الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأيضا فقد أقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه، والقرعة استعْملها الانبياء قبل نبينا عليه السلام. قال تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} ، (165 م) وقال:{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} . (166)
القاعدة الخامسة عشرة:
في كيفِيةِ أداء الشاهِدِ شهادتَه عند القاضي
. (167)
(165 م) وقبلها قوله تعالى في شأن يونس عليه السلام: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} سورة الصافات، الآية 141.
(166)
وأولها قوله تعالى خطابا لنبيه الكريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} سورة البقرة، الآية 44.
(167)
هي موضوع الفرق السابع والعشرين والمائتين بين قاعدة اللفظ الذي يصح أداء الشهادة به، وبين قاعدة ما لا يصح أداؤها به. جـ 4. ص. 57.
قال القرافي رحمه الله فى أوله:
"إعلَمْ أن أداء الشهادة لا يصح بالخبر البتَّة، فلو قال الشاهد للقاضي: أنا أخبرك أيها القاضي بأن لزيد عند عمرو ديناراً عن يقين مني وعِلْمٍ في ذلك لم تكن هذه شهادةً، بل هذا وعْدٌ من الشاهد للقاضي أنه سيخبره بذلك عن يقين، فلا يجوز اعتماد القاضي على هذا الوعد
ولو قال: قد أخبرك أيها القاضي بكذا كان كذبا، لأنَّ مقتضاه الإِخبارُ منه ولم يقع،
والاعتماد على الكذب لا يجوز، فالمستقبل وعدٌ، والماضى كذِبٌ".
وقد علق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي في اول هذا الفرق فقال: هذا الفرق ليس بجارٍ على مذهب مالك رجمه الله، فإنه لا يشترِط معَيَّنات الالفاظ لا في العقود ولا في غيرها، وإنما ذلك مذهب الشافعي رضي الله عنه.
ثم قال معلقا على كلام القرافي بأن أداء الشهادة لا يصح بالخبر البتة: قد تقدم له في أول فرق من الكتاب حكايةٌ عن المازري أن الرواية والشهادة خبرانِ، ولم يُنْكِرْ ذلك ولا ردَّهُ، بل جَرى في مسَاقِ كلامه على قَبول ذلك وصحته.
ثم عقّبَ ابن الشاط كذلك على قول القرافي: "لو قال الشاهد للقاضي: أنا أخبرك أيها القاضي لم يكن شهادة" فقال: ذلك لقرينة قوله أخبرك، ولم يقل: أشهد عندك.
وقول القرافي: "بل هذا وعد من الشاهد للقاضي أنه سيخبره"، من أيْنَ يتعَيَّنُ أنه وعْد، ولعله إنشاءُ إخبارٍ، فيكون شهادة، إذْ الشهادة خبرٌ، لا سيما إذا كان هناك قرينة تقتضي ذلك من حضور مطالَب وشبهِ ذلك، فما قاله في ذلك غيرُ صحيح.
وقوله: "فالمستقبل وعدٌ، والماضى كذب"، يقال: إن كان لم يكن تقدَّمَ منه إخبار فذلك كذِبٌ، كما قال.
إعلم أن المتَّبَعَ في هذا، العُرْفُ، فما كان العُرفُ عليه في ذلك الوقت عُمل عليه، ولا يجوز غيره، فإن كان العرف على شيء ثم صار لشيءٍ آخرَ، صِيرَ لِمَا صار إليه، والعُرْف الآن الذي لا يُعْرَف أنه انتقل أن يقول الشاهد: أشهَدُ عندك أيها القاضي بكذا، فهو إنشاء الشهادة، ولو قال: شهدتُّ، كان خبراً كذباً، وكذلك لو قال: أنا شاهِدٌ لا يكون إنشاءً للشهادة، فليس في العرف إلا المضارع، بخلاف البيع، فإن الموضوع للانشاء فيه، الماضي لا غيرُ، فلا يكون المضارع ولا اسْمُ الفاعل له، وأمّا االطلاق فيقع بالماضي وباسم الفاعل، ولا يقع بالمضارع، وهذه مُدْرَكُها العُرْفُ كما قدّمنا.
