الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما مِنْ نبي إلّا وله في هذه القرائن الحالية والمَقاليةِ العجائب، والساحِر على العكس من ذلك كله. (168)
القاعدة الحاديةَ عشرةَ:
في تقرير معْنَى الزهد
. (169)
إعلم أن االزهد ليس عدَمَ المال، بل عَدَمُ احْتفال القلب بالأموال وإن كانت في مِلْكه، وعلى هذا قد يكون أغْنى الناس زاهداً، ويكونُ أفقرُ الناس عَرِياً عن ذلك إذا كان حريصا.
(168) للقرافي رحمه الله هنا كلام تفصيلي اختصر البقوريِ، وإيرادُه في هذا المقام يزيد هذه الفقرة وضوحا وبيانا حيث قال: وكذلك مَا عُلِمَ مِن فرط صِدْقه الذي جزم به أولياؤه وأعداؤه، (والحقُّ ما شهِدتْ به الأعداء)، وكان يسمَّى في صغره الأمينَ، إلى غير ذلك مما هو مبسوط في موضعه.
ثم قال: "من وقف على هذه القرائن وعرفها من صاحبها جزم بصدقه فيما يدعيه جزما قاطعا، وجزم بأن هذه الدعوى حقّ، ولذلك لما أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بنبوته قال له الصديق: صدَقْتَ، من غير احتياج إلى معجزة خارقة، فنزل فيها قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. سورة الزُّمَرِ، الآيات 2 - 3 - 35) أيْ محمد جاء بالصدق، وأبو بكر صَدق به)، وهذا التفسر اختيار ابن عطية، رحمه الله. والراجح أن الآية عامة في الرسل والمومنين، فما من نبي الأ ولَهُ من القرائن الحالية والمقالية العجائبُ والغرائب".
ثم قال: ، وأما الساحر فعلى العكس من ذلك كله، لا تجده في موضع إلا ممقوتا حقيراً بين الناس، وأصحابه وأتباعه، وأتباعُ كل مبطل، عديمون للصلاة، لا بهجة عليهم، والنفوس تنفر منهم، ولا فيهم من نوافل الخير والسعادة أثر.
فهذه فروق ثلاثة بين البابين (باب المعجزة وباب السحر)، وهي أي هذه الفروق الثلاثة في غاية الظهور، لا يبقى معها -ولله الحمد- لبْسٌ ولا شك لجاهِل أو عالم". انتهى كلام القرافي رحمه الله.
(169)
هي موضوع الفرق الخامس والخمسين والمائتين بين قاعدة الزهد، وقاعدة ذات اليد" جـ 4. ص 209، وهو من أقصر الفروق عند القرافي، رحمه الله. ولَمْ يعلق عليه بشيء، الشيخ ابن الشاط رحمه الله.
ثم الزهد في المحرَّمات واجب، وفي الواجبات حرامٌ، وفي المندوبات مكروةٌ، وفي المباحات مندوب، لأن الميل إلَيْها يُفْضِي لارتكاب المحرمات أو المكروهات.
قلت: لا يقال الزهدُ بِحَسَب العُرف على ترْك الواجبات، ولا على ترْك المندوبات، ولا على ترْك المكروهات، ولا على ترْك الحرام، وإنما يُستعمَلُ بحسَب المباح إذا تُرِك، وهذا الزهدُ الذي يُعتبر فيه الترْكُ هُوَ الزهد الظاهر، وللزهد الظاهر زهذ باطن، وهو -كما قلنا- عَدَمُ احتِفال القلب، وبه يقعُ الفرق بين الزهد والورَع، وباعتبار الظاهر يقع اللبْسُ بينهما. (170)
والورَعُ ترك ما لاباس به مخافة ما به بأسٌ، (171)، وهو مندوب إليه. ومنه (أيْ من الورَع) الخروجُ عن خلاف العلماء بحسب الإمكان، كأن يختلف العلماء في شيء هل هو حرام أو مُباح؟ فالورع التركُ، أو هو مباح أو واجب فالورع الفعلُ. وإن اختلفوا هل هو مشروع أو غيرُ مشروع فالورَع الفعل، لأن القائل بالشرعية مثبِتٌ لأمْرٍ لم يطاح عليه النافي، والمثْبِتُ مقدَّمٌ على النافي، كتعارض البينات، وذلك كاختلاف العلماء في شرعية الفاتحة في صلاة الجنازة، وكالبسملة، قال مالك: هي في الصلاة مكروهة، وقال الشافعي: واجبة، فالورعَ
(170) هو موضوع الفرق السادس والخمسين والمائتين بين قاعدة الزهد، وقاعدة الورَع، جـ 4. ص 210، وهو على عكس ما قبله - من أطول الفروق عند القرافي، وعلق ابن الشاط على بعض فقراته كما سيتضح بعدُ في هذه التعاليق.
