الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واعْلَمْ أن الجهل بما تؤدي إليه هذه الأدعية ليسَ عُذْراً للداعي عند الله تعالى، لأن القاعدة الشرعية دَلَّتْ على أن كُلَّ جهْل يمْكن المكلَّفَ رفْعُهُ، لا يكون حجة للجاهل، فإن الله تعالى بعث رسُله إلى خلقه برسائله، وأوْجَبَ عليهم كافةً أن يعْلَموها ثم يعمَلوا بها، فالعلم والعمل واجبان، فمَن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلا فقد عصى معصيتين لتركه واجبْين، وإن علم ولم يَعْمَل فقد عصى معصية واحدةً، ومن علم وعمِل فقد نجا. نعَمْ، الجهل الذي لا يمكن المكلَّفَ رفْعُه بمقتضى العادة يكون عذْراً، كما لو تزوج أختَه يظنها أجنَبِيّةً، إذ لَوْ اشتُرِط اليقينُ في هذه الصورة وشبهِها لشَقّ ذلك على المكلَّفين، وأصْلُ هذا الفسادِ الداخل على الانسان في هذه الأدعية إنما هو الجهل. فاحذَرْ منه واحْرِص على العِلم، فهو النجاة، كما أن الجهل هو الهلاك. (25)
القاعدة الثالثة:
في انقسام مَا ليس بكفر من الدَّعاءِ إلى مُحرَّم وغيرِ مُحرَّم
. (26)
قال شهابُ الدين: وقد حَضرني من المحرَّم الذي ليس بكفر اثنا عشر قِسما، ثَبتَ الحصر فيها بالاستقراء، وما عداها ليس محرَّما بالاستقراء، فمن ظفِر بقِسْمٍ آخَر أضافه لهذه الأقسام، وأنا أمثل كلَّ قسْم بِمُثلِهِ اللائقة بِهِ.
(25) قال الشيخ ابن الشاط معلقا على ما جاء عند الإِمام القرافي في هذا الفصل:
ما قاله القرافي في هذا الفصل، كله صحيح، إلَا ما قاله من أن الأصل في الدعاء التحريمُ، والاستدلالُ على ذلك بقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} ، ففى ذلك نظَرٌ، والأظهر أن الأصل في الدعاء الندب، إلا ما قام الدليل على منعه.
قلت: وذلك ما سيأتي للشيخ البقوري في أول القاعدة الرابعة هنا.
(26)
هي موضوع الفرق الثالث والسبعين والمائتين بين قاعدة ما هو محرم من الدعاء وليس بكفر، وبين قاعدة ما ليْسَ محرما". جـ 4. ص 265، وهو من الفروق الطويلة عند القرافي رحمه الله.
القسم الأول أن يطلب الداعى من الله المستحيلات التي لا تُخِلُّ بجلال الربوبية، كأن يسأله أن يجعله في مكانين متباعدَين في زمن واحد، فهو سوء أدَبٍ مع الله، لأنه لا يُطلَبُ من الملوك إلّا ما يُعْلَم أنهُ في قدرتهم، ومن فعَل غير ذلك فقد عرَّضهم للعجز، (27) وكأن يسأله الاستغناء في ذاته عن الأعْراض ليسْلَم طولَ عمْره من الألم والأسقام، وقد دَلَّتْ العقول على استحالة جميع ذلك. (28)
(27) زاد القرافي قوله: ولا سِيَمَا والعبدُ مأمور ألا يَطْلُبَ إلا ما يتصوَّر وقوعه، لئلا يكون متهكما بالربوبية.
قال ابن الشاط رحمه الله: ما قاله: (أي القرافي) مِن أن الدعاء بالكَون في مكانين في زمان واحد، حرام، لَمْ يأت عليه بحجةٍ غيرِ ما أشار إليه من القياس على الملوك. وهو قياس فاسد، لجواز العجز عليهم، وامتناعه عليه تعالى. ثم قال ابن الشاط: وما قاله من أن العبد مأمور ألا يطلب إلا ما يتصَوَّرُ وقوعه هو عين الدعوى.
وما قاله من أنه يلزم أن يكون متهكما بالربوبية ممنوع، ولا وجه لما قاله إلا القياس على الملوك. وما بالُهُ يقيس الله تعالى عليهم في قصد المبالغة والغلو في التعظيم والتفخيم، فقد خوطب الملوك بنسبة المستحيلات العقلية والعادية إليهم على وجه الغلوّ في ترفيعهم لا على قصد تعجيزهم. بل لِقائل أن يقول: مَن خاطَبَ الله بمثل ذلك تعيَّن أن يكون للمبالغة في التعظيم كما هو الواجب في حقه أو قاصداً للتعجيز أو غيرَ قاصد لهذا ولا لهذا. فعَلى التقدير الأول لا حرج، بل يكون مطيعا مأجورا، وعلى التقدير الثاني يكون عاصيا، وعلى التقدير الثالث يكون مطيعا بصورة الدعاء، مُثَابًا عليه، غيرَ مطيع ولا عاصٍ بالقصد، لعروه عنه.
والثاني من أمثلة القسم الأول أن يسأل الله تعالى دوام إصابة كلامه من الحِكَم الدقيقة والعُلُوم الشريفة أبدَ الدهرِ، ولِيفتخرَ بذلك على سائر الفضلاء وينتفع به أكثر من سائر العلماء.
وقد علق عليه ابن الشاط بقوله: ليس هذا المثال من هذا القسم، بل هو من القسم الثاني الذي هو طَلَب المستحيلات العادية.
(28)
قال ابن الشاط: ما قاله (أيْ القرافي) من أن هذه الأمور مستحيلة عقلا، خطأ، بل هي مستحيلة عادة، إلا الاستغناء عن الأعراض (أي ما يَعْرِض للإنسان من أحوال بشرية لا يَسْلَمُ منها أحد) فهو من المستحيل عقلا، خاصة عند من لا يُجَوِّز العُرُوَّ (أي الخُلُوَّ والنجاة من تلك الأعراض البشرية) لا عند من يجوزه".
قلت: وقد قيل في عدم سلامةِ الإنسان من تلك الأعراض كيفما كان شأنه وحاله في هذه الحياة:
ثمانية تجري على المرء دائما
…
كل امرئ لابدَّ يلْقَى الثمانية
سرور وحُزْن واجتماع وفُرقَةٌ
…
ويُسْر وعُسْر ثم سُقْمٌ وعافية
وقد ذكر فضيلة الأستاذ الجليل الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في رسالته الجامعية عن الفقيه الجليل العلامة أبي علي اليوسي، أن هذا الفقيه واجه صعوبات كثيرة في غربته أثناء دراسته، وكان يتأسى بهذين البيتين المذكورين اللذين حفظهما عن شيخه أبي محمد الحسيْن بن أبي بكر، رحمهما الله. ص 124. من الرسالة المذكورة، طبعة الوزارة.
فإذا كانت هذه الأمور مستحيلة في حقه عقْلا كان طلبها من الله سوءَ أدب، لأن ذلك يُعَدُّ فى العادة تلاعُبًا وضحكا على المطلوب منه، والله تعالى يجبُ له من الإجلال فوق ما يجب لخلقه، فما نافى إِجْلالَ خلقه أوْلى أن ينافي جلاله، تعالى عن كل نقص، (29) بل قد عاب الله تعالى جميعَ خَلْقه بقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (30) أي ما عَظَّموه حق تعظيمه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا أُحْصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نَفْسك"، أي ثناؤك المستحَق ئناؤك على نفسك. (31).
القسم الئاني من المحرَّم الذي لا يكون كفْراً، أن يسأل المستحيلات العاديةَ، إلا أن يكون نبيا، فإن الله يخرق العوائد لهم، كسؤال نزول المائدة من السماء، (32) وخروج الناقة من الصخرة الصماء، (33)، أو يكون ولياً، لهُ مع الله
(29) قال ابن الشاط: ما قاله القرافي هنا من أن طلب ذلك سُوءُ أدب قد مر جوابه. وما قاله من أنه يجب لله تعالى مِن الإِجلال فوق ما يجب لخلقه، فما نافى إجلال خلقه أولى أن ينافي جلاله من كل نقص، صحيحٌ. غير أن فى كلامه إيهام المشاركة في موجب الِإجلال من جهة اقتضاء أفْعَل، التي هي للمفاضلة.
(30)
وتمامها في سورة الزمر. قوله سبحانه، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأنعام: 91] [الزمر: 67].
(31)
عن عائشة رضىَ الله عنها قالت: كنتُ نائمةً إلى جنْب النبي صلى الله عليه وسلم ففقَدتُهُ من الليل، فلَمسْتُه، فوقَعَتْ يدي على قدميه وهو ساجد يقول:"أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، لا أحْصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك". رواه الترمذي والنسائي رحمهما الله.
قال ابن الشاط هنا عند هذا الحديث: إن كان الثناء اللائقُ بجلاله تعالى ممَّا يدخل تحت اكتساب البشر ثُم قصَّرُوا فيه، لحِقَهم الذم والعيبُ لأجل ذلك، وإن كان مما لا يدخل فلا يلحقهم ذَمٌّ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .
(32)
إشارة إلى سؤال ذلك من سيدنا عيسى عليه السلام، حين سأل اللهَ تعالى أن يُنزل على الحَوَارِيَينَ أتباعِهِ المؤمنين به مائدة من السماء، تحقيقاً لسؤالهم وتمنِّيهم ذلك على الله، كما حكاه تعالى في كتابه العزيز بقوله الكريم:{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 114 - 115].