ثم إن الشاهد لو أوْقع لفظ الخبر مكان لفظ أشهدُ، ما صحّ ولا جاز، سواء أتَى بالماضي، كأنْ يقول: اخبرتك، أو بالمضارع كأن يقول: أُخْبُرك بأني أشهد بكذا، فإنه وعْدٌ بأن يشهد، لا أنهُ شهد، وكذلك اسم الفاعل، كأن يقول: أنَا مُخْبِرك أيها القاضي بكذا، وكذلك إذا قال القاضي للشاهد: بأيِّ شئٍ تَشهد؟ قال: حضرت عند فلان فسمعته يُقرُّ بكذا، وأشهدَني على نفسه بكذا، أو شهدت بينهما بصدور البيع، أو غير ذلك من العقود، لا يكون هذا أداءَ شهادةٍ، ولا يجوز للحاكم الاعتمادُ عليه، بسبب أن هذا مخْبِرٌ عن أمْرٍ تقدَّم، فيحتمل أن يكون قد اطلع بعد ذلك على ما منعَ من الشهادة به من فسخ أو إقالة أو حدوث ريبَةٍ للشاهد تمنَعُ الأداء. (168)
(168) عقب ابن الشاط على كلام القرافي "في أن القائل أنا مخبرك أيها القاضي بكذا فإنه إخبار عن اتصافه بالخبر للقاضي، وذلك لم يقع في الحال إنما وقع الإِخبار عن هذا الَخبر، فظهر أن الخبر كيفما تصرف لا يجوز الاعتمادُ عليه. وكذلك قول الحاكم للشاهد: بأي شيء تشهد؟ ، فقال: حضرت عند فلان فسمعته يُقِر بكذا، أو أشهدني على نفسه بكذا"
…
الخ.
قال ابن الشاط هنا: هذا كلام من لا يفهم مقتضَي الكلام، كيف لا يكون من يقول للقاضي: أنا اخبرك بأن لزيد عند عَمْرٍو دينارا، مخبِراً للقاضي بذلك، بل يكون مخبرا بأنه مخبر، وهل العبارةُ عن إخباره عن الخبر إلَّا عيْنُ تلك، وهي أنا مخبرك بأني مخبرك لا أنا مخبركَ بكذا، هذا كله تخليط لا يفوه به من يفهم شيئا من مضمنات الالفاظ ومقتضى مَسَاقها. ثم قال ابن الشاط: وقول القرافي: "فظهر أن الخبَرَ كيفما تصرف لا يجوز الاعتماد عليه"، لا يصح، فَلَمْ يظهر ما قاله اصلا، ولا يصح بوجه ولا حال. =
وفي القاعدة أربع مسائل: (169)
= ثم قال: "إذا لم يكن قول الشاهد: حضرت عند فلان فسمعته يقر بكذا، وأشهدني على نفسه بكذا، شهادةً بعد قول القاضي له بأيّ شيء تشهد؟ فلا أدري بأي لفظ تؤدَّى الشهادة؟ وما هذا كله إلا تخليط ووسواس لا يصح منه شيء البتة".
ثم قال: وقول القرافي "لابُدَّ من إنشاء الإخبار عن الواقعة المشهود بها): يا للعجب! ، وهل إنشاء الإِخبار إلا الإِخبار بعينيه، ثم قال: وقوله: "والإنشاء ليس بخبر إلى قوله، وقد تقدم الفرق بين البابين"، ومن هنا دخل الوهم عليه (اي على القرافي)، وهو أنه أطلق لفظ الانشاء على جميع الكلام، ومن جملته الخبرُ، وأطلق لفظ الانشاء على قسِيم الخبر، ثم تخيَّل أنه أطلقهما بمعنى واحد، فحكم بأن الانشاء لا يدخله التصديق والتكذيب. وما قاله من أنه لا يدخله ذلك صحيح في الانشاء الذي هو قسيم الخبر، وغير صحيح في الانشاء الذي هو إنشاء الخبر، وأن يكون وعداً بأنه يشهد عنده، لا أعلم ما الخبرُ؟ .