(171)
قال القرافي: وأصله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحلالُ بَيّنٌ، والحرام بَيّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" وتمام الحديث: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعى يَرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. (والحمى بكسر الحاء وفتح الميم ما يحميه الغير من الأرض ومرعاها، فلا ينبغي الاقترابُ منه تجنبا للوقوع فيه)، ألَا وإن لكلِ مَلِكٍ حِمىً، ألا وإن حِمَى الله مَحارمه، (اي المحرمات التي حرمها على العباد ونهاهم عن الوقوع فيها والاقتراب منها)، ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدَتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. فالقلْبُ إذا صَلَحَ عقيدةً وخشوعا وخشية من الله صلحتْ أعمال الجوارح بفعلِ الطاعات المامور بها، وبالإعراض عن المنهيات المحرّمات.
قال ابن الشاط هنا: ما قاله القرافي في ذلك صحيح.
الفعلُ، للخروج عن عُهْدَة ترْك الواجب، (172). فإنْ اختلَفُوا هل هو حرام أو واجب فالعِقابُ متوقَّعٌ على كل تقدور، فلا ورَع، إلا أن يقال: إن المحرَّم إذا عارضه الواجب قُدِّم على الواجب، لأن رعاية درْء المفسدة أولى من رعاية حصول المصلحة، فيكون الورَع التركَ، وان اختلفوا هل هو مندوب أوْ مكروه فلَا ورَعَ لتساوي الجهتيْن، ويمكن ترجيح المكروهِ بما تقدَّم، في المحرّم، أما إذا كان أحدُ
(172) الخلاف في كون البسملة آية من الفاتحة أو ليست كذلك، وفي قرآتِهَا مع الفاتحة في الصلاة أم لا، خلاف قوى بين ائمة المذاهب الفقهية وعلمائها، وقد بسطه علماء التفسير، وشراح الحديث والفقهاء في محيبهم ومؤلفاتهم في الفقه وأصوله.
ومن ذلك ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال: "البسملة افتتح بها الصحابة كتاب الله، واتفقوا على أنها بعض آية من سورة النمل (أي في قوله تعالى حكاية عن بلقيسَ:{قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، ثم اختلفو، هل البسملة آية مستقلة في أولِ كل سورة أو من كل سورة كتبت فيها، أو أنها بعض آلةِ من كل سورة، أو أنها كذلك في الفاتحة دون غيرها، أو أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية، على أقوال للعلماء خلَفاً وسلفا، وذلك مبسوط في
محله".
