الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويلزَم الطلاق بالإنشاء، فلو قصد الخبرَ وعدَل عن الإِنشاء لَمَا لزِم بها طلاق. (108)، وعلى هذا فلا لفظة لغويةٌ تقتضي الطلاق من حيث هي لغوية.
ثم يلزم أنه لا صريح أصلا على مذهب الحنفية حتى لا يكون إلا بنيَّةٍ، لأنه في اللغة إنما دل على إزالة: القيد مطلقًا لا على إزالة قيْدِ النكاح. وعلى مذهبنا يكون ضابط الصريح ما نُقِلَ إلى الإِنشاءِ في ازالة قيد النَّكاحِ ولا يحتاج إلى نية، وما لم يَصِرْ بالنقل كذلك فهو كناية إن كان مَجازًا لِعَلاقةٍ، ومالا علاقة فيه ليس بصريح ولا كنايةٍ. ثم يلزم أن النقل إنما هو من قِبَلِ العرف (108 م) وعلى هذا فإذا تحوّل العرف فقد يصير الصريح كناية والكناية صريحا، وعلى هذا يَحْرُم على المُفتي أن يفتي إلا بعْدَ معرفةِ العرف في ذلك البلد وفي ذلك الزمان، وإن لم يفعل هذا فقد أفتى بالباطل، واللهُ أعلم.
القاعدة التاسعة عشرة:
أُقرر فيها ما يُشترَط في الطلاق من النية وما لا يُشْترَط
. (109)
إعْلَم أن النية شرط في الصريح إجماعًا، وليستْ شرطا فيهِ إجماعا، وفي اشتراطها فيه قولان، وهذا هو تحصيل الكلام الذي في كُتب الفقهاء، وهو ظاهر التناقضِ، ولا تناقضَ فيه.
(108) قال ابن الشاط هنا: لاشك أن هذه الصيغ وقعتْ في الاستعمال اللغوي إخبارات، ووقعتْ فيه إنشآتٍ وما قاله الحنفية (اى من كونها إخبارات) ليسَ بصحيح، (وهو في مقابلة ما قاله المالكية والشافعية من كون هذه الصيغ انتقلت في العرف لإنشاء الطلاق فَيلْزم الطلاق بالانشاء، ولا يلزم عند قصد الخبر، والعدول إليه عن الانشاء)، ثم زاد ابن الشاط قائلا: ولكن يبقى النظر في كون تلك الصيغ مشتركهّ بين الخبر والانشاء أو منقولة من الحبر إلى الانشاء، وكلاهما على خلاف الأصل، والأظهرُ عندى أنها مشترَكة، والله أعلم.
(108 م) قال ابن الشاط هنا: إن قالت الحنفية مثلَ قول القرافي من أن لفظ الطلاق لا يدل على زوال قيد العصمة بخصوصه) لزمهم ما ألزمهم، وإلا فلا ..
(109)
هي موضوع الفرق الثاني والستين والمائة بين قاعدة ما يُشترط في الطلاق من النية، وبين قاعدة ما لا يشترط. جـ 3. ص 163. ولم يعلق عليه بشيءٍ الشيخ ابن الشاط رحمه الله.
فحيث قال الفقهاء: إن النية شرط في الصريح فيريدون العَمْدَ لإنشاء الصيغة، احترازا من سبق اللسان لما لم يَقصِد، كأن يكون اسمها طارقا فيناديها فيسبق لسانُه، فيقول لها: يا طالق، فلا يلزمه شيء، لأنه لم يقصد اللفظ. وحيث قالوا: النية ليست شرطا في الصريح، فمرادهم القصد لاستعمال الصيغة في معنى الطلاق، فإنما لا تشترط في الصريح إجماعا، وإنما ذلك من خصائص الكنايات أن يُقصد بها معنى الطلاق، وأمّا الصريح فلا.