(33)
وذلك معنى كونها آية من عند الله، ومعجزة لنبيه ورسوله صالح إلى قومه ثمود، كما ذكره الله تعالى في غير ما آية قرآنية. ومن ذلك قولُه تعالى حكايةً عن نبيه صالح عليه السلام، وهو يخاطب قومه =
عادةٌ بذلك، فلا يكون هذا سوء أدب من الفريقين ، أو يكون يريد بسؤاله ذلك أن
يجعله وليا، فلا يكون أيضا قلةَ أدب. (34).
ومثال المحرَّم أن يسأَلَ الله تعالى الاستغناءَ عن التنفس ليسلَم من الاختناق، والعادة دلتْ على استحالة ذلك. (35) ومن ذلك أن يسأل الله العافية من المرض أبد الدهر لينتفع بقواه وحواسِّه أبد الدهر، وقد دلت العادة على استحالة ذلك.
ومن ذلك أن يسأل اللهَ الولَد من غير جماع، والثمارَ من غير أشجار.
ومن هذا اللهم أعطنا خيرَ الدنيا وخيرَ الآخرة، واصرِف عنا شر الدنيا وشر الآخرة، فهذا لا يجوز إلا أن يقصد به الخصوص، إذ لابُدَّ أن يدركه بعض الشر ولوْ سَكَراتُ الموت ووحشة القبر، وقِسْ على هذا نظائره. (36) بل يجب على كل عاقلٍ أن يفهم عوائد الله تعالى في تصرفاته في خلقه، ورَبْطَ المسبَّباتِ بالأسباب في الدنيا والآخرة، مع إمكان صدورها عن قدرته بغير تلك الأسباب، فمن سأل غيرَ عادته في مملكته كان مسيئا الأدب عليه. (37) ولذلك عاب العلماء وغلَّطوا
ويدعوهم إلى الايمان بالله وتوحيده وعبادته {وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]، وفي آية أخرى:{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73]
(34)
قال ابن الشاط هنا: إجازةُ دعاء من ليس بولي بخرق العادة، إجازة للدعاء بخرق العادة، فكل ما أنكره من ذلك فقد أجازه على الوجه الذي ذكره، وإذا أجازه على ذلك الوجه فقد أجازه على الجملة، فلا يصح له منعه بعد ذلك.
(35)
قال ابن الشاط: قد أجازَ ذلك على وجه القصد لطلب الولاية. وحكمه بأنه إساءة أدب، دعوى عريَّة عن الحجة. وتكثيره الأمثلة لا حاجة إليه.
(36)
قال ابن الشاط هنا: ليس كونُ هذه الأمور واقعةً على وجه الخصوص بموجبِ ألا تُطلَبَ إلا على وجه الخصوص، بل يجوز أن تطلب على وجه العموم، وغايته أن نقول: طَلَب مثل ذلك طلب للممتنع عادة، على معنى أن يقصد الطالب بطلبه أن يصير وليا، فتخْرَقَ له العادة، فقد جَوَّز ما منع.
(37)
قال ابن الشاط: لم يأتِ القرافي على دعواه بحُجَّة. وما قال: مِن أنه سوُء أدب من ذلك، وهو طلب خرق العادة، لم يأت على منعه بحجة أصلا، إلا ما أشار إليه من القياس على الملوك، وهو قياس فاسد لاشك في فساده، وقد سبقَ مثلُ هذا الملحظ والتعقيبُ من ابن الشاط على القرافي رحمهما الله.
جماعة من العُبَّاد، حيث توسطوا القفارَ من غير زادٍ، وركبوا البحار في زمن الهول، طالبين من الله خرْقَ عوائده لهم في هذه الأحوال، وهم يعتقدون أنهم سائرون إلى الله تعالى بهذه الحالة من حيث تحقيق توكلهم عليه، وأن ما عدا هذه الحالة ينافي الاعتماد عليه، وهو غلطٌ. فقد دخل سيد المتوكلين محفوفا بالخيل والرجال والكَراع والسلاح، وكان مدَّخِراً لعياله قُوتَ سنة. (38).
وحقيقة التوكل أن يعلم المتوكل اعتماد القلب على الله تعالى فيما يطلبه من خير أو يكرهه من ضرِ، لأجل أنه المستولى بقدرته وإرادته على سائر الكائنات من غير مشارك له في ذلك. (39) ومع ذلك فله عوائد في مُلْكه رَتَّبها بحكمته، فمقتضَى
(38) قال أبو القاسم ابن الشاط هنا: تغليط من غلَّطَ من العلماء. جماعةَ العُبَّاد فيما ذكره، غلط من أولئك العلماء، لأنه مبني على إساءتهم الظن بأولئك العُبَّاد، وإساءةُ الظن بعامة المسلمين ممنوعة شرعا، فكيف بالعبَّاد منهم؟ !
والعُبَّادُ الذين فعلوا ذلك لا يخلو أن يكونوا ممّن تَعَوَّدَ خرق العادة له أو ممن لم يتعوَّدْ ذلك، فإن كانوا من القسم الأول فلا عَيْبَ عليهم، وإن كانوا من القسم الثاني فلا يخلو أن يكونوا ممن غلب عليهم في ذلك أحوال لا يستطيعون دفعها أو ممن لم يغلب عليهم أحوال كذلك، فإن كانوا من القسم الأول فلا عيبَ عليهم، لعدم استطاعتهم دفع ذلك، وإن كانوا من القسم الثاني يكونو مُرْتكِبِينَ لممنوع فَيَلْحَقُهُمْ العيب، فما بالُ أولئك العلماء حكموا عليهم بأنهم من هذا الأخير دون القسم الأول والثاني، ألَيس إساءةَ ظن في موطن يمكن فيهِ تحسينه؟ ! ولِمَ يساءُ بهم الظَّن، فيُظَنَّ أنهم ظانون أن ذلك حقيقة التوكل، بل الظن بهم أنهم يعلمون حقيقة التوكل، وأنه كما لا ينافي التسبب لا ينافي أيضا عدم السبب.
وما ذكره من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لا حجة له فيه على أن التوكل لابد معه من التسبب، إذْ مَسَاقُ كلامه يقتضي أن التوكل مع التسبب يصحُّ، ومع عدم التسبب يصح. وما عدَلَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوكل إلا لأنه العَلَم المقتدَى به، والاقتداء به ليس مختصا بالخواص، والجمهورُ قلما تطمئن نفوسهم إلا مع التسبب، والأحكام الشرعية وَاردة على الغالب لا على النادر.
مع أنه لقائل أن يقول: إن التوكل، وإن صحَّ مع التسبب وعدمه، فالتوكل مع التسبب راجع في حقه للحاجة لتعليم الجمهور كما سبق، ولأمْنِهِ من شائبة مراعاة الأسباب لعصمته صلى الله عليه وسلم. والتوكل مع عدم التسبب رجع في حق غيره لعدم أمنه من شائبه مراعاة الأسباب لعدم عصمته، واللهُ تعالى أعلم.
قلْتُ: ودخول سيد المتوكلين، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، محفوفا بالخيل والرجال الخ، يقصد به المؤلف دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا لها منتصرا في السَّنَةِ الثامنة من الهجرة، ومُحَاطا بصحابته الأبْرَار.
(39)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في ذلك صحيح لا ريب فيه.
شمول قدرته انقطاع القلب عن غيره، ومقتضَى عادته التماس فضله في عوائده، فيَحصُلُ الأدَبُ. (40)
وقد انقسمت الخلائق في هذا الباب ثلاثةَ أقسامْ:
1) قسم عاملوا الله بمقتضَى شمول القدرة فحصَّلوا على حقيقة التوكل، وأعرضوا عن الأسبابِ ففاتهم الأدب.
وقسْمٌ لاحظوا الأسبابَ واستولتْ على قلوبهم فحجبَتْهُم عن الله تعالى، وهؤلاء فاتهُمْ التوكل والأدب، وفي هذا هلَكَ أكثر الخلائق.
2) وقسمٌ عامَلُوا الله بمقتضى شمول القدرة وعوائده في مُلْكه، فهؤلاء جامعون بين التوكل والأدب، وهذا مَقام الأنبياء وخواصِّ العلماء والأصفياء.
واعلم أن قليل الأدب خيرٌ من كثير من العمل، ولذلك هلك إبليس، وضاعَ عمله بقلة أدبِهِ. (41)
(40) قال ابن الشاط: قد اعترف (أي القرافي) هنا بأن حقيقة التوكل، المعامَلَةُ بمُقتضَى شمول القدرة والإرادة مع الإعراض عن الأسباب، وهو عين ما عاب على العُبَّادِ حيث قال:"ظانين أن هذه الحالة هي حقيقة التوكل". فقوله هنا مناقِض بظاهره لذلك، وقد تقدم بيان أن التوكل يصح مع التسبب ومع عدمه، وأن الرسل ومن في معناهم من العلماء المقتدَى بهم يترجح في حقهم التوكل مع التسبب لضرورة اقتداء الجمهور بهم، مع ما تَخْتصُّ بِهِ الرسل من العصمة، وأن من عَدَاهم ممن ليس مقتضيا للاقتداء به يترجح في حقه التوكل مع عدم التسبب، لأنه أبعد من شائِبةِ مراعاة الأسباب، واللهُ تعالى أعلم.
