الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا يصح إلا التوزيع من كل واحد ممن يومَرُ به، كقولنا: الدنانير للورثة، وتارة يَرِدُ لا على ذلك، ومع الاحتمال المذكور فلا دليل (15)، (والله أعلم).
القاعدة الثالثة:
أقرَرُ فيها الفرقَ بين الحدِّ والتعزيز
، (16) فأقول:
(15) عبارة القرافي هنا أوسع وأوَضح. حيث قال: وتارة لا يوزعُ الجمع بل يثبتُ أحدُ الجمعين بكل فرد من الجمع الآخر، نحو الثمانين، جَلْدُ القذف، أوْ جَلدُ القذف ثمانون، وتارة يثبت الجمع الجمع ولا يحكم على الأفراد، نحو الحدود للجنايات إذا قصد أن المجموع للمجموع، وتارة يرد اللفظ محتملا للتوزيع وعدمه، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ} ، يحتمل أن يكون لكل واحد من المومنين عدد جنات، بمعنى بساتين داخل الجنة ومنازل. ويحتمل أن توزع فيكون لبعضهم جنة الفردوس ولبعضهم جنة المأوى، ولبعضهم أهلُ علّيّين، وإذا اختلفت أحوال المقابلة بين الجمع بالجمع، وجب الاعتقاد أنه حقيقة في أحد هذه الاحوال الثلاث، لئلا يلزم الاشتراك أو المجاز فيبطل الاستدلال به على مقابلة الجماعة المقذوفة بحد واحد كما تخيَّله الطرطوشي وغيره.
(16)
هي موضوج "الفرق السادس والاربعين والمائتين بين قاعدة الحدود وقاعدة التعازير من وجوهٍ عشرة". جـ 4. ص 176. وقد علق عليه في أوله الشيخ ابن الشاط رحمه الله فقال:
جميع ما قاله في هذا الفرق صحيح، لكنه أغفل من الأجوبة عن قوله صلى الله عليه وسلم "لا تجلدوا فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله"، وأصحُّها وأقواها هو أن لفظ الحدود ليس مقصورا على الزني وشبهه، بل لفظ الحدود في عرف الشرع متناوِل لكل مامور به ومنهى عنه، فالتعليق على هذا من جملة حدود الله تعالى.
التعزير لغةَ، له معنيان: التأديب، وهو جليٌّ واضح، والمعنى الثاني: النصرة والتأييد، ومنه قول الله تعالى في تاييد ونصرة المومنين للنبي صلى الله عليه وسلم:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقوله سبحانه خطابا لنبيه الأمين:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8 - 9]، وقرأ ابو عمرو بن العلاء، وابن كثير وابو جعفر:{لِيؤْمِنُوا} ، بالياء، على استمرار الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأفعال الثلاثة بعده. والضمير في الفعل:{وَتُسَبِّحُوهُ} عائد على الله سبحانه وتعالى، كما هو واضح وظاهر.
أما التعزير شرعا فهو - كما قال العلامة أبو الحسن الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية: "هو تأديب على ذنوب لم تُشْرع فيها الحدود، ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله، فيوافق الحدود من وجه أنه تأديبُ استصلاح وزجْر يختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من ثلاثة أوجه
…
الخ.
وبعبارة أخرى: التعزير هو تأديب الجاني على جُرمه وجنايته على المجنى عليه، ويكون باجتهاد الإِمام السلطان، أو من ينوب عنه من الولاة، والقضاة في تنفيذ الاحكام الشرعية كما هو واضح في هَذه القاعدة الثالثة من بيان وجوه الفرق بين الحد والتعزير. =
ذلك من وجوه:
أُحدهما أن التعزير غيرُ مقَدَّر، والحدُّ مقَدَّرٌ.
ثم إنه وقع الاتفاق على عدم تحديد أقَلِّهِ، واختلفوا بحسب أكثره، فعندنا هو غير محدود، بل بحسب الجناية والمجْني عليه. وقال أبو حنيفة: لا يُجاوَز به أقلُّ الحدود، وهو أربعون، حدُّ العبد، بل ينقَصُ منه سَوْط، وللشافعي في ذلك قولان.