ومن أدلة المذهب المالكي في القول بعدم قراتها في الصلاة الفريضة أثناء قرآة الفاتحة ما أخرجه الإِمام مالك رحمه الله في الموطأ عن أنس ابن مالك ضي الله عنه أنه قال: قمْتُ (أي صَلَّيتُ) وراءَ أو بكر وعمر وعمان، فكلهم كان لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إذا افتتح الصلاة، وكذلك الحديث القدسي الصحيح الذي جاء في كل من الموطأ وصحيح الإِمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: (أي في هذا الحديث القدسي) "قسَمْتُ الصلاة بيني مع وبين عبدي نصفين، فنصفُها لي، ونصفها لعبدى، ولعبْدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله حمِدني عبدي
…
إلى آخر هذا الحديث. قال الشيخ الزرقاني شارح الموطأ: فيه حجة قوية على أن البسملة ليست من الفاتحة، قال الإِمام النووي رحمه الله: وهو (أي هذا الحديث القدسي) من أوضح ما احتجوا به (أي الماَلكية)، لأن الفاتحة سبحُ آيات بالإجماع، فثلاث في اولها ثناءً، وثلاث دعاءٌ، والسابعة متوسطة بينها، وهي:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
ومن ذلك ما ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي الْمَعَافِرِي رحمه الله، في الجزء الأول من كتابه: أحكام القرآنِ، حيث قال: "فإن قيل: هل تجب قرآتها (البسملة) في الصلاة؟ قلنا: لا نجبُ، فإنَ أنس بن مالك رضي الله عنه روَى أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي وعمر، فلم يكن أحدٌ منهم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ونحوُهُ عن عبد الله بن مُغَفل. فإن قيل: الصحيح من حديث أنس: فكانوا يفْتَتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، وقد قال الشافعي: معناه أنهم كانوا لا يقبرأون شيئا قبل الفاتحة. قلنا: هذا يكون تأويلا لا يليق بالشافعي لِعِظَم فقهه، وأنس وابن مُغَفّل إنما قالا هذا، ردّاً على من يَرى قرآة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. =
المذهبين ضعيفَ الدلالة بحيث لو حَكم به حاكم لنقضناه لم يَحْسُن الورع في مثله، وانما يحسن إذا كان يمكن تقرير شرعيته (173).
= فإن قيل: فقد روى جماعة قرآتها، وقد تولّى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه. قلنا: لسنا ننكر الرواية، لكنَّ مذْهَبنَا يترجح بأن أحاديثنا -وإن كانت أقل-، فإنها أصحُّ، بوَجْهٍ عظيم، وهو المعقول في مسائل كثيرة من الشريعة.
وَذلك أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقرضَتْ عليه العصور، ومرَّتْ عليه الأزمنة من لدن زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك، ولم يقرأ فيه أحد [قطُّ] بسمِ الله الرحمن الرحيم، اتباعاً للسُّنة، بَيْدَ أن أصحابنا استحبوا قرآتَهَا في النفْل، وعليه تُحْمل الآثار الواردة في قراتَها. ثم أورد القاضي ابن العربي بحد ذلك، الحديثَ القدسي الصحيحَ الثابتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصغين، فنِصْفُها لي ونصفُها لعبدي، ولعبدي ما سأل
…
إلى آخر، الحديث أوردهُ كل من القرافي والبقوري هنا، وقال ابن العربي في ختامه:
فقد تولى سبحانه قسمة القرآن (أي القراءة) بينه وبين العبد بهذه الصفة، فلا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وهذا دليل قوي، (أي من حيث لم يرد فيه ذكر البسملة كما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وثبت عنه أنه قال: من صلى صلاة لم يَقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خِدَاج -ثلاثا- غيرُ تمام.
وبذلك يتضح مستنَد علماء المالكية القائلين بعدَم قراءة البسملة في الصلاة الفريضة، كما هو مبسوط عندهم في كتب الاحكام والتفسير والحديث والفقه.
(173)
كذا فى نسخة ع. وفي ح: شريعَتِه.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء من هذا الكلام عند القرافي، فقال: لا يصح ما قاله من أن الخروج عن الخلاف يكون وَرَعاً، بناءً على أن الورع في ذلك لِتوقع العقاب، وأيُّ عقاب يُتوقع في ذلك؟ .
وأما على القول بتصويب أحد القولين أو الأقوال دون غيره، فالإجماع منعقد على عدم تاثيم المخطئ وعدَم تعيينه، فلا يصح دخول الورع في خلاف العلماء على هذا الوجه.