(41)
زاد القرافي هنا قوله ودُعاءه: "فنسأل الله تعالى السلامة في الدنيا والآخرة، وقال الرجل الصالح لابنه: "إعمل عملك مِلْحاً وأدَبَك دقيقا"، أيْ ليَكُن استكثارك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل، لكثرة جدواه ونفاسة معناه، ويَدُل على تحريم طلب خرق العوائد قولُه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، أي لا تَركبوا الأخطار التي دلتْ العادة على أنها مهْلِكَة، وقَولُهُ تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، أي الوقاية لكم من الحاجة إلى السؤال والسرقة، فإنهم كانوا يسافرون إلى الجهاد والحج بغير زاد، فربما وقع بعضهم في إحدى المفسدَتين المذكورتين، فأمَرَهُم الله بالتزام العوائد، وحرم عليهم تَركَها، فإن المأمور به منهيُّ عن ضده، بل عن أضداده، وقدْ قيل لبعضهم: إن كنت متوكلا على الله ومعتمِداً عليه وواثقا بقضائه وقَدره فألقِ نفسك من هذا الحائط فإنه لا يصيبُك إلا ما قُدِّر لك، فقال: إن الله تعالى خلَقَ عباده ليجربهم ويمتحنهم لا ليجربوه ويمتحنوه"، إشارة إلى سلوك الأدب مع الله تعالى.
جعلنا الله تعالى من أهل الأدب معه سبحانه ومع عباده الصالحين حتى نلقاهُ على ذلك، بمنِّه وكَرَمِهِ. آمين. =
3) القِسْم الثالث الذي ليس بكفْرٍ، وهو محَرّمٌ، أن يطلب الداعي من الله تعالى نفىَ أمْرٍ دَل السمع على نفيه، وهذا كأن {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}. مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رُفع عن أمتِي الخطأ والنسْيَان" وما استُكرِهوا عليه"، فهو سوء أدبٍ مع الله تعالى لأنه طَلَبُ تحصيل الحاصل، وفيه استهزاءٌ. (42).
= وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما ذكره القرافي محتجا به نقول بموجِبِهِ، ولا يلزم منه مقصودُه، فإن كُل ما ذكره ليس فيه دليل على منْع طلب المستحيل، وإنما فيه المنع من ارتكاب العمل على خلاف العادة، والعملُ على خلاف العادة مغاير لطلب خرقها، فلا يلزم من المنع من أحدهما المنعُ من الآخَر. اهـ.
(42)
قال القرافي هنا معلِّلا كون ذلك النوعِ منِ الدعاء محرما: "لأنه طلبٌ عرِيَ عن الحاجة والافتقار إليه، ولو أن أحدنا سأل بعض الملوكٍ أمراً فقضاه له، ثمَّ سأله إيَّاه بعد ذلك عالما بقضائه، لَعُدَّ هذا الطلبُ استهزاءٌ بالمَلِك وتلاعُباً، ولحَسُنَ من ذلك الملِكِ تأدييُهُ، فأولى أن يستحق التأديبَ إذا فعل ذلك مع الله.
وكذا لو رأينا رجلا يقول: اللهمَّ افرضْ علينا الصلاةَ وأوجب علينا الزكاة، واجعل السماء فوقنا والأرضَ تحتنا لبادَرْنا إلى الإنكار عليه لقُبْحِ ما صدَرَ عنه من التلاعب والاستهزاء في دعائه، إلا أن يريد هذا الداعى بقوله إن نسينا، أي تركناه مع تعمد، كقوله تعالى خطابا للكافرين في عذابهم يوم القيامة:{الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} ، أي تركوا طاعة الله فترك الله الإحسان اليهم، فهذا يجوز، لأنَّهُ طلَبُ العفو عما لم يُعلَمْ العفو فيه.
قال ابن الشاط هنا معلِقا على هذا الكلام عند القرافي رحمهما الله: لم يأت بحجة على ما ادَّعاه، غيرِ ما عَوَّل عليه من القياس على الملوك، وهو قياس لا يصح، لعدم الجامع، وكيف يقاس المخلوق بالخالق، والربُّ بالمربوب، والخالق يستحيل عليه النقص، والمخلوق يجوز عليه النقص، إلى آخر ما قاله ابن الشاط هنا في هذا الموضوع، فليرجع إليه من أراد التوسع فيه.
قلت: هذا تعليق وجيه عند الشيخ ابن الشاط. ويمكن أن يضاف إليه أنه يراد بالنسيان في الآية الكريمة لازمُهُ، وهو إعراض الله عنْهم، وعدم مبالاته بهم، وبما هم فيه من العذاب، وأنه يبعد تفسير النسيان عند البشر بالترك مع العمد، ويبعدُ تأويله بذلك، إذْ النسيان حال وأمرٌ غير إرادي، والعمدُ على عكسه إرادي، فكيف يجتمعان، وهما نقيضانِ، فليتأمل ذلك، وليحقق، والله أعلم.
ثم إنه أيضا لا يكاد يتضح ويُفْهَم. المرادُ مِنْ اعتبارِ الدعاءِ بمثل ما ورد في الآية الكريمة المذكورة من قبيل الدعاء المحرَّم، ولا يكاد يُقْبَلُ التمثيلُ به في هذا المقام، فقد ورد به النص في القرآن الكريم، إرشاداً وتعليما في التوجه بذلك الدعاء إلى الحق سبحانه، وذلك كافٍ لجوازه واعتباره من الدعاء الذي هو عبادة، فما قاله القرافي في خصوص الدعاء الوارد في تلك الآية غير مسلم ولا مقبول. واللهُ أعلم، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية الكريمة وبيان معناها: "أي لا تؤاخذنا إن تركنا فرضاً على وجْه النسيان، أو فعلنا حراما كذلك، أو أخطأنا الصوابَ في العمل، جهلا منا بوجهه الشرعي. =
فإن قيل: يَرِدُ عليك أن الله امتدَح قوماً بقولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (43) قلنا: إنما جاز لهم سؤال ما وعَدهم الله تعالى به، لأن حصوله لهم مشروط بالوفاة على الإِيمان، وهذا شرط مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، فما طلَبوا معلومَ الحصولِ، (44) بخلاف مسألتنا، فإنه عُلِمَ في الشريعة ترْكُ المؤاخَذَة بالخطأ والنسيان مُطْلقاً.
= كما أنه لا يكاد يتضح وجه تعارض الدعاء بما تضمنته الآية من ذلك الدعاء مع حديث: "رُفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"، وهو حديث أخرجه أئمة الحديث: ابْنُ ماجة، وابن حبَّان، والبيهقي والحاكم، والدراقطني، وأورده السيوطي في الجامع الصغير عن الطبرانى رواية عن ثوبانَ رضي الله عنه، ورمز له السيوطي بالصحة (صح)، وأورده الحافظ ابن كثير عند تفسيره لتلك الآية، رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، قالَ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَ اللهَ وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه"، أي إن من رحمة الله بهذه الأمة وفضله عليها ولطفه بها، ومن يُسْرِ دينها وسماحته الرحيمة أن الانسان رُفع عنه الحرج والإثم وعدَمُ المواخَذة فيما يقع له ومنه في تلك الحالات، وذلك في مقابلة المتعمد القاصد للقول والفعل السَّيئ حيث يؤاخذه الله على ذلك، سواء كان فعلا لما يحرم فِعله، أو تركاً لما يجب فعله من الفرائض والواجبات، وغيرها من حقوق الله وحقوق العباد. أما بقية الأمثلة الأخرى غير الآية الكريمة، فيما يتعلق بالتمثيل بها للدعاء المحرم فهى مقبولة ومعقولة، وينطبق عليها تصحيح الفقيه ابن الشاط بقوله: ما قاله القرافي في هذا صحيح، فليتأمل ذلك، وليصحح، والله أعلمُ بالصواب.
(43)
سورة آل عمران، الآية:194.
ووجْه الورود، كما جاء عند القرافي رحمه الله، هو أن وعْد الله سبحانه لابدَّ من وقوعه، فطلبُ ذلك من باب تحصيل الحاصل، وهو عيْنُ ما نحن فيه، ومَدَحهم الله تعالى، فدَل على جواز ذلك، فلا ينبغي منع ذلك الدعاءِ ومنع التوجه بالطلب والسؤال به إلى الله تعالى.
وقد سبقتْ الإشارة إلى هذا، وتنبيهى إلى أن الدعاء بمضمون الآية الكريمة، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} جائز ومقبول ومشروع، لأنه ورد به النص في هذه الآية مِنَ القرآن الكريم، ولذلك فإنه لا يتعارض مع حديث رفع الخطأ والنسيان والاستكراه عن هذه الأمة، ولا يُعْتَبَرُ الدعاء به من قبيل تحصيل الحاصل، فليتأمل ذلك، والله أعلم.
(44)
قلت: اعتبار الوفاة على الإِيمان أمرا مشكوكا فيه بالنسبة لمجموع المسلمين، هو محل نظر وتأمل وروية، إذْ لو كان كل مسلم ومؤمن بالله واليوم الآخر، يشك في ذلك لاضطربَ حاله وشأنه، وتنغَّصَ عيشه وأمره، وأصبح كلَّ همه منصَبا على التفكير في تلك الحال والخوف من سوء المصير، خاصة وهو أمر غيبى استأثر الله به على الإنسان. ذلك أنه بالرجوع إلى عديد من نصوص القرآن الكريم ونصوص أحاديث نبينا المصطفى الأمين، نجدها تدعو المسلم وتهديه، وترشدهُ إلى أن من شأنه، ومن المفروض فيه والواجب عليه أن يعمل ما أمره به الله ورسولهُ، ويجتنب ما نهاه عنه الله ورسوله، فيقوم بالتكاليف الشرعية والأحكام الدينية المطلوبة منه، ويستغفر الله ويتوب إليه =
فإن قلتَ: فإذا جوزتَ ذلك بناءً على الجهالة بالشرط فجوِّزه ها هنا بناءً على الجهالة بالشرط، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُخْبِرْ بذلك مطلقاً وإنما أخْبَرَ بالرفع عن أمته، وكون الدّاعي يموت وهو مِن أمته، مجهولٌ، فما طلَبَ إلَّا مجهولاً، بناء على التقدير المتقدِّم.