لنا إجماع الصحابة، من حيث إن مَعْنَ بن زائدهَ زوَّرَ كتاباً على عُمَر فجلَدَه مائةً وسجَنَه، فشَفع فيه قوم، فقال:"أذْكَرُوني الطعْنَ كنتُ ناسيا"، (17)
= فإِن قيل: الحديث يقتضي مفهومه أنه يَجلدُ عشرَ جَلَدات فما دونها في غير الحدود، فما المراد بذلك؟ فالجواب أن المراد به جلد غير المكلفيَن كالصبيان والمجانين، والبهائم، والله أعلم.
وأغفل أيضا التنبيه على ضَعْف قول إمام الحرمين: إن الجناية الحقيرة تسقط عقوبتها.
وبيانُ ضعف ذلك القول، بل بطلانِهِ، أن قوله: العقوبة الصالحة لها لا تؤثر فيها ردعاً، قول متنافٍ، من جهةِ أنه لا معْنى لكون العقوبة صالحة للجناية إلا أنها تؤثر فها العادة الجارية ردعا، فإن كانت بحيث لا تؤثر ردعا فليست بصالحة لها، هذا أمر لا خفاء به ولا إشكال، والله أعلم.
قلت: وقد كنت انتبهت لمثل هذه الملاحظة والتعليق، فأثرت في فرق وتعقيب سابق إلى كلام قريب بما جاء هنا في هذا التعليق عند ابن الشاط رحمه الله، وهو لا شك أمر ناتج عن استعمال الفكَر والنظر في كلام الفقهاء، ويُعتَبَر من توارد الخواطر على بعض المسائل الفقهية وفروعها عند التآمل فها والامعان في الكلام والتعمق فيه.
(17)
هذه الجملة: عبارة عن مثل عربي يقال فيه: "ذَكرْتَنى الطعنَ وكنتُ ناسيا".
وأصْلُ وروده، وسبَبُ مقولته، أن رجلا حَمَل على رجل ليقتله، وكان في يد المحمول عليه، والمجْهز عليه رمح، فانتابه الدهش والخوف والفزَع، فأنساه ما في يده من الرمح، فقال له الذي حمل عليه: ألقِ الرمح (أي إرم به من يدك)، فأجابه قائلا: إن معي رمحاً ولا أشعرُ به! ، "ذكرتني الطعن كنت ناسيا". (اى ذكرتني شجاعتي وضربي وطعْني بالسيف والرمح في صدور الاعداء ونحورهم، كنت ناسيا لذلك ولأداته الموجودة في يدي، وحمل عليه برمحه فطعنه حتى قتله. والمثل كما قيل في تعريفه: قول سائر شُبِّهَ مَضْرِبهُ بمورده، فصارت هذه القصة والعبارة مثلا يُضرب في تذكير الشيء بشيء آخر غيره، كما قال بعض الشعراء في ذلك.
تذكرتُ والذكرى تُهَيج للفتَى
…
ومن عادة المحزون أن يتذكرا
تذكرتُ لمّا أن رأيتُ جبينها
…
هلَال الدجى، والشئُ بالشيء يذْكَرُ
وتجدر الإشارة هنا إلى زيادة حرف أن بعد لما الظرفية، كما هي صلة وتوكيد في قوله تعالى:{فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف: 96]. وهي إحدى المواضع الثلاثة التي تزاد فيها أن، والمجموعة في البيتين الآتيين:
تزاد أن عقب لما الظرف
…
وبين لو وبين فعل الحلف
وبين كاف الجر والمجرور
…
وحظها التوكيد في المذكور
ولكل مثال وشاهدٌ من الأبيات الشعرية. فزيادتها بعدما بَدَلَ إِنْ خطأ نحوي شائع.
فجلده مائةً أخرى، ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى، ولم يخالفه أحدٌ، فكان ذلك إجماعا، وأيضاً، فالأصل مساواة العقوبات للجنايات.
إحتجوا بما في الصحِيحَيْن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلِدوا فوق عشْر جلدات في غَيْر حدٍّ من حدود الله".
أجاب أصحابنا في هذا بأن قالوا: لا يصح أن يكون دليلا على مذهبهم، فإنهم يروْن بالزيادة على العَشْر.
وأيضا فلأنه محمول على طباع السلف، ثم حدثت أشياء، فأحدث عمر لهم ما يليق بهم، لا أنه نسْخ، بل تَغَيَّرَ السبب بتغير حكمه، وهذا هو معني قول عمر بن عبد العزيز:"تُحْدَثُ للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور". ولا نسخَ وَرَدَ، إذ لا يصحُّ.