وأما الدَّليلُ الدال على دخول الورَع في ذلك؛ فهذا أمر لا أعرف له وجها، غيرَ ما يُتَوهَّم من تَوَقع الإثم والعقاب، وذلك منتف بالدليل الاجماعي القطعي.
كيف يصح ذلك، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: "أصحبي كالنجوم بأيهم إقتديتم اهتديتم، فاطلَق القول من غير تقييد ولا تفصيل ولا تنبيه على وجه الورع في ذلك، ثم لم يُحْفظْ التنبيه في ذلك عنِ واحد من أصحابه ولا غيرهم من السلف المتقدم.
ثم الخروج عن الخلاف لا يتأتى في مثل ما مثل به كما في مسألة الخلاف بالتحريم والتحليل في الفعل الواحد، فإنه لابد من الأقدام على ذلك الفحل أو الانكفاف عنه، فإن أقدم عليه المكلف فقد وافَقَ مذْهبَ المحلل، وإن انكف عنه فقد وافق مذهبَ المحَرم، فأين الخروج من الخلاف؟ إنما ذلك عمل على وفق أحد المذهبين لا خروجٌ عن المذهبين.
ومثالُهُ أكل لحوم الخيل، فإنه مباح عند الشافعي، ممنوع أو مكروه عند مالك، فإن أقدم على الأكل فذلك مذهب الشافعي، وان انكفّ عنْهُ فذلك مذهب مالك. =
وها هنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: أنكر جماعة من الفقهاء دخولَ الورع في مسح الشافعي - مَثَلاً- جميع رأسِه، لأنه ان اعتقد الوجوبَ فقد ترك الندبَ، فلم يجمع بين المذهبين، بل هذا مذهبُ مالكٍ فقط، وإن لم يعتقد الوجوب لمْ يُجْزِه المسحُ بنيَّة الندْب، فما حصل الجمعُ، وكذلك المالكي إذا بَسْملَ، وكلُّ موْضع اختلف فيه، فعلى هذا النوع يُوردون فيه السؤال، وليس بوارد، بسبب أنا نقول:
يعتقد في مسح رأسه كله الندب على رأي الشافهي، والوجوبَ على رأي مالك، وليس في ذلك الجمعُ بينَ الضّدَّين، لأن الجهح بين الضدين إنما يمتنع إذا اتحد المتعلَّق مع اتحاد المحلِ، أمّا اتحادُ المحل فقَطْ فلا يمنع الجمعُ، لأن الصداقة ضِدُّ
= وما قاله القرافي فيما إذا اختلفوا في المشروعية وعدمها من أن القائل بها مثْبت لأمْرِ لم يطلع عليه النافي، والمثبتُ مقدَّم، كتعارض البينات، ليس بصحيح على الاطلاق، فإنه إن عَنَى بتعارض البيناتَ كما إذا قالت إحدى البينتيْن: لزيد عند عَمْرو دِينارٌ، وقالت الاخرى: ليس عنده شيء، فلا تعارض، لأن البينة النافية معنى نفيها أنَّها لا تعْلَمُ أن له عنده شيئا، أو ليس عنده شيء، فلا تعارُضَ، وليس معنى نفيها أنها تعلم أنه ليس عنده شيء، فإن ذلك أمر يتعذر العلم به عادة، وان عَنى كما إذا قالت إحدى البينتين: رأيناه يومَ عرفةَ من عام سبعمائة بمكة، وقالت الأخرى: رأيناه في ذلك اليوم بعينه بالمدينة فهذا تعارض، ولا يصح تقديم إحداهما على الأخرى إلا بالترجيح. وهذه الصورة التي تشبه مسألة المجتهدين، لا الصورة الأولى.