= توبة نصوحا عندما يصْدر شيء عَنْهُ مِن ذنوب وآثام، أو يَقع منه تفريط أو تقصير في حقوق الله. وحقوق العباد، وبعد ذلك يُحْسن الظن بالله تعالى، ويعتمد عَلى فضله وكرمه، ويعَوِّل عَلَى رحمته وجوده في قبولِ العمل الصالح والإثابة عليه، وفي حُسْن المصير والمآلِ، وحسن العاقبة والختام، ويطمئِنُ كل الاطمئنان إلى ربه الذي لا يُخْلِفُ الميعاد. فإن مَنْ أحسَنَ الظن بالله، وأحسَنَ العمل، كان الله عند حسن ظنه.
ففى الحديث القدسي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الله عز وجل قال: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني
…
الخ. وفي حديث آخر صحيح عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث (أي ليال) يقول: "لا يموتُ أحدكم إلا وهو يُحْسن الظن بالله " رواه مسلم وأبو داود رحمهما الله. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حُسْن الظن مِنْ حُسْن العبادة".
وعن عُبادةَ بن الصامتِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحَب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كرِهَ لقاء الله كرِه الله لقاءه، فقالت عائشة (أوْ بَعْضُ أزواجه): إنا لَنَكْرَهُ الموت، قال: ليسَ ذاك، ولكن المؤمن إذا حضَره الموت بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، وإن الكافِر إذا حضره الموت بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكرهَ إليه ممّا أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه"، رواه الشيخان وبعض أصحاب السنن رحمهم الله.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في حال المرض، فقال: كيف تجدُك؟ قال: أرجو الله يا رسُوَل الله، وإني أخاف ذنوبى، فقال صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاهُ الله ما يرجو وأمَّنَهُ مما يخاف". رواه الترمذي وحسَّنه.
ومن خلال نصوص هذه الأحاديث النبوية يبدو أنه لا منافاةَ ولا تَعارُضَ بينها وبين أحاديث أخرى يُفهَم منها أن المسلم لا ينبغي له الاعتماد على عمله الصالح في حسن المصير والخاتمة، كحديث:"لا ينجِي أحداً منكمِ عملُهُ" كحديث: "فوالله الذي لا إلاه غيره، إن أحدكم لَيَعْمَلُ بعمل أهل الجَنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبقُ عليه الكتاب، فيعملَ بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليَعْملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بِعمل أهل الجنة فيدخلها"، وحديث البخاري عن سهل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حديث طويل: إن العبدَ لَيَعْمل عملَ أهل النار، وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم". وقال في حديث أخرجه الإِمام الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما "فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة، وفريق في السَّعير"، وقال في حديث آخر رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه: "إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله، فقيل: كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل الموت". =
قلتُ: كونُه من الأمة ليس شرطا في هذا الرَّفع، ولا دلالةَ للخبَر على ذلك، وإنما هو من جهة المفهوم، ونحن نمنع كون المفهوم حجة، لاختلاف العلماء فيه، سلَّمْنا أنه حجة، لكنه مترُوكٌ هنا إجماعاً.
وتقريرُه أن نقول: الكفارُ إمّا أن نقول: هم مخاطَبُون بفروع الشريعة أوْ لَا، فإن قلنا: ليْسُوا مخاطَبينَ فالرفع حاصل لهم في جميع الفروع: النسيانِ وغَيْرِه، فييْطُلُ المفهومُ، واستوَتْ الخلائق في الرَّفع حينئذ. وإن قلنا إنَّهم مخاطَبُون بالفروع فلا يكون قد شُرِع في حقّهم ما ليس سبباً في حقنا، بل كل ما هو سَبَبُ الوجوب في حقنا فهو سبب الوجوب في حقهم، وكذا الأمْر في جميع
= فهى كلها أحاديث نبوية صحيحة، صادرة عمن لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى. والجمع والتوفيق بينها ممكن بوجه صحيح وسليم.
فهذه الأحاديث الأخيرة وإن كان الخوْض والتعمق فيها أمراً صعْبا لا يستطيعه إلا العلماء الجهابذة المتمكنون والأتقياء العارفون الواصلون تدُل على أن المؤَمَّل والمعتمد عليه في حسْن الخاتمة هو فضل الله وكرمه، وتفيد أنّ من سَبقت له السعادة في علم الله وأزله، وفيما كتبه على العبد وهو في بطن أمه جعله من أمة الإسلام، وَهداه لصالح الأعمال، وصرف الله قلبه للخير ويَسَّرَهُ لحسن الخاتمة والعاقبة، ولعمل أهل السعادة. ومن سبقت له الشقاوة - والعياذ بالله - كان على عكس ذلك، كما أشار إليه الشيخ العلامة أحمد بن حجر الهيثمى رحمه الله في كتابه فتح المبين لشرح الأحاديث الأربعين للإِمام النووى رحمه الله، فإنّ من أحسَنَ الظن بالله أحسن العمل، وجمع بين الخوف والرجاء، وحَرص على أن يكُونَ ممن قال فيهم الحق سبحانه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، ولذلك رُوِى عن بعض العلماء الصالحين أنه قال:"ما قطَّع أكبادَ العارفين إلا خوفُهم من سوء العاقبة والخاتمة"، ولكن المؤمن يعمل ويدْعو، ويخاف ويرجُو، ويحسن بالله الظن الجميل، ويسأل الله بكامل اليقين أنْ يُقابِله بعفوه سبحانه وفضله العميم، وأن يتقبل منه عمله بما تقبل به من عباده المتقين، فهو تعالى جواد كريم، وبعباده رؤوف رحيم، لا يضيع أجر من أحسن عملا.
والله سبحانه أعلم بالحق والصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المرجو سبحانه بفضله وكرمه لنيل الأجر وحصول المتاب، ولحسن العاقبة والختام.
فاللهم اجعل آخِر عُمِرنا خيراً من أوله، وخيرَ أعمالنا خواتِمها، وأسعدَ أيامنا يومَ لقائك، واختِم لنا بالسعادة والحسنى التي ختمتَ بها لأنبِيائك ورسلك، ولأوليائك وأصفيائك، وللصالحين المحسنين المخلصين من عبادك وأتقيائِك، بمنك وفضلك يا ذا الجلال والإكرام، يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين، يا ربَّ العالمين.
الأحكام. (45) فعَلَى هذا لا يكون خصوصُ الأمة شرْطا في الرفع، ولمْ يقل أحدٌ: إن الكفار في الفروع أشدُّ حالا من الأمّة، فظهرَ أن هذا المفهومَ باطل اتفاقا، فليس هنالك في النسيان والخطأ شرط مجهول، فيكون الشارع قد أخبر بالرفع فى هذه الأمور مطلقا، فيحْرُمُ الدعاء به. (46)
فإن قلتَ: إنَّ الله تعالى قد أخبَرَ عن قَوْم في الدار الآخرة أنهم يقولون إذا صُرِفتْ أبصارهم تلقاءَ أصحابِ النار: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . وهؤلاء ليسوا من أهل النار، لقوله تعالى:{صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} . (47) وقد قامت الأدِلة على أن من يدخل الجنة أو يكون في الأعراف لا
(45) كون الكفار مخاطَبِين بفروع الشريعة من طهارة وصلاة وزكاة وصيام وحج، وغيرها من الأحكام الشرعية المتفرعة عن الإسلام والإيمان بالله ورسوله، أو غيرَ مخاطَبين بها، مسألة خلافية بين علماء الأصول، وفي ذلك يقول العلامة تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي رحمهما الله في كتابه جمع الجوامع في أصول الفقه:
مسألة: (الأكثر (من العلماء) على أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطا في صحة التكليف (بمشروطه)، أيْ فيصح التكليف بالمشروط حال عدم الشرط، وقيل: هو شرط فيها (أي في صحة التكليف) فلا يصح ذلك، وإلا فلا يمكن امتثاله لو وقع.
ثم قال ابن السبكي هنا - وهي (أي المسألة) مفروضة (بين العلماء) في تكليف الكافر بالفروع، أي هل يصحُّ تكليفه بها مع انتفاء شرطها في الجملة من الإيمان، لتوقفها على النية التي لم تصح من الكافر. فالأكثر - يقول شارحه المَحَلِّي - على صحته، ويمكن امتثاله بأن يؤتى بها بعد الإيمان، "والصحيحِ وقوعه أيضا" فيعاقَب على تركه امتثاله، وإن كان يسقط بالِإيمان، ترغيباً فيه. قَال تعالى:{يَتَسَاءَلُونَ (أي أصحاب الجنة واليمين) * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} ، وقال سبحانه:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} .
(46)
عقب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ليس ما قالَه شهاب الدين في هذا الجواب وأطال فيه بصحيح، لأن مَساق الحديث (أي حديث: رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه) مشعِرٌ بالمدح لهذه الأمة، فيتعين لذلك اختصاصُهَا بذلك الرفع، ويَلْزَمُ القوُل بهذا المفهوم لقرينة المدح، ويكون هنا في هذا المقام شرط مجهول كما قاله السائل، ويبطل جوابه، والله أعلم:
(47)
سورة الأعراف، الآية 47.
والأعراف لغة، جمع عُرف، وهو كل مرتفع على الأرض، ومن هنا أطْلِق عَلى عَرف الديك العَرف، لارتفاعه.
والمراد بالأعراف في هذه السورة والآيةِ الكريمة، السُّورُ الحائل بين أهل الجنة والنار، والفاصلُ بينهم يوم القيامة، وهو في معنى ما قاله مجاهد: حجاب بين الجنة والنار، سُورٌ له باب.