الثاني من الفروق أن الحدود واجبة الِإقامة على الأئمة، واختلفوا في التعازير. فالشافعي يقول: لا تجب عليه، ومالك يقول: لا تَجِبُ عليه إلا أن يكون حقا لله فَتَجبُ إقامتُه كالحدود، ومثلُ هذا قول أبي حنيفة.
إحتج الشافعي بقضية الزبير مع الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أن كَانَ ابنَ عمتك"، (18) فإنه تركَه النبي صلى الله عليه وسلم. وأجابَ أصحابُنا بأنه ما تركه إلا لأنه كان حقاّ له، ولو كان حقاً لله لَأقَامَهُ.
(18) عن عروة رضي الله عنه قال: خاصمَ الزبير رجلاً من الانصار، (أي في السقي) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا زبَيرُ، إسْقِ ثم أِرسل الماءَ، (أي أطلقه إلى جارك)، فقال الانصاري: أن كان ابنَ عمتك، أو إنه أبن عمتك" أي حكمت له لِأنه ابن عمتك، فقال عليه السلام: إسْق يا زبير حتى يبلغ المَاء الجذْر (أي حتى تمتلئ حُفَرُ الغرس، ويصِل الماء إلى جذر النخلِ)، وفي رواية: فتغيّرَ وجه النبي صلى الله عليه وسلم قال الزبير: "فأحْسِبُ هذه الآية نزلتْ في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] =
الثالث من الفروق أن التعزير تأديب يتبع المفاسد، وقد لا يصحبها العصيان في كثير من الصور، كتأديب الصبيان والمجانين استصلاحا لهم مع عدم المعصية.
قال شهاب الدين: وجاء في هذا الفرق فرع، وهُو أن الحنفي إذا شرب النبيذَ ولم يَسْكَر، قال مالك رحمه الله: أحُدُّه ولا أقبل شهادته، لأن تقليده
= وتجدر الإشارة والتذكير هنا بالمناسبة إِلى أن موضوع التحكيم في التشريع الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي كان موضوع درس حسني قيم، ألقاه بين يدي حضرة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله، معالي وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري في شهر رمضان المبارك لعام 1415 هـ - 1995 م، انطلاقا من الآية الكريمة السابقة، وهو مطبوع ضمن مجموعة الدروس الحسنية القيمة التي القيت في ذلكم الشهر المعظم، وصدرت في كتاب خاص في مطلع شهر رمضان المبارك لعام 1416 هـ - 1996 م، والمتتبع لتلك الدروس الحسنية التي القاها معاليه بين يدي أمير المؤمنين فى عدة سنوات متتالية، يجدها دروسا حية قيمة، تتميز بالجدة والبيان، وتتسم بالروعة والإِتقان في الانتقاء والتناول، وفي العرض والأسلوب والمنهج الذي يسلكه في تحضيرها وإلقائها، مما يكشف عن ثقافته الواسعة، ويفصح عن معرفته المتنوعة، وينم عن درايته ومشاركته العلمية الكبيرة، ويبرهن عن تمكنه من الجمع بين العلوم الشرعية الاصيلة، والعلوم الانسانية المعاصرة، القانونية منها والأدبية، والاجتماعية والحضارية، كما تشهد بذلك دروسه الحسنية المطبوعة، ومحاضراته المتنوعة الجيدة، وكتاباته وتحقيقاته العلمية، ورسالته وأطروحته الجامعية بدار الحديث الحسنية وغيرها من الأعمال والندوات العلمية الناجحة، الموفقة التي تنال الاعجاب والتقدير من كافة العلماء والاساتذة الاجلاء الذين يسمعونها أو يقرأونها، حتى إن فضيلة الاستاذ الجليل، والأخ الكريم الدكتور محمد يسف، الاستاذ بدار الحديث الحسنية وقيدوم كلية الشريعة بفاس حاليا، كان قد أقترح أثناء مناقشات الدرس الحسني الذي القاه السيد الوزير حرل النسخ في القرآن الكريم في رمضان المبارك لعام 1414 هـ أن تجمع كل الدروس الحسنية التي ألقاها معاليه، وتطبع في كتاب خاص بها لتكون نماذج رائدة في تلك الدروس، وفي البحوث الاسلامية، والدراسات المقارنة المعمقة، وتبعث الدارسين والباحثين على التوسع في الموضوعات التي تناولتها -، ويعم النفع بها والاستفادة لدى المهتمين بتلك العلوم وتخصصاتها، وهو ما يؤمله ويرجوه كل من استمع لها وقرأها، وأدرك أهميتها وقيمتها العلمية الاكاديمية، كما هو الشأن بالنسبة لكافة الدروس الحسنية القيمة، التي يلقيها صفوة من أجلاء علماء المشرق والمملكة المغربية، والتي تعتبر سنة حميدة من السنن الحسنة التي يرجع الفضل فيها إلى حضرة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني حفظه الله وأدام له النصر والفتح والتمكين، وجعل النفع والخير على يديه للعلم والعلماء، وللإسلام والمسلمين.
