الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ الصُّلْح
هُوَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: صُلْحٌ عَلَى إِقْرَارٍ، فَإِنْ جَرَى عَلَى عَيْنٍ غَيْرِ الْمُدَّعَاةِ. . فَهُوَ بَيع بِلَفْظِ الصُّلْحِ تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ؛ كَالشُّفْعَةِ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَمَنعْ تَصَرُّفِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ إِنِ اتَّفَقَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا. أَوْ عَلَى مَنْفَعَةٍ. . فَإِجَارَةٌ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا.
===
(باب الصلح)
هو لغة: قطع المنازعة، وشرعًا: العقد الذي تنقطع به خصومة المتخاصمين.
والأصل فيه قبل الإجماع: قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا" رواه أبو داوود، وصححه ابن حبان (1).
والصلح الذي يُحلُّ الحرام: أن يصلح على خمر ونحوه، أو من دراهم على أكثر منها، والذي يُحرِّم الحلال: أن يصالح زوجته على ألا يطلقها، ونحو ذلك.
(هو قسمان: أحدهما: يجري بين المتداعيين، وهو نوعان: أحدهما: صلح على إقرار، فإن جرى على عينٍ غيرِ المُدَّعاة. . فهو بيع بلفظ الصلح تثبت فيه أحكامه؛ كالشفعة، والرد بالعيب، ومنع تصرفه قبل قبضه، واشتراط التقابض إن اتفقا في علة الربا) وغير ذلك من أحكامه؛ لأن حدَّ البيع صادق عليه.
وقوله: (على عين) يفهم أنه لو صالح عن عين بدين موصوف. . لا يكون بيعًا، وهو كذلك، بل يكون سلمًا؛ كما نقله الإسنوي عن ابن جرير، واعترض به على ما اقتضاه كلام "الروضة" من كونه بيعًا (2).
(أو على منفعة) أي: صالح من العين المدعاة على منفعة دار أو خدمة عبد مدة معلومة (. . فإجارة تثبت أحكامُها) لأن حدَّ الاجارة صادق على ذلك.
(1) سنن أبي داوود (3594)، صحيح ابن حبان (5091) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي (1352)، وابن ماجه (2353) عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه.
(2)
المهمات (5/ 448).
أَوْ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ. . فَهِبَةٌ لِبَعْضهَا لِصاحِبِ الْيَدِ فَتَثْبُتُ أَحْكَامُهَا. وَلَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الْبَيع، وَالأَصَحُّ: صحَّتُهُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَلَوْ قَالَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ خُصُومَةٍ: (صَالِحْنِي عَنْ دَارِكَ بِكَذَا). . فَالأَصَحُّ: بُطْلَانُهُ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى عَيْنٍ. . صَحَّ.
===
(أو على بعض العين المُدَّعاة. . فهبة لبعضها لِصَاحب اليد فتثبت أحكامُها) المقررة في بابها من اشتراط القبول وغيره؛ لصدق الحدِّ، وهذا يُسمَّى صلح الحطيطة.
واحترز بـ (المدعاة) عما إذا صالح على بعض عين أخرى. . فإنه بيع إن ادعى عينًا أو دينًا، وإجارة إن ادعى منفعة.
وقوله: (فهبة) أي: إذا عقد بلفظ الهبة أو التمليك وشبههما، فإن عقد بلفظ البيع أو الصلح. . فسيأتي.
(ولا يصحُّ بلفظ البيع) لأن العين كلَّها ملك المقر له، فإذا باعها ببعضها. . فقد باع ملكه بملكه، أو باع الشيء ببعضه، وهو مُحال.
(والأصحُّ: صحتة بلفظ الصلح)؛ لأن الخاصية التي يفتقر لها لفظ الصلح هي سبق الخصومة، وقد حصلت ويكون هبة؛ تنزيلًا لهذا اللفظ في كلِّ موضع على ما يليق به؛ كلفظ التمليك، والتاني: لا يصحُّ؛ لأن الصلح يتضمن المعاوضة، ومُحالٌ أن يقابل الإنسان ملكه ببعضه.
