الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ اختلاف المتبايعين
إِذَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيع، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّتِهِ كَقَدْرِ الثَّمَنِ، أَوْ صِفَتِهِ، أَوِ الأَجَلِ أَوْ قَدْرِهِ، أَوْ قَدْرِ الْمَبِيعِ وَلَا بَيِّنَةَ .. تَحَالَفَا،
===
(باب اختلاف المتبايعين)
(إذا اتفقا على صحة البيع، ثم اختلفا في كيفيته؛ كقدر الثمن) وما يدعيه البائع أكثر، (أو صفته) كقوله:(بصحاح)، فيقول المشتري:(بل بمكسرة)، أو جنسه كقوله:(بذهب)، فيقول المشتري:(بل بفضة)، (أو الأجل) أي: فيدعي البائع الحلول، والمشتري الأجل، (أو قدره) أي: قدر الأجل كقوله: (إلى شهر)، فيقول المشتري:(بل إلى شهرين)، (أو قدر المبيع) كقوله:(بعتك هذا بمئة)، فيقول:(بل اشتريته مع هذا بمئة)(ولا بينة .. تحالفا) لحديث: "إِذَا اخْتَلَفَ الْبيِّعَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ .. فَهُوَ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ، أَوْ يَتَتَارَكَا" رواه أبو داوود، والحاكم وقال: إنه صحيح (1).
ومعنى التتارك: أن يترك كلٌّ منهما ما يدعيه، وذلك بالفسخ، وفي "مسلم":"لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ .. لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ"(2).
ولا شك أن كلًّا منهما مدع ومدعىً عليه، وتخصيص البيع بالذكر جري على الغالب، فإن التحالف جار في عقود المعاوضات؛ كالسلم والكتابة وغيرهما.
واحترز بقوله: (ولا بينة): عما إذا كانت بينة؛ فإنه يُقضي بها، فإن أقاما بينتين .. فإن عرف أسبقهما تاريخًا .. حكم بها، وإلا .. تساقطتا، وتحالفا.
وأورد على الضابط: اختلافهما في عين المبيع والثمن معًا؛ مثل: (بعتك هذا العبد بمئة درهم)، فيقول:(بل هذه الجاريةَ بعشرة دنانير)، فلا تحالف جزمًا؛ إذا لم يتواردا على شيء مع اتفاقهما على بيع صحيح واختلفا في كيفيته.
(1) سنن أبي داوود (3511)، المستدرك (2/ 45) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
صحيح مسلم (1711)، وهو عند البخاري برقم (4552) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فَيَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِ صَاحِبهِ وَإِثْبَاتِ قَوْلهِ، وَيُبْدَأُ بِالْبَائِعِ -وَفِي قَوْلٍ: بالْمُشْتَرِي، وَفِي قَوْلٍ: يَتَسَاوَيَانِ- فَيتَخَيَّرُ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: يُقْرَعُ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ يَكْفِي كُلَّ وَاحِدٍ يَمِينٌ تَجْمَعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَيُقَدَّمُ النَّفْيُ فَيَقُولُ:(مَا بِعْتُ بِكَذَا وَلَقَدْ بِعْتُ بِكَذَا). وَإِذَا تَحَالَفَا .. فالصَّحِيحُ: أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ،
===
ولو اختلفا في عين المبيع فقط .. تحالفا إن كان الثمن مُعيَّنًا، وإن كان في الذمة .. فوجهان في "الروضة" هنا بلا ترجيح، ورجح في الشرح الصغير التحالف (1).
(فيحلف كلٌّ على نفي قول صاحبه وإثباتِ قوله) لما مرّ من كون كلٍّ منهما مدعيًا ومدعىً عليه، فينفي ما ينكره، ويثبت ما يدعيه.
(ويُبدأ بالبائع) ندبًا على الأصح؛ لقوة جانبه؛ لأن ملكه الثمن تمّ بالعقد، ويعود المبيع إليه بالتحالف.
(وفي قول: بالمشتري) لأنه يطالب بزيادة ثمن، والأصل: براءة ذمته عنها.
(وفي قول: يتساويان) لأن كلًّا منهما مدع ومدعىً عليه، فلا ترجيح (فيتخير الحاكم) أي: تفريعًا على هذا؛ كما لو تداعيا عينًا في يديهما .. فإن الحاكم يبدأ بيمين من شاء منهما، (وقيل: يُقرع) كما يقرع بينهما في الدعوى إذا جاءا معًا إلى مجلسه.
(والصحيح: أنه يكفي كلَّ واحد يمين تجمع نفيًا وإثباتًا) لأنه أقرب إلى فصل الخصومة، والثاني: يفرد النفي بيمين، والإثبات بأخرى، لأنه مدع ومدعىً عليه.