يدخل النار، فهذا دعاءُ تحصيلِ الحاصل، ولم يذكره الله تعالى في بيان الذَّم لهم، مع أنهم سمعوا بتلك النصوص في الدنيا وعلِموا أن من سلِمَ من النار في أوَّل الأمر لا يدخلها بعد ذلك.
قلت: (47 م): قال المُفَسِّرون: هؤلَاءِ أصحاب الأعراف، وهُمْ على خوف من سوء العاقبة، وأحوالُ يومِ القيامة توجب الدهش عن المعلومات، فقد قيل للرُّسل عليهم السلام:"ماذا أجِبتُمْ؟ قالوا: لا عِلْمَ لنا"، (48) لاستيلاء الخوف من الله تعالى على قلوبهم، مع أن هؤلاء ليسوا مكلفّين، ولا ذمَّ إلَّا مع التكليف. (49)
قلت: هذا تكلّف بيِّنٌ، وقولٌ غريب بعيد عن المألوف في الشريعة.
فمن البَيِّن أن هذا الدعاء أثبِت في كتابه العزيز لفوائدَ جمَّةٍ، ومنها أنْ يَدلَّ اللسان به ويُظْهِرَ به عبودية العبدِ لمولاه، فخيْرُ الدعاء ما جاء في القرآن، وهذا من جملته، وطلَبُ الحاصِلِ كثيرٌ مجيئُهُ لفوائد:
منها: اللهم صل على محمد، وقد صلى الله عليه.
= وأصحاب الأعراف اختلفت فيهم عبارات المفسرين، وكلها - كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعَدَتْ بهم سيئاتهم عن الجنة، وخَلَفَتْ بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هنا لك على السُّور حتى يقرضي الله فيهم، نص على ذلك من الصحابة حُذَيفة، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم، وغيرُ واحد من السلَف والخلَف رحمهم الله. انظر تفسير الحافظ ابن كثير وغيرَه من التفاسير بِالمأثور في هذا الموضوع، والله سبحانه أعلى وأعلم.
(47 م) هذا الكلام من أول هذه الفقرة إلى آخرها من كلام القرافي، لا من كلام البقوري كما قد يتبادر من هذه العبارة.
(48)
إشارة إلى قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109].
(49)
قال ابن الشاط هنا: على تسليم جوابه (أي القرافي) للسائل، يبقى هو مطالَباً بدليل المنع من مثل ذلك الدعاء، ولَمْ يأتِ بدليل ولا شُبهة. وكذلك جوابه في المثال الخامس، (وهو أن يقول الداعى: اللَهُم لا تغفر لفلان الكافرِ، وقد دل السمع على أن الله لا يغفر أن يُشرَك به، فهذا محرم، لأنه من باب تحصيل الحاصل وقلة الأدب، بخلاف: اللهم اغفر له، فإنه كفرٌ، لأنه من باب تكذيب السمع القاطع).
ومنها: "اللهمّ أعطه الوسيلة والدرجةَ الرفيعة، وابعثْه المَقامَ المحمود الذي وعدتَّهُ"، فتحريمه من حيث إن الاستهزاء فيه، لأنه طلب لتحصيل الحاصل، ممنوع، ويتقرر هذا المنع بأن لطلبه فوائد غير التحصيل، فسقط ما قاله، والله أعْلمُ.
ثم القول بأنه حرام، لتحصيل الحاصل، ومن حيث الاستهزاء الذي يلزمه ، نمنع أن الاستهزاء يلزمه، ونقول بأنه تحصيل الحاصل، وذلك لا يوجب عليه أن يكُون مُحَرَّماً. (50)
القسم الرابع: أن يسْألَ الداعى من الله تعالى ثبوتَ أمْرٍ دل السمعُ على ثبوته، كأن يقول: جعل الله لكَ موتَ من مات من أولادك حِجابا من النار. (51)
(50) هذا التعليق من أوله إلى آخره وجيه، وتعقيب سديد من الشيخ البقوري. رحمه الله.
ذلك أن ما جاء من كلام عند القرافي في هذا القسم الثالث المتعلق بما هو حرام من الدعاء، وبالتمثيل له ببعض آيات القرآن، لما فيه من تحصيل الحاصل، ومن سوء أدب مع الله، ليس بمسلّم ولا مقبول على علاته وعمومه، وخاصة بالنسبة للدعاء الذي ورد به القرآن الكريم. وقد سبق لي إثارة هذا الملحظ والإشارَة إلى صوابه والمرادِ منه، عند التعليق رقم 42.
وهذا التعقيبُ الذيَ أثاره البقوري، ونبهت على مثله في التعليق السابق، من هذا القسم جاء في محله، حيث لم يستسغ القلبُ ولم يقبل الفكر اعتبار مضمون دعاءٍ ورد في القرآن من باب الدعاء الممنوع، على أساس أنه من باب تحصيل الحاصل، وسوء الأدب مع الله، وهو تعليل لا يَثبت ولا يصمد أمام ثبوته ووروده في نص القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، تعليما للأمة المحمدية أن تدعو به، وهذا التعليق عند البقوري يزيد التأمل والتوقف عنده اطمئنانا واقتناعاً بصواب إثارته والتنبيه على مثله، فشفى النفس مما علِقَ بها وكان برْدا وسلاما عليها حين وجدتُّ من يوافقني في هذا التوقف والتعليق والتصحيح والتصويب، وأنا اتابع هذا القسم الثالث المتعلق بالدعاء المحرم وأمثلته، بهدف التأمل جيدا في كلام القرافي هنا، والوصول إلى فهمه على وجه الصواب والمراد منه. وما أبرِئ نفسي، وقد أكون واهما وقاصراً في فهم مراده ومقصوده، ولذلك التمست العذر فيه لِلقرافي غفر الله له ورحمه، ورحم الشيخ البقوري، ورحم كافة العلماء والمسلمين، وقابلَنَا جميعا بمنه وفضله وكرمه وجوده، آمين.
(51)
قال القرافي هنا: قوله: وقد دل الحديث الصحيح على أنّ من مات له اثنان من الولد كانا حجابا له من النار، فيكون هذا الدعاء معصية. ثم أتى بتساؤل في هذا الموضوع، وهو أنَّنا أمِرْنا أن ندعو للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"اللهم آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ والدرجة الرفيعة، وابعَثْهُ اللهم الْمَقام المحمود الذي وعدتَّه، إنك لا تخلف الميعاد"، والمقام المحمود هو الشفاعة الكبرى في الناس يوم القيامة، وقد أُعطيها صلى الله عليه وسلم، فيلزم أحدُ الأمرين: إمَّا إباحة الدعاء بما هو ثابت (وهذا الذي ارتآهُ الشيخ البقوري وارتأيتُهُ معه كما سبق)، وإما الإِشكالُ على الإِخبار على كونه عليه السلام أعطِيها".
قلت: القولُ في هذا كالقول في الذي قبله حرْفاً بحرف. وما ذكره شهاب الدين من جواب على قوله: "وابْعَثْه المقَامَ المحمود"، لا يَصلُحُ أن يكون جوابا.
القسم الخامس أن يطلب الداعى من الله تعالى نفْي ما دلَّ السمعُ الوارد بطريق الآحاد على ثبوته، وهذا كأنْ يقول: اللهم اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم، فقد دلَّتْ الآحاد على دخول طائفة من المسلمين النارَ. (52). قال شهاب الدين: وهذا يخالفه (53) ما عليه الناس في أدعيتهم من قولهم: اللهم اغفر لي ولجميع المسلمين، (54)، فيقال: إنْ قصَدَ مغفرة الذنوب كلها فلا يجوز، وإن أراد لهم
(52) ففي الحديث الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النِساءَ قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: إجْعل لنا يوماً (أي خَصِّصْ لنا يوما للتفقيه في الدين، وللتذكير والموعظةِ)، فوعَظهن وقال:"أيما امرأةٍ مات لها ثلاثةٌ من الولد كانوا لها حجابا من النار. قالت امرأة: واثنان، قال: واثنان". رواه الشيخان والنسائي. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الناس من مسلم يُتَوَفى له ثلاثة لم يبلغوا الحِنْث (أي لم يبلغوا سِن التكليف ومبلغ الرجال والنساء) إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهُم"، أي بفضل زيادة رحمة الله لأولئك الأولاد، أو بزيادة رأفة الله بالآباء يدْخلهم الجنة. رواه البخاري والنسائي رحمهمَا الله.
(53)
أي فدخول بعض المسلمين للنار إنما هو بذنوبهم التي لم يغفرها الله لهم، وخروجُهم منها يكون بشفاعة ومغفرة، وفضل من الله ورحمةٍ، فلو غفر لجميع المسلمين ذنوبَهم كلها لم يدخل أحدٌ النار، فيكون هذا الدعاء مستلزِماً لتكذيب تلك الأحاديثِ الصحيحة، فيكون معصية ولا يكون كفراً، لأنها أخْبَارُ آحادٍ، والتكفيرُ إنما يكون بجحد ما عُلم ثبوته بالضرورة أو بالتواتر.
ثم طرح القرافي هنا سؤالا على نفسه، وقال: فإن قلت: إن من آداب الدعاء إذا قال الإنسان: اللهم اغفر لي أن يقول: ولجميع المسلمين، وهذا خلاف ما قررتَهُ. وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة صلوات الله عليهم أنهم يقولون كما جاء في كتابه العزيز:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، أي تابوا من الكفر واتبعوا الإسلام. ولفْظُ الذين عامٌّ في التائبين من الكفر وهم المؤمنون، فيكون عاماً في المؤمنين، وكذلك قوله تعالى:{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، وهو خلاف ما قرَّرتَه. سورة غافر، الآية 7.