(ولو قال من غير سبق خصومة: "صالحني عن دارك بكذا"، فالأصحُّ: بطلانه) لأن لفظ الصلح يستدعي سبقَ الخصومة، والثاني: يصحُّ؛ نظرًا إلى المعنى، قالا: وكأن الخلاف عند عدم النية، فأما إذا استعملاه ونويا البيع. . فإنه يكون كناية بلا شك (1)، ورده في "المطلب"، وقطع بعدم التخريج؛ لكون اللفظ منافيًا للمعنى، فأشبه ما إذا قال:(وهبتك بعشرة)، ونويا البيع. . فإنه لا يصحُّ إذا نظرنا إلى اللفظ.
(ولو صالح من دين) يجوز الاعتياض عنه (على عين. . صحَّ) كما يجوز بيع الدين بالعين.
(1) الشرح الكبير (5/ 87)، روضة الطالبين (4/ 194).
فَإِنْ تَوَافَقَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا. . اشْتُرِطَ قَبْضُ الْعِوَضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنًا. . لَمْ يُشْتَرَطْ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فِي الأَصَحِّ، أَوْ دَيْنًا. . اشْتُرِطَ تَعْيِينُهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَفِي قَبْضِهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ صَالَحَ مِنْ دَيْنٍ عَلَى بَعْضهِ. . فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَنْ بَاقِيهِ. وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإِبْرَاءِ وَالْحَطِّ وَنَحْوِهِمَا، وَبِلَفْظِ الصُّلْحِ فِي الأَصَحِّ.
===
وقوله: (على عين) كذا هو في نسخة المصنف تبعًا لـ "المحرر"(1)، وصوابه كما في "الشرح" و"الروضة":(على غيره) بالغين المعجمة، وبالهاء في آخره؛ فإنه قسمه بعد هذا إلى عين ودين (2).
(فإن توافقا) أي: الدين المصالح عنه، والعوض المصالح عليه (في علة الربا) كذهب عن فضة (. . اشتُرط قبض العوض في المجلس) فمتى تفرقا قبل قبضه. . بطل الصلح.
(وإلا) أي: وإن لم يتفقا في علة الربا؛ كالذهب بالحنطة (فإن كان العوض عينًا. . لم يُشترط قبضُه في المجلس في الأصحِّ، أو دينًا) كصالحتك عن دراهمي عليك بكذا حنطة (. . اشتُرط تعيينه في المجلس، وفي قبضه الوجهان) لما مرَّ في الكلام على الاستبدال عن الثمن.
(وإن صالح من دين على بعضه. . فهو إبراء عن باقيه) لأنه معناه، وقد علم من كلامه أن الصلح ينقسم إلى معاوضة وحطيطة؛ كالعين.
(ويصحُّ بلفظ الإبراء والحطِّ ونحوهما) كالإسقاط، والوضع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك لما طلب ماله من ابن أبي حَدْرَد:"ضَعِ الشَّطْرَ" متفق عليه من حديثه (3).
(وبلفظ الصلح في الأصحِّ) بأن يقول: (صالحتك عن الألف التي لي عليك على خمس مئة)، وتوجيه الخلاف مرَّ في صلح الحطيطة عن العين، ولا يصحُّ هذا المصنف بلفظ البيع كنظيره من العين.
(1) المحرر (ص 182).
(2)
الشرح الكبير (5/ 85)، روضة الطالبين (4/ 193).
(3)
صحيح البخاري (457)، صحيح مسلم (1558).