(ويُقدَّم النفي) استحبابًا؛ لأن الأصل في الأيمان يمين المدعى عليه (فيقول) البائع: ("ما بعت بكذا ولقد بعت بكذا") ويقول المشتري: (ما اشتريت بكذا، ولقد اشتريت بكذا).
(وإذا تحالفا .. فالصحيح: أن العقد لا ينفسخ) بنفس التحالف، لما رواه النسائي من حديث ابن مسعود:(أنه صلى الله عليه وسلم أمر البائع أن يحلف، ثم يختار المبتاع؛ إن شاء .. أخذ، وإن شاء .. ترك) وصححه الحاكم (2).
(1) روضة الطالبين (3/ 577).
(2)
سنن النسائي (7/ 303)، المستدرك (2/ 48)، وأخرجه البيهقي (4/ 48).
بَلْ إِنْ تَرَاضَيَا، وإِلَّا .. فَيَفْسَخَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوِ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَفْسَخُهُ الْحَاكِمُ، ثُمَّ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ، فَإِنْ كَانَ وَقَفَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ أَوْ مَاتَ .. لَزِمَهُ قِيمَتُهُ، وَهِيَ قِيمَةُ يَوْمِ التَّلَفِ فَي أَظْهَرِ الأَقْوَالِ،
===
ولأن البينة أقوى من اليمين، ولو أقام كلٌّ منهما بينة .. لم ينفسخ، فبالتحالف أولى.
والاستدلال بالحديث المذكور: استدل به الإسنوي وغيره، وفيه نظر؛ لأن الخيار في الحديث إنما هو بعد حلف البائع فقط، لا بعد حلفهما، والثاني: ينفسخ؛ كما ينفسخ النكاح بتحالف الملاعنين.
(بل إن تراضيا) بأحد الثمنين أُقرّ العقد عليه (وإلا .. فيَفسخانه أو أحدهما) لأنه فسخ لاستدراك الظُّلامة، فأشبه الردَّ بالعيب (أو الحاكم) لقطع النزاع، (وقيل: إنما يفسخه الحاكم) ونقله في "المهمات" عن تصحيح الأكثرين، واختاره السبكي؛ لأنه مجتهد فيه فأشبه العُنَّة كذا قاله الرافعي هنا (1)، لكن الأصح في (كتاب النكاح): جواز انفراد المرأة بالفسخ بعد ثبوتها بين يدي الحاكم (2). والأشبه في "المطلب": أن الفسخ ليس على الفور.
(ثم) بعد الفسخ (على المشتري ردُّ المبيع) إن كان قد قبضه وهو باق بحاله بزيادته المتصلة، وتسلم له المنفصلة؛ كالولد والثمر، وهكذا حكم الثمن إن كان قد قبضه البائع؛ ليصل كلُّ مالك إلى ملكه.
(فإن كان وقفه أو أعتقه أو باعه أو مات .. لزمه قيمتُه) وإن جاوزت الثمن المدعى به على الصحيح؛ لقيامها مقامه، هذا إذا كان مُتقوَّمًا، فإن كان مثليًّا .. قال في "المطلب": فالمشهور: وجوب المثل، وبه جزم في "الكفاية"، وحكى صاحب "المعين" فيه الاتفاق، وقال الماوردي: يرد القيمة، وزيفه السبكي (3).
(وهي قيمة يوم التلف في أظهر الأقوال) لأن مورد الفسخ هو العين، والقيمة بدل
(1) المهمات (5/ 279)، الشرح الكبير (4/ 384).
(2)
الشرح الكبير (8/ 165).
(3)
كفاية النبيه (9/ 302)، الحاوي الكبير (6/ 372).
وَإِنْ تَعَيَّبَ .. رَدَّهُ مَعَ أَرْشِهِ، وَاخْتِلَافُ وَرَثَتِهِمَا كَهُمَا. وَلَوْ قَالَ: بِعْتكهُ بِكَذَا، فَقَالَ: بَلْ وَهَبْتَنِيهِ .. فَلَا تَحَالُفَ، بَلْ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى نَفْيِ دَعْوَى الآخَرِ. فَإِذَا حَلَفَا .. رَدَّهُ مُدَّعِي الْهِبَةِ بِزَوَائِدِهِ. وَلَوِ ادَّعَى صِحَّةَ الْبَيْعِ وَالآخَرُ فَسَادَهُ .. فَالأَصَحُّ: تَصْدِيقُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ بِيَمِينِهِ
===
عنها، فإذا فات الأصل .. تعين النظر في القيمة إلى ذلك الوقت، والثاني: قيمة يوم القبض؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة أو نقصان .. فهو في ملكه، والثالث: أقلُّ قيمة من العقد إلى القبض، والرابع: أقصي قيمة من يوم القبض إلى التلف؛ لأن يده يدُ ضمان، فيعتبر أعلى القيم، وهو مبني على ارتفاع العقد من أصله.