وقوله: "فإذا قال الشاهد: أشهد عندك ايها القاضي كان إنشاء" قلت: وما المانع من أن يكون وعدا بأنه سيشهد عنده، لا أعلم له مانعا إلا التحكمَ بالفرق بين لفظ الخبر ولفظ الشهادة، وهذا كله تخليط فاحش.
ثم قال ابن الشاط: معَقِّباً على قول القرافي: "ولو قال (الشاهد): شَهِدتُّ، لم يكن إنشاء، عكسه في البيع لو قال: أبيعك لم يكن إنشاء، إلى قوله: أنا شاهد عندك بكذا، أو أنا بائعك بكذا لم يكن انشاء): لقد كلَّف هذا الرجل نفسه شططا، وألزمها ما لم يلزمها، كيف وهو مالكي؟ ! ، والمالكية يجيزون العقود بغير لفظ أصلا، فضلا عن لفظ معيَّن، وإنما يحتاج إلى ذلك الشافعية حيث يشترطون معينات الالفاظ.
(169)
قال القرافي هنا قبل الكلام علي هذه المسائل: فتلخص لك أن الفرق بين هذه الالفاظ ناشئ عن القواعد وتابع لها، وأنه يتقلَّبُ وينتسخ بغيرها وانتقالها، فلا يبقى بعد ذلك خفاء في الفرق بين قاعدة ما يصح من تؤدّى به الشهادة، وقاعدة ما لا يصح أن تؤدى به، وفي الفرق أربع مسائل.
قلت: وهذه الخلاصة التي جآءت هنا عند القرافي هي التي بدأ بها الشيخ البقوري كلامه هنا على هذا الفرق وهذه القاعدة.
وقد عقب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي فقال: ما قاله في ذلك مبني على مذهب الشافعي وهو صحيح، إلا قوله: أراد الشهادة بالانشاء لا بالخبر، فإنه قد تقدم أن الشهادة خبر، وهو الصحيح، وتقدم التنبيه على الموضع الذي دخل عليه منه الغلط والوهم، والله تعالى أعلم.
وما قاله في المسائل الاربع صحيح أو نَقْلٌ لا كلام فيه.
قلت: وقد رأيت أن أتتبع هذه التعاليق والتعقبيات على كلام الإِمام القرافي هنا عند الشيخ ابن الشاط، لأهمية موضوعها، ولما فيها من تحقيقات وتدقيقات يجدر بالفقيه أن يكون على بينة وبصيرة منها، وذلك بِغض النظر وصرفه عما يكون في هذه التعليقات احيانا من عبارات قاسية وقوية من ابن الشاط تجاه القرافي كما نبهت عليه مراراً الخ .. فَرَحِمَ الله الجميع، وأثابهم على حسن قصدهم وخدمتهم للعلوم الاسلامية وللدين والمسلمين.
المسألة الأولى:
الشهادةُ قد يكونُ مقصودُها الإِثبات فقط، فيقْتَصَرُ على اللَّفظ الدال على ذلك، نحو أشهد أنه باع، ونحوه، وقد يكون مقصودها الحَصْرَ، فلا بدَّ من الجمع بين النفي والإِثبات، ويصرح بذلك في العبارة. قال مالك في التهذيب: لا يكفي أنه ابن للميت حتى يقول: لا نعْلَمُ له وارثاً غيره، وكذلك هذه الدار لأبيهِ أو جدِّه، لا يكفي حتى يقول: ولا نَعلم خروجَها عن مِلكه إلى الموت.
فلَو أن الشهود شهدوا بأنه واحد من ورثته ولا يعلَمون عددَهم لم يُقضَ لهذا بشيء من مِلْك إن كان تركَةَ الميت، لعدم تعْيينه، وتبقى الدار أو غيرها بيدِ من هي بريده حتى يَثْبُتَ الوزنة، لئلا يؤدي لنقض القسمة وتشويش الأحكام.
المسألة الثانية.