فأجاب القرافي عن الإشكال الأول بما هو مختصر وملَخَّص عند البقوري بقوله هنا:
إنْ قَصد مغفرة الذنوب كلها فلا يجوز، وإن أراد لهم المغفرة من حيث الجملة جازَ.
وأجاب عن الثاني وهو دعاء الملائكة واستغفارُهُم للمؤمنين في الأرض، بأن ذلك الدعاء والاستغفار لا عموم فيه وفي ألفاظه، لكونها أفعالا في سياق الثبوت فلا تَعُمُّ، إجماعا، ولو كانت للعموم لوجبَ أن يُعتقَد أنهم أرادوا بها الخصوص، وهو المغفرة من حيث الجملة، للقواعد الدالة على ذلك.
(54)
كذا في نسختي ع، وح. وفي نسخة ت: بخلاف ما عليه الناس في أدعيتهم، ولا يظهر أثر لاختلاف المعنى بالنسبة للكلمتين: الفعل، والاسم هنا.
المغفرةَ من حيث الجملة ولم يشركهم في جميع ما طلبه لنفسه جاز، وإن أراد. لنفسه المغفرة من حيث الجملة جاز أن يُشركهم أيضا فيها، لأنه يصح أن يغفِر له بعض الذنوب ويَدْخلَ النار ببعضِ آخر هو وغيره. (55)
قلت: هذا من التكلّف الذي لاخفاءَ به، ومِنْ أبْعدِ شيء في القول.
ثم نقول: الدعاءُ شُرِعَ ليكون سببا لحصول المدعو به، وليَذِلَّ به الإنسان ويُظْهر به عبوديته ويطيع به ربه، فهذه فوائد غيرُ واحدة، فإذا لم يُتصوَّرْ فائدة واحدة تُصُورت الأخرى، فليس هو مما لا فائدة فيه بوجه، ويسقط هذا البحث الذي له في هذه الأقسام المتقدمة كلها، والله أعلم. (56)
(55) قول القرافي هنا "بطريق الأولى" في هذا القسم الخامس من الدعاء المحرم الذي ليس بكفر كما يراه، هو احتراز من طلب نفى ما دَلَّ السمع الوارد بطريق التواتر على ثبوته به، فإن طلب نفي ذلك من قبيل الكفر كما تقدم عنده، وقد أتى القرافي لهذا القسم بأمثلة عديدة، اقتصر الشيخ البقوري هنا على بعضها اختصارا.
(56)
علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء من هذا الكلام في هذا القسم عند القرافي فقال: لقد كلَّف هذا الإنسان نفسَه شطَطا، وادَّعى دواعى لا دليل عليها، ولا حاجةَ إليها، وهْماً منه وغَلَطاً، وما المانع من أن يكلف الله تعالى خلقه أن يطلبوا منه المغفرة لذنوب كل واحد من المؤمنين. مع أنه قد قضى بأن منهم من لا يغفر له، ومن أين تلزم المنافاة بين طلب المغفرة ووجوب نقيضها؟
هذا أمر لا أعرف له وجها إلا مجرد التحكم بمحض التَّوهُّم. وما قالَه من أنه لا عموم في قوله تعالى {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ، لكونها أفعالا في سياق الثبوت، خطأ فاحش، لأنه التفت إلى الأفعال دون ما بعدها من معمولاتها، والمعمولات في الآيتين لفْظَا عمومٍ.
قلت: ومضمُونُ هذا التعقيب والتعليق الوجيه عند ابن الشاط هو الذي نجده كذلك ها هنا للبقوري حيث جاء في عبارته قولُه: هذا من التكلف الذي لا خفاء به، ومن أبعدِ شيء في القول، لينتهيَ إلى قوله عن القرافي: ويسقط هذا البحث الذي له في هذه الأقسام المتقدمة كلها. والحق والصواب إن ظهر أحَقُّ أن يُتَّبَعَ. والله أعلم. اهـ. غير أن أسلوب البقوري في التصويبِ يبقى أخف وألطف من أسلوب ابن الشاط، الذي لا يخلو من تحاملٍ وشدَّةٍ أحيانا، رحمهم الله جميعاً.
القسم السادس أن يطلب ثبوت أمر دل السمع الوارد بطريق الآحاد على نفيه، وهذا كأن يقول: اللهم اجعلني أوَّل داخلٍ الجنة، وكأن يقول: اللهم اجعلنى أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، وكأن يقول: اللهم اجعل الأغنياء يدخلون الجنة قبل الفقراء. (57)
قلت: الرَّد عليه في هذا كالرد عليه في الذي قبله. غيرَ أن طلب مثل هذا لا ينبغي، لعدم التأدُّب الذي فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولِاختياره مطلوبا غير مختار عند الله.
القسم السابع. الدعاءُ المعلَّق على مشيئة الله تعالى، فلا يجوز أن يقول: اللهمَّ اغفر لي إنْ شئتَ، وهذا لاستشعاره عدمَ حاجةِ العبد إلى مولاه وَاستغنائه عنه، (58) وفيه تحصيلُ الحاصل. (59)
(57) زادَ القرافي في هذا القسم من أمثلة الدعاء المحرم الذي ليس بكفر أمثلة أخرى، كأن يقول الإنسان:"اللهم اجعلنى أولَ من تنشَق عنه الأرض يوم القيامة لأستريح من غمها ووحشتها مدَّةً من الزمان قبل غيره، وقد ورد في الصحيح قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تَنشق عنه الارض"، فيكون هذا الدعاءُ رداً على النبوة، فيكون معصية، وكأن يقول الإنسان: اللهم اجعلني أول داخل للجنة"، أو يقول: اللهم اجعل الأغنياء يدخلون الجنة قبل الفقراء، لكونه من الأغنياء، وقد ورد في الحديث الصحيح غير ذلك، فيكون معصية .. الخ.
قال ابن الشاط هنا: لا مضَادة بين التكليف بطلب أمر ونفوذ القضاء بعدم وقوعه، ومدعى ذلك مطالب بالدليل عليه، ولم يأت على ذلك بدليل إلا دعوى المضادة.
قلت: ومثل هذا التعقبب هو الذي نجده هنا عند البقوري ملَخَّصا، مع ملاحظته أن مثل هذا الدعاء لا ينبغي، لما فيه من عدم التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اختياره أمراً غير مختارِ اللهِ أحْكمِ الحاكمين، وأسرعِ الحاسبين وأعْدلِ العادلين.
(58)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في هذا القسم صحيح.
قلت: كيف لا يكون هذا القول صحيحاً وسليماً، وقد أخرج بعض أئمة السنة النبوية حديثاً صحيحاً عن أبي هريرة ضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقولَن أحَدُكُم: اللهم اغفر لى إن شئتَ، اللهم ارحمنى إن شئت، لِيَعْزِمْ المسألةَ، فإنه سبحانه لَا مُكرِهَ له". (أيْ فليتوجهْ العبد إلى ربه بالدعاء الجازم المتيقن فيه بالإجابة، فإنه سبحانه كريم رحيم، وعَدَ باستجابة دعاء المؤمنين.
(59)
وطَلَبُ تحصيل الحاصل محال كما قال القرافي، فإن ما شاء الله لابد من وقوعه، وذلك كله مناقض لقواعد الشريعة والادب مع الله تعالى.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ليس ما قاله في طلب تحصيل =
القسم الثامن، الدّعاءُ المعلَّق بشأن الله تعالى، وهذا كأن يقول:
اللهم افعَلْ بي ما أنتَ أهْلُهُ في الدنيا والآخرة. وهذا الدعاء يعتقد جماعة من العقلاء أنه حسنٌ، وليس كذلك.
وبيان ذلك أن الله سبحانه كما هو أهْلٌ للمغفرة في الذنوب هو أهلٌ للمؤاخَذَة عليها. ونسْبَة الأمرْين إلى جلاله تعالى نسبةٌ واحدة، فمن هلك من الخلق فبِعَدْله هلك، ومن نجا منهم فبفضله نجا، فالخلق بين فضله وعدله يتصرفون (59 م)، فمن دعا بذلك فكأنه قال: إفعل معى الخير إن شئت، أو الشرَّ إن شئتَ، وهو معنى قوله عليه السلام:"لا يَقُلْ أحدُكُمْ: "اللهم اغفر لي إن شئتَ"، ولأن الدعاء على هذا التقدِير فيه إظهار الاستغناء وعدم الافتقار، (60) إلا أن ينوي الداعى ما أنت له أهل من الخير الجزيل، (61) وإنما يستقيم هذا الدعاء، على رأي
= الحاصل بصحيح، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة بالمغفرة وهي معلومة الحصول عنده وعندنا، وأمرنا أن ندعو له بإيتائه الوسيلة والفضيلةَ والدرجة الرفيعة، وأن يبعثه الله المقام المحمود، وذلك كله معلوم الحصول عنده وعندنا.
(59 م) وهذا الموضوع والمعنى أشار له العلامة الشيخ عمر بن محمد النَّسَفي (ت 537 هـ) رحمه الله، وذكره في عقائده النسفية بقوله ردًا على المعتزلة:"وما هو الأصلحُ للْعبد فليس ذلك بواجب على الله".