فإذا وقع الخلاف في مثل هذا الاجتهاد ثبت الخلاف من غير تقديم لأحد المذهبين على الآخر، إلا عند من رَجَحَ عنده كالمجتهدين، وكلّ من رجح عنده ذلك المذهب لا يسوغ له ترْكُه، وكل من جحَ عنده المذهث الآخَرُ لا يسوغ له تركه، فلا وَرَعَ باعتبار المجتهدين، ولابُدَّ لمن حكمه التقليد أن يحملَ بالتقليد، فإذا قلد أحدَ المجتهدين لا يتمكن له في تلك الحال وفي تلك القضية أن يقلد الآخر، ولا أن ينظر لنفسه، لأنه ليس من أهْل النظر، والمكلَّفون كلهم دائرون بين الاجتهاد والتقليد، والمجتهد ممنوع من الأخذ بغير ما اقتضاه نظره، فلا يصحّ الورع الذي يقتضي خلاف مذهب مقلِده في حد ذاته.
وإذا كان هذا النوع من الورَع لا يصحُّ في حق المجتهدين ولا في حقِّ المقلِّدين فليس بصحيح، لأنه لا ثالث يصح ذلك الورع في حقه، والله تعالى أعلم". انتهى كلام ابن الشاط رحمه الله في هذا التعليق الطويل الهام المتعلق بالورع في مراعاة الخلاف المذهبي الفقهي، واعتبارِه في الأخذ بما هو أحوَطُ، وبتصحيحه وبتبيان وجهة نظره في الموضوع.
العدواة، والبغضة ضد المحبة، ويُمْكِنُ أن يَجمع في القلب العداوة للكافرين، والصداقةَ للمومنين، كذلك هاهنا اختلفت الاضافة فأقول:
إعتقدَ هذا الفعلَ واجبا على مذهب مالك، ومندوبا على مذهب الشافعي، فجمعهما في ذهنه باعتبار جهتين، (174)، وعلى هذا التقدير يُتصوَّرُ الجمعُ بين المذاهب جملى وجْهٍ يحصل الإِجزاءُ والاستيفاء للمقاصد، والورعُ والخروج عن العهدة من غير تناقُضٍ، فتأملْه، قال شهاب الدين بهذا، وقال: ولقد نازعني فيه جمعٌ من الفضلاء. (175)
(174) عبارة القرافي هنا: "فيجمعهما في ذهنه باعتبار جهتين وإضافتين، كما يصدق أن زيداً أبٌ لعَمْرُ، وليس أبا لخالد، فاجتمع فيه النقيضان باعتبار إضافتين. وقد أجمع أرباب المعقول على أن من شروط التناقض والتضاد اتحادَ الإضافة كما تقدم مثالُه في الأبوة، فإذا تعددت الإِضافة اجتمع النقيضان والضِّدَّانِ، وعلى هذا التقديرِ يجتمع في الذهن الواحد في الزمن الواحد في الفعل الواحد، الوجوبُ والتحريمُ والكراهة والندب والإِباحة باعتبار خمسةٍ من العلماء القائلين بتلك الأحكام، فعلى هذا التقدير يُتَصور الجمع بين المذاهب على وجه يَحْصُلُ الإِجزاء والاستيفاءُ للمقاصد
…
الخ.
(175)
عَقّب الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة الاولى من أولها إلى آخرها فقال: قد تقدم أن الورع لا يحصل باعتبار اختلاف المذاهب، للزوم المذهب للمجتهد والمقلِّد جميعا، لا سِيَمَا عند اختلافهما بالايجاب والتحريم، إذْ يتعيَّنُ الفعل في الاول، والترك في الثاني. وأما في الايجاب والندب والتحليل، أو في التحريم والكراهة فقد يتوهم صحة ذلك من يقول: إن الثلاثة الأولى مُشْتركِة في جواز الفعل، والاثنان مشتركِان في رجحان الترك، لكنه فيح من صحة ذلك لزومُ عمل المجهد ومقلِّده على حسب مقتضَى اجتهاد المجتهد، إلا أن يقول قائل في المقلد: إنه يسوغ له تقليد أحد القائلين بالوجوب والندْب مثلا لا بعينه، ويفْعَل الفعْل لا بنيَّة التفويض، لكن لا أعرفه لأحد، ولا أعرف له وجهاً، وما وجه الشهابُ به، بناءً على أن التناقض والتضادَّ إنما يتحققان بشرط اتحاد المحل والمتحفق والإضافة، لا يصح له، وإن كان اشتراط تلك الشروط في التناقض والتضاد صحيحا، لأنه يلزم المجتهدَ ومقَلِّدَه موافقة اجتهادِهِ في عمله واعتقاده، ويحْرُمُ عليه وعلى مقلده مخالفتُهُ، فظهر أن القول الصحيح هو قول منازعي الشهاب في ذلك، واللهُ تعالى أعلم.