(وإن تعيب .. ردَّه مع أرشه) وهو قدر ما نقص من القيمة؛ إذ الكلُّ مضمون بها، فبعضه ببعضها.
(واختلاف ورثتهما كهُما) لأنها يمين في المال، فقام الوارث مقام المورث؛ كاليمين في دعوى المال.
(ولو قال: "بعتكه بكذا"، فقال: "بل وهبتنيه" .. فلا تحالُف) لأنهما لم يتفقا على عقد واحد، (بل يحلف كلٌّ على نفي دعوى الآخر) كسائر الدعاوي.
(فإذا حلفا .. ردَّه مدعي الهبة بزوائده) المتصلة والمنفصلة؛ لأنه لا ملك له.
(ولو ادعى صحةَ البيع، والآخرُ فساده .. فالأصحُّ: تصديق مدعِي الصحة بيمينه) إذ الظاهر في العقود الجارية بين المسلمين هو الصحة، والثاني: يصدق مدعي الفساد؛ إذ الأصل عدم العقد الصحيح.
وهذا الخلاف يجري في سائر عقود المعاوضات؛ كالإجارة والنكاح ونحوهما.
فلو قال: (ولو ادعى صحة العقد) .. لكان أولى، وما رجحه نصَّ عليه في "البويطي"، ونسبه في "الروضة" للأكثرين وظاهر النص (1).
وفرق ابن الصلاح بين أن يُسند الفسادَ مدعيه إلى أمر زائد مفسد فلا يصدق؛ لأن الأصل عدمه، وبين أن يسنده إلى اختلال ركن أو شرط فيصدق؛ للأصل قال: وهذا
(1) روضة الطالبين (3/ 579).
وَلَوِ اشْتَرَي عَبْدًا فَجَاءَ بِعَبْدٍ مَعِيبٍ لِيَرُدَّهُ، فَقَالَ الْبَائِعُ:(لَيْسَ هَذَا الْمَبِيعَ) .. صُدِّقَ الْبَائِعُ، وَفِي مِثْلِهِ فِي السَّلَمِ يُصَدَّقُ الْمُسْلِمُ فِي الأَصَحِّ
===
هو الذي استقر عليه الرأي، واعتمدتُ عليه في الفتوى، وقد سبقه إلى ذلك البَنْدَنيجي والمَحاملي والجرجاني.
ويستثنى من تصحيح قول مدعي الصحة مسائل: منها: ما لو باع ذراعًا من أرض فادعى البائع أنه أراد ذراعًا مُعيَّنًا حتى لا يصحّ العقد، وادعى المشتري الإشاعة ليصحّ .. فأرجح الاحتمالين في "زيادة الروضة": تصديق البائع حتى يفسد البيع؛ لأنه أعلم بإرادته (1)، ومنها: إذا اختلفا أن الصلح وقع على الإنكار أو الاعتراف .. فإن الصواب في "زيادة الروضة": تصديق مدعي وقوعه على الإنكار؛ لأنه الغالب (2)، ومنها: إذا قال السيد: (كاتبتك وأنا مجنون أو محجور علي)، وقال المكاتب:(كنت في حال الكمال)، وعُرف للسيد حالةُ جنون أو حجر .. فالقول قول السيد؛ كما جزم به المصنف في (الكتابة)، قال الأَذْرَعي: ولا اختصاص لهذا بهذه الصورة، بل الحكم كذلك في البيع وغيره من العقود.
(ولو اشترى عبدًا فجاء بعبد معيب ليرده، فقال البائع: "ليس هذا المبيعَ" .. صدق البائع) لأن الأصل السلامةُ وبقاء العقد.
(وفي مثله في السلم يصدق المُسلِم في الأصحِّ) لأن اشتغال ذمة المسلم إليه بالمسلم فيه معلوم، والبراءة غير معلومة؛ لأنه لم يعترف بقبض ما ورد العقد عليه، وفي البيع اتفقا على قبض ما اشتراه، وتنازعا في سبب الفسخ، والأصل: عدمه، والثاني: يصدق المسلم إليه؛ كالبيع (3).
* * *
(1) روضة الطالبين (3/ 362).
(2)
روضة الطالبين (4/ 199).
(3)
بلغ مقابلة على أصل مؤلفه، أيده الله تعالى. اهـ هامش (أ).