وقال فيه العلامة الشيخ برهان الدين إبراهيم بن هارون اللقاني رحمه الله (ت 1041) في منظومته جوهرة التوحيد، ردًا على المعتزلة أيضا
فإن يُثِبْنا فَبمحض الفضْل
…
وإن يعَذِبْ فبمحْض العدْل
وقَولهم إن الصلَاح واجبٌ
…
عليه، زُورٌ، ما عليه واجِبُ
ألم يَرَوا إيلَامَهُ الأطْفالا
…
وشِبْهَهَا فَحَاذِرْ المحالا
وقال فيه العلامة أبو البركات الشيخ أحمد الدردير، شارحُ مختصر الشيخ خليل، (ت 1201) رحمه الله في منظومته المسماة بالخريدة البهية في العَقائِدِ التوحيدية.
ومن يقلْ: فعْلُ الصّلاح وجَبَا
…
على الإلاهِ قد أساء الأدَبا
(60)
أي فيكون هذا الدعاء معصية، كما قال القرافي رحمه الله: وقال ابن الشاط هنا: قد تقدم أن ما قاله في مثل ذلك صحيح.
(61)
زاد القِرافي هنا قوله: ولا يقتصر في نيته على مطلق الخير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سألتم الله فأعظِموا المسألة، فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء، واذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى"، فإن عريتْ نفس الداعى عن نية تعظيم المسألة مع القصد إلى الخير في الجملة فقد ذهب التحريم. وعقَّب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: ما قاله في ذلك صحيح، والله أعلم.
المعتزلة الذين يقولون: إنه أهل للخير فقط، ولَا يُنسَب إلى شأنه إلا ذلك. (62)
قلت: العُرْف صيَّره إلى أن المراد به الخيرُ حتَّى إنه لا يحتاج إلى نية، ولهذا تجد الداعىَ أبدا يقول: اللهم افعل بي ما أنت أهْلُهُ ولا تفعل بي ما أنا أهْلُهُ، فهو يُريد الفضلَ والإحسانَ حيثُ قابلَه بما هو أهْل له من الإِساءة والنقص، فهو عامٌّ أريدَ به الخصوصُ. (63)
القسم التاسع الدعاءُ المحرَّم الذي ليس بكفرٍ، الدعاءُ المرتَّب على استئناف المشيئة، كأن يقول: اللهم قدّر لي الخير، والدعاءُ بوضعه اللغوي إنما يتناول المستقبَل دون الماضي لأنه طلبٌ، والطلبُ للماضي محالٌ، فيكون مقتضى هذا الدعاءِ أن يقع تقدير الله تعالى في المستقبل من الزمان، واللهُ يستحيل عليه استئناف التقدير، بل وقع جميعُه في الأزل. وهذا إنما يصح على مذهب من يرى أن
(62) قال القرافي هنا: وإن عَريَتْ نفس الداعى بهذا الدعاء عن النية بالكلية كان عاصيا، وإنما يستقيم على مذهب المعتزلة الذين يعتقدون أن الله تعالى يجب عليه رعاية المصالح وأنه أهل للخير فقط، فهذا هو شأنه عندهم، ومذهب الاعتزال إما كُفرٌ، أو فسوق بالاجماع من أهل السنة، فلا خير في هذا الدعاء على كل تقدير، وهما مذهبان ضالّانِ، يسبقان إلى الطباع البَشَرية، ولا يزال البَشَرُ معها حتى تُرَوِّضَهَا العلوم العقلية والنقلية، وهما الحشوية والاعتزال .. الخ
وقد عقب ابن الشاط على هذا الكلام بقوله: حكْمه بالمعصية في مثل هذا الدعاء، فيه نظر، فإنه لا يخلو أن يكون الداعى ممَن يعتقد مذهب الاعتزال أوْلا، فإن كان الأول فذلك ضلال كما قال، وهو: مختلَف فيه هل هو كفر أو ضلالٌ غيرُ كفْر، وإن كان لا يعتقد مذهب الاعتزال فقرينةُ الحال في كون الإنسان لا يريد لنفسه إلا الخير مع سلامته من اعتقاد الاعتزال تُقَيِّدُ مطلق دعائه، فلا كفر ولا معصيةَ.
(63)
قلت: وهو تعليق وجيه ولطيف عند الشيخ البقوري رحمه الله، أظهرَ مَخرجا للإِشكال الواردِ فى مثل هذا الدعاء. كما أورَدَهُ القرافي.
الأمْرَ أنُفٌ، (64) وهو مذهب باطل. وكذلك أيضا: اللهمّ اقضِ، (65) إذ معناهما واحدٌ.
وأورد شهابُ الدين اعتراضاً على هذا القسم بما جاء في حديث الاستخارة حيث قال: "واقْدُرْ لي الخيرَ حيث كان"، فأجاب بأن المراد بهذا اللفظ تيسيرُه، والناطق بهذه الكلمة يريد بها معْنى التيسير، فيجوز له إطلاقها، فإن لم يَنْوِ ذلك فلا يجوز، لِمَا قُلْنا. (66)
(64) أُنُفٌ بضم الهمزة والنون، بمعنى مستأنَف، والمراد بذلك في مذهب من وراه ويعتقده- وهُمْ القَدَرية - أنَ أمْرَ الله وعِلمَه وتقديره وتصريفه للأمور مستأنَف، فلا تقدير ولا عِلْمَ سابق في أزله، وقديم قدَمَ ذاته سبحانه، تعالى الله عن ذلك القول علُواً كبيراً. وفي حديث لابن عمر رضي الله عنهما. وقد قيل له: إنَّهُ ظَهر قِبَلَنَا (أي ظهر عندنا وفي جهتنا ببلدنا) ناسٌ يقرأون القرآن ويتقفَّرون العلم (أيْ يطلبونه ويبحثون عن غامضه)، وذكر (أي القائل) من شأنهم: وأنهم يزعمون أنْ لا قدَرَ، وأن الأمر أُنُفٌ، قال (أي ابن عمر): فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أني برئ منهم وأنهم بُرآءُ مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر (وهو الله تعالى) لوْ أنَّ لأحدهم مثلَ أحُدٍ ذهبا فأنفقه، ما قَبِل الله منه حتى يُؤمن بالقدَر". رواه الإِمام مسلم رحمه الله.
والقدَرية - بفتح القاف والدال - هم طائفة وفرقة من المسلمين يعتقدون أنه لا قَدَرَ (يقدِّره الله على الإنسان)، وأن العبد يخلق أفعاله الاختيارية، بقدرة خلقها الله فيه، فالخالق عندهم اثنان: الله، والعبد في أفعاله الاختيارية، وهذا الاعتقاد فاسد وباطل في نظر واعتقاد أهل السنة والجماعة، فإنهم يرون أن الخير والشر من الله تقديرا أزليا في سابق علمه وأزله، ومنه سبحانه خلْقاً وإيجَادا، ولكنهما يُنْسَبَانِ إلى العبد عملا وكسْبا واختيارا، بما أعطاه الله من عقل وإرادة اختيارية، وقدرة بشرية على الفعلِ، والترك. والنصوصُ دالة على ذلك وواضحة فيه، مثل قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وقوله سبحانه:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} انظر كتب المِلَل والنَّحَل، للشهرستاني وابن حزم رحمهما الله.
(65)
عبارة القرافي أتَم وأوضح، وهي:"اللهم اقض لنا بالخير"، وقدِّر، واقضِ معناهما واحد في العرف.
(66)
عقب ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بقوله: في هذا الكلام نقص فيما أرَى، ومثل ذلك الكلام ليس المراد به استئناف صفتىْ القدرة والإرادة، وإنما المراد استئناف المقدَّر والمراد، لاستحالة الأول وجواز الثاني، ومقتضَيْ استحالة الأول قرينة صارفة للثاني، فلا تحريم ولا معصية، ولا يفتقر مع ذلك إلى نية، والله أعلم.
وهو تعقيب يبدو دقيقا ووجيها من ابن الشاط، كما هو الشأن في سائر تعقيباته وتصحيحاته التي يأتي بها تعليقا على كلام القرافي رحمهما الله جميعا.
وصلاة الاستخارة وما فيها من دعاءٍ، شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لمخالفة أهل الجاهلية فيما كانوا عليه من التفاؤل والتشاؤم عند العزم على الأمور بإثارة الطيور وذهابها يمينا وشمالا، ولتصحيح عقيدة المسلم =
قلت: بل الأوْلى أن يقال: لَمَّا كان الداعي لا يعرف ما قدَّره الله، هل إثباتُ ذلك الشيءِ أو نفْيُهُ؟ طلبَ تقديره إن كان مرادَه، بمعنى إبرازِه للوجود، أوْ عدمَ تقديره إن كان لم يُرده، بمعنى أنه لا يبرزه للوجود. وصَحَّ هذا وإن كانت الأشياء كلها قد فَرغ الحق سبحانه منها، فعَلِم ما يقع ولا يتغير، وعَلِم ما لا يقع ولا يتغير أيضا، وليس فيه طلبُ تحصيل الحاصل، ولا طلبُ المحال من حيث غيبته (أيْ عَنْ الداعي) وعدمُ علمه بالمقضيّ.
القسم العاشر الدعاءُ بالألفاظ العجمية، لجواز اشتمالها على ما ينافي جلال الله تعالى. ويدل على تحريمه قولُهُ تعالى:{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . (67)
في الله تعالى بِالتوكل على الله والاعتماد عليه والتوجه إليه سبحانه بالدعاء بالتوفيق وإنجاح العمل والمسعَى عند العزم وإرَادةِ الِإقدام عليه في أي شأن من شؤون الإنسان وحياته العملية.
فعن جابر رضىِ الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فلْيركعْ ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقُل: اللهمَّ إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدِر ولا أقدر، وتعْلمُ ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تَعْلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمْري (أو قال: في عاجلِ أمري وآجلِه) فاقْدُره لي ويَسّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وَعاقبة أمري (أو قال في عاجل أمري وآجِلهِ) فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدُرْ لي الخير حيث كان، ثم أرْضِني به، قال (أيْ جابر): ويسَمِّي حاجته". انتهى الحديث. رواه الإِمام البخاري وأبو داود والترمذي والنَّسائي رحمهم الله.