وَلَوْ صَالَحَ مِنْ حَالٍّ عَلَى مُؤَجَّلٍ مِثْلِهِ أَوْ عَكَسَ. . لَغَا، فَإِنْ عَجَّلَ الْمُؤَجَّلَ. . صَحَّ الأَدَاءُ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ عَشَرَةٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسَةٍ مُؤَجَّلَةٍ. . بَرِئَ مِنْ خَمْسَةٍ وَبَقِيَتْ خَمْسَةٌ حَالَّةٌ، وَلَوْ عَكَسَ. . لَغَا. النَّوْعُ الثَّانِي: الصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ، فَيَبْطُلُ إِنْ جَرَى عَلَى نَفْسِ الْمُدَّعَى،
===
(ولو صالح من حالٍّ على مؤجلٍ مثله) أي: جنسًا وقدرًا وصفة (أو عكس) أي: صالح من مؤجل على حالٍّ مثله (. . لغا) لأن الأول وعد من رب المال بإلحاق الأجل، والثاني وعد من المديون بإسقاطه، فلا أثر له.
(فإن عجَّل المؤجل. . صحَّ الأداء) لصدور الإيفاء والاستيفاء من أهلهما، هذا إذا لم يظنَّ صحةَ الصلح، ووجوب التعجيل، فإن ظنه. . ففيه اضطراب في الترجيح، نبه عليه في "المهمات" في أوائل الباب الثالث من أبواب (البيع)(1).
(ولو صالح من عشرةٍ حالّة على خمسة مؤجلة. . برئ من خمسة، وبقيت خمسة حالّة) لأنه سامح بحطِّ البعض وبتأجيل الباقي، والحطُّ صحيح، بخلاف التأجيل.
(ولو عكس) أي: صالح من عشرة مؤجلة على خمسة حالّة (. . لغا) لأن صفة الحلول لا يصحُّ إلحاقها والخمسة الأخرى إنما تركها في مقابلة ذلك، فإذا لم يحصل الحلول. . لا يصحُّ الترك.
(النوع الثاني: الصلح على الإنكار، فيبطل إن جرى على نفس المدَّعى).
اعلم: أن صورة الصلح على الإنكار: أن يدعي عليه دارًا مثلًا فينكر، ثم يتصالحا على ثوب، أو دين مع بقاء الإنكار، ووجه بطلانه: أنه إن كان المدعي كاذبًا. . فقد استحلَّ من المدعى عليه مالَه، وهو حرام، وإن كان صادقًا. . فقد حرم عليه مالَه، فدخل في قوله عليه الصلاة والسلام:"إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا"(2).
وسكوت المدعى عليه كإنكاره، كما حكاه في "المطلب" عن سُليم وغيره.
وقوله: (نفس المدَّعى) لا يستقيم فإن (على) و (الباء) يدخلان على المأخوذ، و (من) و (عن) على المتروك، والمصالح عليه هنا المأخوذ لا المتروك،
(1) المهمات (5/ 121).
(2)
سبق تخريجه (ص 197).
وكَذَا إِنْ جَرَى عَلَى بَعْضِهِ فِي الأَصَحِّ. وَقَوْلُهُ: (صَالِحْنِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي تَدَّعِيهَا) لَيْسَ إِقْرَارًا فِي الأَصَحِّ. الْقِسْمُ الثَّانِي: يَجْرِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَأَجْنَبِيٍّ: فَإِنْ قَالَ: (وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ وَهُوَ مُقِرٌّ لَكَ). . صَحَّ،
===
وصوابه: على غير المدَّعى بالغين المعجمة، وكذا هو في "المحرر" و"الشرح" و"الروضة"(1).
وكأن (الراء) تصحفت على المصنف بـ (النون) فعبر عنه بالنفس (2).
(وكذا إن جرى على بعضه في الأصحِّ) قياسًا على غيره، والثاني: يصحُّ؛ لاتفاقهما على أن البعض مستحق للمدعي، ولكنهما مختلفان في جهة الاستحقاق؛ لأن المدعي يزعم استحقاق الكلِّ، وأنه وهب البعض للمدعى عليه، والمدعى عليه يزعم العكس، واختلافهما في الجهة لا يمنع الأخذ.
(وقوله: "صالحني عن الدار التي تدعيها" ليس إقرارًا في الأصحِّ) لأنه قد يريد قطع الخصومة لا غير، والثاني: نعم؛ كما لو قال: (ملكنيها).
