الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعاوى والشهادات
وما ألحِق بذلك، وفيه تسعَ عشرةَ قاعدةً:
القاعدة الأولى: في تمييز الدعوى الصحيحة من الدعوى الباطلة
. (1)
إعْلم أن ضابط الدعوى الصحيحة هو أنها طلبُ معَيَّنٍ، أو ما في ذمة معَيَّن، أو ما يترتب عليه أحدهما، معتَبَرٌ (2) لا تُكَذِبه العادة شرعا.
(1) هي موضوع الفرق الحادي والثلاثين والمائتين بين قاعدة الدعوى الصحيحة وقاعدة الدعوى الباطلة .. جـ 4. ص 72، لم يعلىق عليه بشيء، العلامة المحقق الشيخ ابن النشاط رحمه الله، ورحم الشيخ الامام القرافي وأثابهما على ما قدَّماه من خدمة للعلم والدين وللاسلام والمسلمين، ونفع بعلمهما، آمين.
وَمِمَّنْ بسط الكلام في موضوع الدعاوى والشهادات وتوسع فيه وأجاد، الفقيه العلامة الشهير برهان الدين، ، أبو الوفاء ابراهيم بن الإِمام العلامة شمس الدين أبي عبد الله محمد، المعروف بابن فرحون اليعمرى المالكي، رحمه الله، وذلك في كتابه:"تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" ومؤلف كتاب: "الديباجُ المذَهَّب في معرفة أعيان علماء المذهب". (أي المذهب المالكي) وغيرها من المؤلفات القيمة، وكذا كتاب:"العِقد المنظّم للحكام فيما يجري بين ايديهم من العقود والأحكام"، تأليف الشيخ الفقيه أبي محمد عبد الله بن عبد الله، الشهير بابن سلَمون الكناني، والفقيه العلامة أبو بكر بن عاصم رحمه الله، في منظومته الشهيرة بـ "تحفة الحكام في نُكَت العقود والأحكام" وشرحيْها للعالمين الفقهين الجليلين، أبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي، وأبي عبد الله محمد التاودي، وغير هذه من الكتب المتداولة بين العلماء والفقهاء، والتي ظلت مُعتمَدَهم ومرجعهم في فقه القضاء وأبوابه من الأحوال الشخصية والبيوع وما يتصل بها، والدعاوى والشهادات وما يتفرع عها، وأحكام الواريث وجزئياتها ومسائلها، مما يجده فيها الدارس والباحث والراغب في التوسع فيما اشتملت عليه من ابواب وموضوعات واحكام، كما تناولها فقهاء القانون المدني تحت مصطلح "وسائل الاثبات". فرحم الله علماءنا الأبرار وفقهاءنا الأعلام، وجزاهم خيرا عن المسلمين والاسلام، ونفع بعلمهم في كل العصور والأجيال، آمين.
(2)
كذا في جميع النسخ الثلاث: ع، ح، ت. وفي كتاب الفروق:"معتبرة لا تكذبها العادة شرعا" بالتأنيث. ويظهر وجه التذكير في كونِ الضمير يعود على تعريف الدعوى، وهو طلبُ مُعَيَّنِ
…
الخ، وذلك الطلب يكون معتبراً، لا تكذبه العادة، بينما وجه التانيث في كونه يعود على الدعوى حيث تكون معتبرةً لا تكذبها العادة شرعا. وتكون الاضافة في كلمة طلب من اضافة المصدر إلى مفعوله كما يضاف إلى فاعله، وذلك ما اشار إليه ابن مالك في ألفيته حيث قال:
وبَعْدَ جَرّه الذي أضيفَ له
…
كَمِّل بنصْب أو بِرفعٍ عَمَلَه
فالأول كدعْوَى أن السلعة المعَيَّنة اشتراها أو غُصبت منه (3).
والثاني كالديون والسَّلَم.
ثم المعَيَّن الذي يُدَّعَى في ذمته قد يكون معَيَّناً بالشخص كزيد، أو بالصفة كدعوى الدية على العاقلة، (4) والقتلِ على جماعة، أو أنهم أتلفوا له أموالا.
والثالث كدعوى المرأة الطلاقَ أو الرِّدَّةَ على زوجها، وقولنا: معتبر (أو معتبرة) شرعا، احترازا من دعوى عُشُر السمسمة (5)، فإن الحاكم لا يَسْمَعُ مثل هذه الدعوى، فإنه لا يترتب عليها نفع شرعي،
ولهذه الدعوى (الصحيحة) أربعة شروط:
أن تكون معلومَة، محقَّقة، لا تُكَذبها العادة، يتعلق بها غرض صحيح.