(67)
ووجْه الاستدلال بالآية كما قال القرافي أن معناها أن أسألك ما ليس لي بجَوازِ سؤاله علم، فدل ذلك على أن العلم بالجواز شرط في جواز السؤال، فما لا يُعلَم جوازُه لا يجوز سؤاله، وأكد الله تعالى ذلك بقوله:{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، واللفظ العجمي غير معلوم الجواز، فيكون السؤال به غير جائز، ولذلك منع مالك الرُّقى به".
وعقَّب ابن الشاط على كلام القرافي هذا، فقال: ما قاله فى هذا القسم صحيح،
على أن التعقيب الذي أتَى به الشيخ البقوري بعد الآية مباشرةً يفيد أن كلام القرافي غير سليم، وأن الاستدلال بالآية على ما ذكر القرافي ليس بظاهر، فليتأمل ذلك، والله أعلم.
قلت: الاستدلالُ بالآيةِ على ما ذُكِر ليس بظاهر، لأن المراد بالآية إنما هو لا تسألَنى قضيةً تظن أنها مصلحة، وظنُّك ليسَ بصائِبٍ، بل هي مفسدة.
فنُوحٌ عليه السلام توجهَ بلفظه وباطنه نحو قضية معلومة، وانتفى علمه عنها من حيث ما ذكرناه، إلّا أنه أتى بلفظ لم يَعْرف معناه.
ثم هذا القسم العاشر، منه ما يكتبه الناس يوم الجمعة بعد العصر آخرَ جمعة من رمضان من الحفَظة التي فيها (لغسلمون)، وقد كَرِه كثير من الفضلاء كَتْبَهَا، لأجل تلك اللفظة العجمية كما قال شهاب الدين ها هنا رحمه الله.
القسم الحادي عشر: الدعاء على من ليس بظالم، لأنه سعْيٌ في إضرارٍ غير مستحَقٍ، فيكون حراما كسائر المضَرَّاتِ والسَّعْي فيها.
فإن قيل: اللهُ تعالى عالمٌ بأحوال العباد فيعلَم الظالم والمظلوم، فلا يجيب الدعاء في غير الظالم، قيل: بل يُؤثر الدعاءُ بإرادة الله تعالى وإن كان المدعو عليه غير ظالم، لذُنوب اقترفها من غير جهة الدّاعي، بل لوجوزنا برآته من الذنوب لجوزنا جواز الإِجابة فيه لرفع درجاته. (68) وأما الدعاء على الظالم فجوزه مالك وجماعة من العلماء غيرِهِ، وإن كان الْأحسَنُ الصبر والعفو، لقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} ، (69) ولقوله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (70). وإن زادهُ الإِحسانَ فذلك
(68) عقب ابن الشاط على كلام القرافي في هذا القسم والفصل الحادى عشر، فقال: ما قاله في هذا الفصل صحيح، إلا قوله:"وإظهار صبْر العبد"، إن كان يريد به اشتراط الصَّبر في رفع الدرجات بالمصائب والآلام وشبه ذلك مما هو غير مكتسب على ما سبق له في الفرق الثالث والستين والمائتين، وسبق القول في مخالفتى إياه في ذلك، وإن كان لم يُرد اشتراط الصبر في ذلك بل أراد أن ما ذكره من إجابة دعوة المظلوم وغير ذلك من المصيبات يكون سببا لرفع الدرجات من غير شرط الصبر، ويكون أيضا سببا لوقوع الصبر من الصابر، فقد خالف قوله هنالك وناقَضه بهذا القول، والله تعالى أعلم.
(69)
و (70) وقَبْلَها قولُ الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].
أجلّ شيء في مكارم الأخلاق، لقوله تعالى:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . (71)
قال شهاب الدين: وينبغي أن يُنظَر لحال الظالم، فإن عُلِمَ منه أنه إذا عَلِمَ أنهُ لا يُدْعَى عليه يزيد طغيانا، فأظهِرْ له ما فيه صلاحُهُ إن كان على ما ذكرنا أو على الضدِ. (72)
(71) وأولها قول الله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وقد عقب الشيخ ابن الشاط رحمه الله على هذه الفقرة الاخيرة وعلى ما جاء عند القرافي في هذه الفقرة من الاستدلال بالآية فقال: ليس في الآية التي استدل بها دليل على جواز الدعاء على الظالم، وإنما فيها الدليل على جواز الانتصار، والانتصارُ هو الانتصاف منه على درجة لا يكون فيها زيادة على قدر الظلم، وبالوجه الذي أبيح الانتصاف به. وجواز الانتصاف لا يستلزِم جواز الدعاء عليه، الا أن يكون الدعاء بتيسير أسباب الانتصاف منه، فقد يسوغ دعوى دلالة الآية على ذلك ضِمْناً لا صريحا، وأما الدعاء بغير ذلك فلا يدل عليه، لا بِضمن ولا بصرج. وما قاله من م نه إن زاد على ذلك بأن دعا له فقد أحسن إلى نفسه وإلى الجاني، صحيح أيضا. وما عقَبَ به من ذلك الحديث المخبِر عن الملائكة بأن الانسان إذا دعا بمكروهٍ على غيره تقول الملائكة، ولك مثله، إن كان أراد حمله على إطلاقه في الدعاء بالمكروه، وكذلك في الدعاء بالأمر المحبوب فلا أرى ذلك صحيحا، بل إن دعا على ظالم بأن يصاب بمثل ما أصاب به فلا يقول الملك: ولك مثله، وإنما يقول الملك ذلك إذا دعا الداعي على بَرئٍ أو على جان بأزيدَ من جنايته، هذا في جانب المكروه، وأما الدعاء في جانب المحبوب فلا أراه إلا على اطلاقه، والله أعلم.
(72)
قال ابن الشاط هنا: ما قاله القرافي في ذلك صحيح.
قلت: ومما يُستدَلُّ به على جواز الدعاء على الظالم ما اخرجه الشيخان: البخاري ومسلم وغيرهما. عبد الله بن عباس الله رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن (ايْ قاضياً) فقال: "اتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عد: "ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتى يُفطر، والإِمام العادل، ودعوةُ المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الربُّ: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين". رواه كل من الإِمام احمد والامام الترمذي وحسَّنه. وقد أشار بعضهم إلى دعوة الظلوم على الظالم، واستجابتها في بيتين فقال:
لا تَظْلِمَنَّ إذا ما كنتَ قادرا
…
فالظلم ترجِع عقباه إلى النَدَمِ
تنامُ عيناكَ، والمظلومُ منتِبه
…
يدعو عليك، وعينُ الله لم تَنَمِ
ثم إذا كان الدُّعاء عليه فلا يدْعَى عليه بمعصية ولا بكفْرٍ، فإن إرادة المعصية معصية، وإرادة الكفر كُفْر. (73)
قلت: هذا غيرُ مسلّم، لقول موسى عليه السلام:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} . (74)
القسم الثاني عشر: ما استفاد التحريمَ من مُتَعَلَّقِهِ، وهو المدعو بهم لكونه طلبا لوقوع المحرمات، كأن يقول: اللهم اسقِه خمراً أو أعِنْه على المَكْس أوْ وطْء الاجنبية الفلانية، أو يطلب ذإك لغيره، إمّا لعدوِّهِ وإمّا لصديقه، وجميع ذلك محَرَّم تحريم الوسائل.
وُيروى: "من دعا لفاسقٍ بالبقاء فقد أحبّ أن يُعْصَى اللهُ تعالى،
ومحبةُ معصية الله تعالى محرَّمة، ودلَّ ذلك على أن الدعاء المحرَّم محرَّم. (75)
(73) زاد القرافي هنا قوله: بل تدعو علَيه بنكد الدنيا ولا تدعو عليه بمؤلمة لم تقتضها جنايته عليك، بأن يجنى عليك جناية فتدعو عليه بأعظمَ منها، فهذا حرام عليك، لأنك جانٍ عليه بالمقدار الزائد، والله تعالى يقول:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} . فتأمل هذه الضوابط ولا نخرج عنها.
ثم عقب ابن الشاط على ما جاء في هذه الفقرة فقال. ليس هذا الاطلاق عندي بصحيح، بل إن اقترن بإرادة المعصية قولٌ في المعصية التي هي قول، أو فعل في المعصية التي هي فعل، فذلك معصية، وإلا فلا، على ما اقتضاه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوزَ لأمتي ما حدثتْ بها أنفسُهَا ما لم تعمل أو تتكلم" فإرادة الكفر داخلة تحت عموم الحديث المذكور، ولا أعلم لهذا الحديث الآن معارضا، فلا كفْر، والله تعالى أعلم. هذا في إِرادة الرء أن يعصي أو أن يكفر، فكلا الإرادتين معصية لا كفر، والله تعالى أعلم.
(74)
وأولها قول الله تعَالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} : سورة يونس: الآيتان 88 - 89
والخطاب لموسى وأخيه هارون في الآية 87، قبل هذه، بقوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
(75)
عقب الشيخ ابن الشاط على ما جاء في هذا القسم الثاني عشر بقوله: ما قاله القرافي في هذا القسم صحيح. فرحمهما الله ورحم كافة العلماء وسائر المسلمين، وأثابهم على ما قدموه وأفادوا به الناس من علم وفقه في الدين، واستنباط من النصوص والأصول لأحكام شرعه الحكيم، ونَفعَنَا بعلمهم، آمين.