فعلى الأول: يكون الصلح بعد هذا الالتماس صلحَ إنكار، ولو قال:(بعْينها). . فإقرار في الأصحِّ.
(القسم الثاني: يجري بين المدعي وأجنبي: فإن قال: "وكَّلَني المدَّعى عليه في الصلح، وهو مقر لك". . صحَّ) لأن قول الإنسان في دعوى الوكالة مقبول في جميع المعاملات؛ كما قاله الرافعي (3)، ثم إن كان صادقًا في الوكالة. . صار المدَّعى ملكًا للمدعى عليه، وإلا. . فهو شِراء فضولي، وقد سبق حكمه في البيع.
وقوله: (وهو مقر) يشمل ما إذا وقع الإقرار في الظاهر، وما إذا أقر عند الأجنبي الذي وكَّله فقط، ولم يظهره؛ خوفًا من أخذ المالك له، وقد صرح بالقسمين في "المحرر"(4).
(1) المحرر (ص 183)، الشرح الكبير (5/ 90)، روضة الطالبين (4/ 198).
(2)
أي: في لفظة (غير)، فأتى بمرادف لفظة (العين).
(3)
الشرح الكبير (5/ 93).
(4)
المحرر (ص 183).
وَلَوْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ. . صَحَّ وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ.
===
وأورد على إطلاقه اعتبارَ الإقرار: ما لو قال الأجنبي: (وكلني في المصالحة لقطع الخصومة، وأنا أعلم أنه لك). . فإنه يصحُّ الصلح في الأصحِّ عند الماوردي، وجزم به في "التنبيه"، وأقره في "التصحيح"(1)، وما لو قال:(هو منكر ولكنه مبطل في إنكاره، فصالحني له على عبدي هذا لتنقطع الخصومة)، وكان المدعى دينًا. . فإن المذهب: صحة الصلح، بخلاف ما إذا كان المدعى عينًا.
والفرق: أنه لا يمكن تمليك الغير عينَ مال بغير إذنه، ويمكن قضاء دينه بغير إذنه.
وأورد على اعتبار التوكيل: ما لو قال: (هو منكر ولكنه مبطل في الإنكار، فصالحني عن الألف الذي لك عليه على عبدي هذا). . فإنه يصحُّ وإن كان بغير إذنه؛ كما ذكره في "زيادة الروضة"، لأن قضاء دين غيره بغير إذنه جائزٌ (2).
(ولو صالح لنفسه والحالةُ هذه) أي: والحالة: أن الأجنبي قائل بأنه مقر لك (. . صحَّ، وكأنه اشتراه) لأن الصلح وقع بعد دعوى وجواب لها، وقال الجويني: يأتي فيه الخلافُ فيما إذا قال من غير سبق خصومة: (صالحني) لأن الأجنبي لم يخاصم (3).
وصورة المسألة: أن يكون المدعى به عينًا، فإن كان دينًا. . ففيه الخلاف في بيع الدين لغير من عليه.
وقوله: (وكأنه اشتراه) كذا في "المحرر"، وفي "الشرحين"، و"الروضة":(كما لو اشتراه)(4)، ولا معنى للتشبيه؛ فإنه شراء حقيقة (5).
(1) الحاوي الكبير (8/ 44)، التنبيه (ص 73).
(2)
روضة الطالبين (4/ 200).
(3)
نهاية المطلب (6/ 454).
(4)
المحرر (ص 183)، الشرح الكبير (5/ 93)، روضة الطالبين (4/ 200).
(5)
قال المنكت: وعبارة الكتاب أحسن؛ فإنه شراء حقيقة، فلا معنى للتشبيه، وعكسه ابن الملقن فقال: إن عبارة "الشرحين"، و"الروضة" هي الصواب، لأنه شراء حقيقة فلا معنى للتشبيه. انتهى، ويمكن أن يقال: في كلا العبارتين التشبيه فليست إحداهما أصوب من الأخرى. اهـ هامش (أ).