وفي الجواهر: لو قال: لي عليه شيء، لم تُسمَع دعواه، لأنها مجهولة، وكذلك: أظن، لي عليه ألف (6). وقال الشافعى: لا تصح دعوى المجهول إلا في الإِقرار والوصية، لصحة القضاء بالوصية المجهولة كثلث المال، والمال غيرُ معلوم، وصحةِ المِلك في الاقرار بالمجهول من غير حكم، ويُلزمه الحاكم التعيين، وقاله أصحابنا، (7) ويَذكر في غير الأعيانِ الصفاتِ المعتبَرةَ في السَّلَم، وذِكْرُ القيمة
(3) كذا في ع، ر ح، وهو ما في الاصل: الفروق. وفي نسخة ت: وغصبت بالواو التي هي لمطلق الجمع، على خلاف ما تفيده وتقتضيه أو من ادعاء أحد الأمرين، فلْيصحَّحْ.
(4)
العاقلة مصطلح وتعبير شرعي لعَصَبَةِ مرتكب الجناية بالقتل خطأ، وهم أقاربه الذكور الاغنياء الموسرون من جهة أبيه، الذين يكونون مطالَبين بالتعاون معهُ على أداء الدية الواجبة عليه بسبب تلك الجناية الخاطئة، ومساعدته على عقْلها وتاديتها للمستحقِين لها من اهل المجنى عليه. وأحكامُ الدية مبيَّنة ومفصَلة في كتب التفسير والحديث والفقه. فلْيرجع اليها من أراد التوسع في الموضوع.
(5)
من اطلاقات السمسم ومدلولاته: حَبُّ الجُلْجلان، وهو معروف عند عامة الناس
(6)
عبارة القرافي: "وكذلك أظن أن لي عليك ألفاً، وأظن أني قضيتها، لم تُسْمَعْ، لتعَذر الحكم بالمجهول، إذ ليس بعض المراتب أولى من بعض، ولا ينبغى للحاكم أن يدخل في الخطَر بمجرد الوهم من المدَّعى". وبذلك تكون أنَّ مع اسمها وخبرها سدَّت مَسَدَّ المفعوليْن وقامت مقامهما.
(7)
زاد القرافي هنا قوله: وقال الشافعية: إن ادَّعَى بديْن من الأثمان ذكَر الجنس: دنانير أو دراهم، والنوعَ: مصرية او مغربية، والصفةَ: صِحاحا او مكْسورةً، والمقدارَ والسِكة، ويذكر في غير الاثمان الصفات المعتبرةَ في السَّلَمِ
…
الخ.
مع الصفات أحْوَطُ. ومالا تضْبطه الصفة كالجواهر فلا بد من ذكر القيمة من غالب نقد البلد، ويَذكر في الارض والدراهم (8) الصُّقْعَ والبلَدَ، وفي السيف المحلَّى بالذهب قيمتَه فضةً، وبالفضة قيمتَه ذهباً، وإن كان بهما قوَّمَه بما شاء منهما، لأنه موْضع ضرورة، ولا يَلزَم ذِكر سبب مِلْك المالِ، بخلاف سبب القتل والجراح لاختلاف الحكم ها هنا -دون المال- بالعمد والخطأ، وهل قتَله وحدَه أو مع غيره؟ ، وهذا كله لا يخالفه أصحابنا، غيْرَ أنَّ قولهم وقوْل أصحابنا: إن من شرطها أن تكون معلومة، فيه نظرٌ، فإن الانسان لو وجَد وثيقة في تركةِ موْروثِهِ، أو أخبَرَهُ عدْلٌ بِحَقٍّ له، فالمنقول جوازُ الدعوى بمثل هذا، والحَلفِ بمجرده عندنا وعندهم، مع أن هذه الأسباب لا تُفيدُ إلا الظن.
وتكميلُ البيان في هذا المقصود بمسألتين. (9)
المسألة الأولى: تُسمَع الدعوى عندنا في النكاح وإن لم يقُل: تزوجْتُها بولي وبرضاها، بل يقول: هي زوجتى، ويكفيه، وقاله أبو حنيفة. وقال الشافعي وابن حنبل: لَا تُسمَعُ حتى يقولَ: بولي وبرضاها وشاهِدَيْ عدْل، بخلاف دعوى المال وغيره.
لنا القياس على البيع والرِّدّة والعِدَّةِ (10)، ولأن ظاهر عقود المسلمين الصحة.
احتجوا بوجوه:
(8) كذا في جميع النسخ المعتمدة عندي في التحقيق والتصحيح لهذا الكتاب: ترتيب الفروق، ع. ح. ت. وعند القرافي هنا في هذا الفرق:"ويذكر في الارض والدار الصُّقْع والبلَد"، ويظهر أن ما عند القرافي مِن كلمة الدار أظهر وأنسب لِما قبلها من كلمة الارض، فليتأمل ذلك. والله أعلم.
والصقع بضم الصاد الناحيةُ والجهة، ويجمع على أصقاع. والصقيع: الجليد، أو ما يسقط من السماء في الليل كأنه ثلج.
(9)
من كلام القرافي، وعبارتُهُ:"ويَكْمُلُ البيانُ في ذلك بمسألتَيْن".
(10)
زاد القرافي قوله: فلا يشترط التعرض لهما، فكذلك غيرهما.
الأول أن النكاح خطيرٌ (11)، والوطء لا يُستدرَك، فأشبه القتل.
الثاني أن النكاح لمّاَ اختص بشروط زائدة على البيع من صداق وغيره خالفت دعواه الدعاوى، قياسا للدعوى على المدعَى به.