في هذه المسألة لأبي حنيفة لا يصِحُّ، ولمنافاتها للقياس الجلِيّ على الخمر، ومخالفةِ النصوص الصحيحة:"ما أسْكَرَ كثيرُهُ فقليلُه حرام". (19).
وقال الشافعي رضي الله عنه: أحُده وأقْبَلُ شهادته. أما حدُّه فللمفسدة الحاصلة من التوسل لِإفساد العقل، وأما قَبول شهادته فإنه لم يَعْصِ، بناءً على صحة التقليد عنده، قال: والعقوباتُ تتبع المفاسد لا المعاصي، فَلَا تَنَافِيَ بينَ "عقوبته وقَبول شهادته. ويَيْطُل عليه قولُه من جهةِ أن هذا إنما هو في التعازير.
أمّا الحدودُ المقدرة فَلمْ توجد في الشرع إلَّا في معصية، عملا بالاستقراء، فالحقَ مع مالك رضي الله عنه.
قلت: هذه مصادره، فمحلُّ النزاع هو، هل هذا في التعزيرات فقط، أوْ فيها وفي الحدود إذا كان فيها مثلُ ما ذكرنا من التقليد، والله أعلم:
قال: الرابع أن التعزير قد يسقط إن قلنا بوجوبه. قال إمام الحرمَيْن: إذا كان الجاني من الصبيان أوْ المكلفين حِين جنى جناية حقيرة، العقوبة الصالحة لها لا تؤثر فيه ردْعا، والعظيمة التي تؤثر فيه لا تَصلُح لهذه الجناية، سَقط تادبيه مطلقا، العظيمة لعدم موجبها، والحقيرة لعدم تاثيرها.
الخامس من الفروق: أن التعزير يسقط بالتوبة بلا خلاف، والحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح، إلا الحرابة، لقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} . (20)
(19) أخرجه كل من الإِمام البخاري والإمام الترمذي رحمهما الله. ورواه أصحاب السنن عن جابر رضي الله عنه
(20)
والاستثناء من قوله تعالى في الآية قبلها في عقاب البغاة المحاربين المفسدين في الارض: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة المائدة الآية 34 - 33.
قال شهاب الدين رحمه الله: هنا سؤال وهو: مَفْسدة الكفر أعظم المفاسد، والحرابة أعظم المفاسد، وهاتان المفْسدَتان العظمتان تَسْقطان بالتوبة، والمؤثر في سقوط الأعلى أوْلى أن يؤثر في سقوط الأدْنَى، وهو سؤال قوي يقَوِّي قولَ من يقول بسقوط الحدود بالتوبة، قياسا على هذا المُجمع عليه بطريق الأولى.
وجوابه من جوه:
أحدُها أن ذلك كان ترغيبا في الاسلام (21)، وثانيها أن الكُفْر يقع لِشُبُهَات (22) فيكون فيه عذر عادي، ولا يُؤثِرُ أحدٌ أن يكفر لهواه، ولا يزني أحدٌ إلا لهواه، فناسب التغليظ. وثالثها أن الكفر لا يتكرر غالبا، وجنايات الحدود تتكرر غالبا، فلو أسقطاها بالتوبة لتجرأ الناس عليها أكثر.
وأما الحِرَابة فلأنا لا نسقطها إلا إذا لم نتحقق المفسدة بالقتل وأخذِ المال، أمَّا متى قَتَلَ قُتِل (23)، وإذا أخذ المال وجَبَ الغُرْم وسقط الحَدُّ، لأنه حدٌّ فيه تخير، بخلاف غيره فإنه محَتَمٌ، والمُحَتَم آكدُ من المخيّر فيه.
