرَبِ أَقَارِبِهِ الأَصْلُ وَالْفَرْعُ
===
والثالث: لا يدخل الأبوان والأولاد؛ لأن القريب في العرف من انتمى بواسطة، ويدخل الأجداد والأحفاد، قال الرافعي في "الشرحين": وهذا أظهر من جهة النقل حتى إن الأستاذ أبا منصور حكى إجماع الأصحاب عليه، وجعله في "الروضة" الأصحَّ، وقال في "المهمات": إن العمل عليه؛ لتصريح الرافعي بأنه أظهر نقلًا، والمذهب نقل (1).
(ولا تدخل قرابة أم في وصية العرب في الأصحِّ) فإنهم لا يفتخرون بها ولا يعدونها قرابة، والثاني: تدخل؛ كما في وصية العجم، وهذا هو الأصحُّ في "الروضة"، والأقوى في "الشرحين" و"التذنيب"، وبه قطع العراقيون، قال في "المهمات": والفتوى عليه؛ لموافقته ظاهر النص وقول الأكثرين (2).
(والعبرة بأقرب جد ينسب إليه زيد، وتُعدُّ أولاده قبيلة) يعني: أولاد ذلك الجد، فيرتقي في بني الأعمام إلى أقرب جد يعرف به، مثاله: أوصى لأقارب الشافعي في زمانه .. صرف إلى من ينسب إلى شافع؛ لأنه أقرب جد يعرف به الشافعي، ولا يصرف إلى ما ينسب إلى جد بعد شافع؛ كأولاد علي والعباس أخوي شافع؛ لأنهم إنما ينسبون إلى المطلب.
ولو أوصى لأقارب بعض أولاد الشافعي في هذا الوقت .. دخل فيها أولاد الشافعي دون غيرهم من أولاد شافع.
ولو أوصى حسني لأقاربه .. لم يدخل الحسينيون - بالتصغير - أو حسيني لم يدخل الحسنيون - بالتكبير - لأنه لولا ذلك .. أدى إلى دخول جميع الناس؛ فإن آدم يجمعهم.
وخرج بقوله: (ينسب إليه): جدُّ الأم؛ فإنه لا ينسب إليه.
(ويدخل في أقرب أقاربه الأصلُ والفرع) لأن أقربهم هو المنفرد بزيادة القرابة، وهما كذلك.
(1) الشرح الكبير (7/ 99)، روضة الطالبين (6/ 173)، المهمات (6/ 364).
(2)
روضة الطالبين (6/ 174)، الشرح الكبير (7/ 100)، المهمات (6/ 364).
وَالأَصَحُّ: تقدِيمُ ابْنٍ عَلَى أَبٍ، وَأَخٍ عَلَى جَدٍّ، وَلَا يُرَجَّحُ بِذُكُورَةٍ وَوِرَاثَةٍ، بَلْ يَسْتَوِي الأَبُ وَالأُمُّ، وَالابْنُ وَالْبِنْتُ، وَيُقدَّمُ ابْنُ الْبِنْتِ عَلَى ابْنِ ابْنِ الابْنِ. وَلَوْ أَوْصَى لِأقَارِبِ نَفْسِهِ .. لَمْ تَدْخُلْ وَرَثَتُهُ فِي الأَصَحِّ
===
واعترض قوله: (ويدخل في أقرب أقاربه الأصل والفرع) فإنه ليس أقرب الأقارب غيرهما، فكان ينبغي أن يقول: وأقرب الأقارب الأصل والفرع.
وأجيب عنه: بأنهما أقرب الأقارب على الإطلاق، ويصحُّ إطلاق الدخول بمعنى أن كلًّا منهما داخل.
(والأصحُّ: تقديم ابنٍ على أب) لأنه أقوى إرثًا وتعصيبًا، فيقدم الأولاد، ثم أولادهم وإن سفلوا، ويسوى بين أولاد البنين وأولاد البنات، ثم الأبوان، ثم الأجداد إن لم يكن أخ أو أخت، والثاني: يستويان؛ لاستواء درجتهما، فعلى هذا: يقدم الأب على ابن الابن، والأم في ذلك كالأب؛ كما صرح به الجرجاني.
(وأخٍ على جدٍّ) لقوة البنوة، وليس لنا موضع يقدم فيه الأخ على الجد إلا هنا، وفي الولاء، والثاني: يستويان؛ لاستوائهما في الإدلاء، والأخت في ذلك كالأخ؛ كما في "الكفاية" عن الروياني (1).
وإطلاق المصنف الأخ والجد يشمل الأخ للأم والجد للأم، وهو الصحيح، فيجري الخلاف في الجد أب الأب، والجد أب الأم، مع الأخ للأب والأخ للأم.
(ولا يُرجَّح بذكورة ووراثة (2)، بل يستوي الأب والأم، والابن والبنت) والأخ والأخت؛ كما يستوي المسلم والكافر، ويقدم الشقيق على غيره قطعًا، ويستوي الأخ من الأب والأخ من الأم.
(ويقدم ابن البنت على ابن ابن الابن) لأنه أقرب منه.
(ولو أوصى لأقارب نفسه .. لم تدخل ورثته في الأصحِّ) اعتبارًا بعرف الشرع لا بعموم اللفظ، ولأن الوارث لا يوصى له غالبًا، فيختص بالباقين، والثاني: يدخلون؛ لأن اللفظ يتناولهم، ثم يبطل نصيبهم، ويصحُّ للباقين.
(1) كفاية النبيه (12/ 210).
(2)
في (ز): (بذكورة وأنوثة).