قلت: وَمَا انتهى اليه ابن الشاط في ختام تعقيبه هذا هو ما نجد مضمونه وخلاصته في تعقيب الشيخ البقوري في نهاية كلام القرافي على هذه المسألة الأولى. فرحم الله الجميع. وأثابهم الثواب الجزيل.
قلت: الإِنكار ظاهرٌ، وما قاله خفِيٌّ جدا، فإن الفعل الواحد لا يُتصَورُ أن يُقْصَدَ به الوجوبُ والندبُ معاً لتضَادّهما.
المسألة الثانية: كثير من الفقهاء يعتقد أن المالكي يعتقد بطلان مذهب الشافعي إذا لم يدْلُكْ في غسله أو يمسَحْ جميع رأسه ونحوه، وأن الشافعي يعتقد بطور صلاة المالكي إذا لم يُبَسْمِل، وأن الجمع بين المذاهب والورع في ذلك إنما هو لِصَوْن الصلاة ونحوها عن البطلان على قول الخالِف، ليس كذلك، فالورع ليس لتحصيل صحة العِبادة، بل عبادةُ كُلِ مقلّدٍ لإِمام معتبَرٍ، صحيحةٌ بالإِجماع. وأجمعَ كل فريق مع خصمه على صحة تصرفاته وعبادته.
فإن قلت: فإذا كانتْ العبادةُ صحيحة بالإجاع فما فائدة الورَع؟ كيف يُشْرع الورعُ بعد ذلك؟ . (176)
قلتُ: فائدة الورع، وسبَبُ مشروعيته، الجمعُ بين أدلة الختلفِين، والعملُ بمقتضَى كلِ دليل، فلا يبقى في النفس توهُّمُ أنه قد أهمَلَ دليلا يُعمَل بمقتضاه هو الصحيح، فالجمعُ ينفي ذلك بأبر الجى بين المذاهب في جميع مقتضيات الأدلة في صحة العبادة والتصرف (177)، ولو كان المالكي يعتقد بطلان صحة الشافعي وبالعكس لكانت كل طائفة عند الأخرى من أعظم الناس فسقا، لِترْكها الصلاةَ طولَ عمرها، ولا تُقبَلُ لها شهادةٌ، وهذا ما لم يقُلْ به أحد.
المسألة الثالثة: اختلَف الفقهاء هل يَدخلُ الورَعُ والزهد في المباحات أمْ لا؟ فادَّعى ذلك بعضُهم، ومنعه بعضهم، فقال الأبهري (178): لا يدخل
(176) قال ابن الشاط: السؤال وارد، أي متوقَعٌ ومطروح في محله هذا عند التأمل.
(177)
زاد القرافي هنا قوله: "فتأملْ ذلك"، فحقب عليه في هذه المسألة الثانية ابن الشاط بقوله: لقد تأملت ذلك، فلم أجِدْه صحيحا، كيف يصح الجمع بين مقتضَى دليلين: موجِب ومحَرِّم، وأحدُهما يقتضي لزوم الفعل، والثاني يقتضي لزوم الترْك، والجمع بين الفعل والتَّرْك بالنسبة إلى الامر الواحد محال، ولا يغني في ذلك اعتقاد اختلاف الاضافة بالنسبة إلى الإمامين. وما قاله في بقية المسألة إلى آخرها صحيح.
(178)
علق ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذه المسألة بقوله: ما قاله في هذه المسألة صحيح.