السادس من الفروق أن التعزير يختلف باختلاف الفاعل والمفعول معه، والحدُّ ليس كذلك.
السابع أن التَّعْزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فَرُبَّ تعزيز في بلد يكون إكراما في آخر، كقطع الطيلسان (24) إكرامٌ في الشام، وتعزيزٌ بمصر.
(21) عبارة القرافي هي: أن سقوط القتل في الكفر يُرغّب في الاسلام.
فإن قلت: إنه يبعث على الردة، قلت: الردة قليلة، فاعتُبِر جنس الكفر وغالِبُهُ.
(22)
كذا في جميع النسخ، وعند القرافي:"للشبهات"(بالتعريف)، فيكون فيه عذر عادي.
(23)
زاد القرافي قوله: "الا أن يعفو الاولياءُ عن الدَّم".
(24)
الطيلسان: كساء أخْضَرُ يلبسه الخواص من بعض العلماء والمشايخ، وهو من لباس العجم، وجمعه طيالس.
الثامن أن التعزير يتنوع إلى حق الله وإلى حق العبد (25)، والحدودُ كلها حق لله إلا القذف، ففيه خلاف. (26).
ولنذْكُرْ هاهُنا أن قتال البُغاة وقتْلَهم، إنما هو زجْرٌ لاحَدٌّ. (27) والبغاة هم الذين يَخرجون على الإِمام ييغون ضَلْعَه أو منع الدخول في طاعته، أومنع حق واجب، بتأويل في ذلك كله، وبه قال الأئمة، وما في اشتراط التاويل خلاف، (28) وبه يمتازون عن المحارِبين. (29).
قال شهاب الدين: ويَفْتَرق قتالهم من قتال المشركين بأحَدَ عشر وجْها:
أن يُقصد بالقتال ردْعُهم لا قتْلُهُم، ونكُفُّ عن مُدبرهم، ولا يُجْهَزُ على جَريحهم، ولا تُقْتَل أسْراهم، ولا تُغْنَمُ أموالُهم، ولا تُسْبَى ذَراريهم، ولا يُستعان على
(25) مثل القرافي لحق الله، الصرف الخالصِ، بالجناية على كتاب الله العزيز، أو على الصحابة، رضوان الله عليهم.
(26)
الفرق التاسع بين الحد والتعزير أن التخيير بدخل في التعازير مطلقا، ولا يدخل في الحدود إلا في ثلاثة أنواع فقط.
والعاشر: أن التعزير على وفْقِ اَلأصل من جهة اختلافه باختلاف الجنايات وهو الأصل، بدليل حَدِّ الزني مائةَ جلدةٍ، وحد القذف ثمانون، وحدُّ السرقة القطع، وحدُّ الحرابة القتل.
وقد خولفت هذه القاعدة في الحدود دون التعازير، فسوَّى الشرع بين سرقة دينار وألفِ دينار، وشارب قطرة من الخمر وشارب جَرَّة منها في القصاص، مع اختلاف مفاسدها حدا، وعقوبةُ الحر والعبد سواء، مع أن حُرمة الحر أعظم لجلالة مقداره، بدليل رجم المحصَن دون البكر، لِعِظم مقداره، مع أن العبيد إنما ساوت الأحرارَ في السرقة والحرابة لتعذر التجزئة، بخلاف الجلْد، واستوى الجرح اللطيف السارى للنفس، والعظيم في القصاص مع تفاوتهما، وقتل الرجل العالم الصالح التقي الشجاع البطل مع الوضيع. اهـ.
(27)
ما ذكره الشيخ البقوري هنا هو موضوع الفرق الثالث والأربعين والمائتين بين قاعدة قتال البغاة وقاعدة قتال المشركين. جـ 4. ص 111.
(28)
عبارة الامام القرافي: "وما علمت في ذلك خلافا".
(29)
فالمحاربون يخرجون على الناس، ويعتدون على حُرُماتهم في الأنفس والأموال والأعراض، وهم بذالك يُحَاربون الله ورسولَه، ويسعون في الأرض فساداً، وقد أبانت آية الحرابة عن حكمهم في قوله - تعالي:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} ، وقد سبق ذكرها في الفرق قبل هذا بين الحد والتعزير.