وحيث قالوا: في اشتراط النية في الصريح قولان، فيريدون بالنية هنا الكلامَ النفسي، فإنهم يطلقون النية ويريدون الكلام النفسي، وهو المراد من قولهم: في الطلاق بالنية قولان، أي بِالكلام النفسي، وإلا فمَن قصَدَ وعزم على طلاق امرأته لا يلزمه بذلك طلاق إجماعا، وإنما المرادُ إذا أنشأ طلاقها بكلامه النفسي كما ينشئه بكلامه اللساني، فيعبرون عنه بالنية، وعبَّر عنه ابن الجلاب بالاعتقاد بقلبه فقال: ومن اعتقد الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه ففي لزوم الطلاق له قولان، والاعتقاد لا يلزم به طلاق إجماعا، (110) وإنما المراد الكلام النفسي، فالمشهور اشتراطه كما قال أبو الوليد في المقدمات، وأنه إذا طلق بلسانه فلا بد أن يطلق بقلبه، فظَهَرَ أنه لا تناقض فيما قالوه، وأنما أحْوالٌ مختلفة، وتتضح هذه القاعدة بمسائل:
المسألة الأولى.
قال مالك في المدونة: لو أراد التلفظ بالطلاق فقال: إشْرَبي أو نحوَه، فلا شيء عليه، حتى ينوي طلاقها بما يلفظ فيجتمع اللفظ والنية، فلو قال: أنتِ طالق البتَّة ونِيَّتُهُ واحدة، فسبَقَ لسانه البتةَ لزمه الثلاث، قال سحنون: إذا كان عليه بينة، فلذلك لم يُنَوِّه، يريد أن اللفظ وحده لا يلزم به الطلاق،
(110) زاد الإِمام القرافي هنا رحمه الله قوله: "فلو اعتقد الانسان أنه طلق امرأته ثم تبين له بطلانُ اعتقاده بقيت له زوجةً إجماعا"
وهو لم توجَدْ منه نية ح لفظه الثلاث، فلذلك لا يَلزمَه ثلاثث في الفتيا، ويَلزمَه الثلاث في القضاء، بِنَاءً على الظاهر.
المسألة الثانية:
إذا قال: أنت طالق ونَوَى من وِثاقِ وِلايَتِهِ، وجاء مستفتيا طُلّقتْ، كقوله أنتِ بريَّةٌ ولم ينْوِ به طلاقا، ويوخَذُ الناس بألفاظهم ولا تنفعهم نياتهم، إلا أن تكون قرينةٌ مصدِّقَةٌ. قال صاحب التنبيهات (111): وقيل: يُدَيَّن إلا أن يكون
(111) صاحب التنبيهات، المراد به هنا الإِمام الجليل، والعالم الشهير، والمحَدِّث الكبير، والفقيه الموسوعي المتضلع، ذو التآليف العديدة الهامة التي نفع الله بها المسلمين: أبو الفضل، عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، المتوفى سنة 544 هـ، ودفين مراكش، وأحد أوليائها ورجالها السبعة، والذي قيل نيه رحمه الله الكلمة الماثورة الشائعة:"لولا عياض ما ذُكِر المغرب".
وكتاب التنيهات هذا من أهم وأشهر مؤلفاته القيمة، وعنوانه الكامل:"التنيهات المستنبَطة في شرح مشكلات المدونة". جمع فيه فوائد فقهية، وكان عليه المعَوَّل في حل الفاظ المدونة ومشكلاتها، وتحرير رواياتها وتسمية رواتها. ومعلوم أن كتاب المدونة هو أصل المذهب المالكي بعد موطأ الإِمام مالك رحمه الله، وهو عمدة الفقهاء المتقدمين، وركيزتهم في الافتاء والقضاء، تُرجَّحُ رواية المدونة على سائر الامهات الفقهية، وبها كانوا يتناظرون ويتذاكرون، وإليها كانوا يرجعون فيما أشكل عليهم من مسائل المذهب.