قال مالك: إذا قال الشاهد: هذا العبْدُ لفلان، ما بَاعه ولا وهَبه، لا يُجْزئه، لأن جزمه بذلك مِنْ أيْنَ له به، بل يقول: لا أعلَمُ أنه باعه ولا وهبه. وقال عبد الملك: بل يجزم ويقول: ما باعه ولا وَهَبَه، لأن الشهادة بغير جزم لا تجوز. وقال أبو الوليد بن رشد: قول عبد الملك أظهر.
وفي الجواهر: لو شهد أنه مَلَكَه بالأمس ولم يتعرض للحال لم يُسمَعْ، حتى يقول: لم يَخرُجْ عن ملكه في علمي، ولَوْ شهِدَ أنه أقرّ بالأمس، ثبت الإِقرار واستصحب موجبه، ولو قال المدعي: كان ملكه بالأمس، نزِع من يده، لأنه أخبر عن تحقيق له فيستصحب، كما لو قال الشاهد: هو ملكه بالأمس بشراء من المدّعى عليه بالأمس. ولو شهدوا أنه كان بيد المدعي بالأمس لم يُفِدْ حتى يشهدوا أنه ملكه. ولو شهدت أنه غصَبَه، جُعِل المدّعي صاحب اليد، ولو ادعت مِلكا مطلقا فشهدت بالملك والسبب لم يَضُرَّ، لعدم المنافاة.
المسألة الثالثة:
قال ابن يونس: لَو شهدوا بالأرض ولم يحُدُّوها، وشهد آخَرون بالحدود دُونَ المِلْكِ، قال مالك: تمَّتْ الشهادة، وقُضِيَ بهم، لحصول المقصود من
المجموع. قال ابن حبيب: إنْ شهدتْ بغصْب الارض ولمْ يحدُّوها، قيل للمدّعي: حُدَّ ما غُصِب منك واحْلِفْ عليه. قال مالك: فإن شهدت بالحق وقالت: لا نعرف عدده، قيل للمطلوب: أقِرَّ بحَقٍ واحلِفْ عليه، فتُعْطيه، ولا شيء عليه غيْرُه، فإن جحدَ قيل للطالب: إن عرفْتَه إحلفْ عليه وخُذْه، فإن قال: لا أعرفُهُ، أو أعرفُهُ ولا أحلف عليه، سجِن المطلوبُ حتى يُقِر بشيء ويحلف عليه، وإن كان الحق في دار، حِيلَ بينه وبينها حتى يحلف، ولا يُحْبَسُ، لأن الحق في شيء بعينه: قال الباجي في المنُتَقَى: وعند مالكٍ تُرَدُّ الشهادة بنسيان العدد وجهْلِه، لأنه نقصٌ في الشهادة. قال الباجي: نقصان (170) بعْض الشهادة يمْنع من أداء ذلك البعض، إلَّا في عقد البيع والنكاح والهبةِ والحُبُسِ والإِقرار ونحوه مما لا يلزمُ الشاهدَ حفظُه.
المسألة الرابِعَة:
جَرَى على ألْسِنَةِ الفقهاء أن الشهادة على النفيْ غيرُ مقبولة، وفيه تفصيل، فإن النفي قد يكون معلوما بالضرورة أو بالظن الغالبِ الناشيءِ عن الفحص، وقد يَعْرَى عنهما، فهذه ثلاثة أقسام:
أمّا القسْم الأول نجوز به الشهادة اتفاقا، كالشهادة بأنه ليس في البقعة التي بين يديه فرس ونحوه، فإنه يقطع بذلك.
والثاني تجوز الشهادة به في صُوَرٍ:
منها التفليس وحَصْرُ الورثة، فإن الحاصل فيهِ إنما هو الظن الغالب، لأنه يجوز - عَقلا - حصول المال للمفلس وهو يكتمه، وحصول وارث لا يُطَّلَعُ عليه.
(170) كذا في جميع النسخ. وعند القرافي: نِسيان، والكلمتان متقارِبتَان، ويظهر انهما متلازمتان، فإن النسيان لبعض الشهادة ينشأ عنه نقصانها، ونقصانها قد يكون ناتجا عن نسيان بعضها في الغالب. والله أعلم.