ولمْ يحظَ أي كتاب من محنب المذهب بما حظيتْ به المدونة من العناية والحفظ، والاكثار من الشروح لها والتعليق عيها والتنبيه على غريبها ومشكلاتها، وفي مقدمة من كان مهتما ومعجبا بها، الفقيه المالكي الإِمام عبد السلام سحنون المتوفى سنة 240 هـ، والذي تنسبُ إليه، فيقال مدونة سحنون؛ فهو الذي رواها عن الإِمام ابن القاسم بعد أسَد ابن الفرات، وتأكد من مسائلها، وكان يوصى طُلَّابَهُ بالاعتناء بها والاعماد عيها، ويغول لهم:"عليكم بالمدونة، فإنها كلام رجل صالح، وروايتُهُ" اهـ. باختصار.
جوابا، وَهُوَ مذهب الكتاب، (112) قال: ويتخرَّجُ (113) من هذه المسألة إلزامُ الطلاق بمجرد اللفظ، ومن قوله في الذي أراد واحدة فسبقَ لسانه للبتة، ومِنْ هَزْلِ الطلاق أيْضا. ويوخذ اشتراط النية من غير المسألة، من الكتاب، يعنى من قوله: أنت طالق، وأراد تعليقه ثم بَدَا لهُ، فلا شيء عليه، قال أبو الطاهر: لا يلزمه في الفُتْيا طلاق، ونظيره من لَه أمهٌ وزوجَةٌ، اسم كل واحدة منها حِكمة، وقال: حكمةُ طالق، وقال: نوَيْتُ الأَمَة، لا يلزمه طلاق في الفُتْيا اتفاقا، فينبغي أن يُحمَل في مسألة الوثاق على اللزوم في القضاء دون الفتيا.
وأما قوله: وجاء مستفتيا - وان أوْهم اللزوم في الفتيا - فمُعارَضٌ بقوله: يوخذ الناسُ بألفاظهم ولا تنفعهم نياتهم. والأخْذ إنما يكون للحاكم دون المفتي، وكذلك اشتراطه القرينةَ، فإن المفتي يتبع الأسباب والمقاصد دون القرائن، وإلا فيلزم مخالفة القواعد، ويتعذر الفرق بين هذه وبين ما ذكر من النظائر.
(112) المراد بهِ كتاب التهذيب لأبي سعيدٍ: خَلَفٌ بن القاسم الأزدي المعروف بالبردعي، من علماء وفقهاء القرن الرابع الهجري، ومن حفاظ المذهب المالكي. فهذا الكتاب له رحمه الله هو أشهر مؤلفاته، اختصر فيه المدونة وهذَّبها، وعليه يطلق اسم الكتاب اصطلاحا عند المالكية في كتبهم الفقهية، كما يطلقُ كتابُ ومؤلفو السيرة النبوية اسم المدينة على المدينة المنورة، واسم العقبة على مكان اجماع النبي صلى الله عليه وسلم بالانصار ومبايعتهم له على الإيمان والجهاد في سبيل الله، وكما يطلق العلماء النحويون اسم الكتاب على كتاب سيبويه رحمه الله في النحو، ويطلق علماء التاريخ والإجماع اسم المقدمة على مقدمة ابن خلدون رحمه الله، فينصرف الاسم العام المعَرَّف بال إلى مدلول خاص ويطلَق عليه بالغلَبة، وفي ذلك يقول ابن مالك رحمه الله، في ألفيته النحوية، وهو يتحدث عن المعرَّف بأل، وعن المضاف الذي يصير علَمًا بالغلَبَة:
وقد يصيرُ علَمًا بالغلبة
…
مضافٌ أو مَصْحُوبُ ألْ كالعقبة
(113)
وُيخَرَّجُ: كذا في نسخة ع، وح، وبياء واحدة فقط، وفي نسخة ت: ويتخرج بالياء والتاء ويظهر أنها الأنسب والأصوب في المعنى، وهي ما عند القرافي، خاصة وأن هزل الطلاق يُعْتَبَرُ جدا، كما هو معروف فقها، ومنصوص عليه في حديث:"ثلاث جِدُّهن جد، وهزلُهُن جِدٌّ: النكاح، والطلاق، والرجعة"، رواه أئمة السنة، أبو داود والترمذي والحاكم وصححه، فرحمهم الله وجزاهم خيرا عن الإسلام والمسلمين، وعن حفظ السنة النبوية من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.