الوجه الثالث أن المقصودَ من جميع العقود يدخله البدل والإِباحة، بخلافه، فكان خطيرا، فيحتاط فيه.
والجواب عن الأول أن غالب دعوى المسلم الصحةُ، فالاستدراك حينئذ نادر، والنادر لا حُرْمَةَ له، والقتل خطرُه أعظم من النكاح، وهو الفرق المانع من القياس.
وعن الثاني أن دعوَى الشيء تتناول شروطه، بدليل المنع، فلا يحتاج إلى الشروط، كالبيع له شروط لا تُشترَط في دعواه.
وعن الثالث أن الردة والعِدَّة لا يدخلهما البدَل والإِباحة، ويكفي الإِطلاق فيهما.
المسألة الثانية: في بيان قولي: "لا تكذبها العادة":
الدعاوَى ثلاثة أقسام:
قسم تصدقه العادة كدعوى القريب الوديعَةَ.
وقِسْم تكذبه العادة كدعوى الحاضِر الأجنبي مِلْكَ دارٍ في يد زيد، وهو حاضر، يراهُ يبنى ويَهْدم ويؤاجِر مع طول الزمان، من غير وازع يزَعه عن الطلب من رغبة أو رهْبة، فلا تُسمع دعواه لظهور كذبها.
(11) كذا في ع، وح. وعند القرافي خطر بالمصدر، سواء في الكلمة الأولى أو الثانية، والمراد من وصف النكاح بركونه خطرا أو خطيرا إبرازُ أهميته الخاصة وشروطه المتميزة على غيره من العقود. لذلك سمى الله عقد النكاحْ ميثاقا غليظاً، وذلك في قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} . سورة النساء، الآية 20 - 21.
والقسم الثالث لم تقْضِ العادة بصدقها ولا كذبها، كدعوى المعاملة، وتُشترط فيه الخلْطة يكون بعد هذا -إن شاء الله- في بيان قاعدة من يَحلف ومن لا يحلف.
وأما ما تُكَذِبُهُ العادة فقال مالك في الأجانب: سنين، ولمْ يَحُدَّه بعَشْر، وقال غيرهُ: عشْرُ سنين تَقْطَعُ دعوى الحاضر، إلا أن يقيم بينة أنه أكْرى أو أسْكن أو أعارَ، ولا حيازة على غائب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حَاز شيئاً عشْرَ سنين فهو له"(12)، ولقوله تعالى:{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ، فكلُّ شيء كذبه العرف وجَبَ ألَّا يُومَرَ به، بل يؤمَرُ بالمِلْك لحائزه. وقال ابن القاسم: الْحِيازة من الثمانية إلى العشرة، وقال مالك: مَن أقامتْ بيده دارٌ سنين يُكري ويَهْدِمُ ويبْنى، ثم أقَمْتَ بينةً أنها لك أو لأبيك أو لجدك، وثبتَت المواريث وأنتَ حاضر تَراه يفعل
(12)"أخرجه ابن القاسم في المدونة من حديث سعيد بن المسيِب مرْسَلاً، وفي اسناده عبد الجبار بن عمر الأيلى، وهو ضعيف كما في ترجمته من التهذيب لابن حجر. وفي معناه ايضا حديث: "من احْتازَ شيئا عشر سنين فهو له". اخرجه ابو داود في المراسيل من حديث زيد بن اسلم مرسلا، وذكره في باب الاقضية.
قال في التوضيح: وبالعشر سنين أخذ ابن القاسم وابن عبد الحكم وأصبغ. ولابن القاسم كما في الموازية أن السَّبْعَ والثمانَ وما قارَبَ العَشْرَ مثلُ العشرة.
ويقول ابن رشد في شرحه لكلام المستخرجة: العشر سنين وما قاربها، يريد، والله أعلم، والشهرين والثلاثة، وما قارب منها ثلث العام وأقلَّ. وقد قيل: إن ما قرُبَ من العشرة الاعوام بالعام والعاميْن حيازة.
قال الحَطاب: فتحَصل في مدة الحيازة ثلاثة أقوال:
الاول: قول مالك أنها لا تُحَدُّ بسنين مقدَّرة، بل باجتهاد الإِمام.
الثاني: أن المدة عشر سنين وهو القول المعتمد، بناءً على الحديث، وَوَجَّهَهُ ايضا ابنُ سحنونٍ بأن الله أمر نبيه بالقتال بعد عَشْر سنين فَكان أبْلَغَ في الإِعْذار.
الثالث: أن مدة الحيازة سبعُ سنين فاكثر، وهو القول الثاني لإبن القاسم.
ومن أدلة اعتبار الحيازة والاخذِ بها وتقديمِ صاحب اليد ببينته عند تَساويها مع بينة المدعى ما رُوِي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اخْتصَمَ إليه رجلان في دابة أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة بأنها له أنتجها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده، وأنتجها. اخرجه البيهقي وضعفه ابن حجر في التلخيص". انظر الكلام على الحيازة واحكامها في كتب الفقه، وفي الموسوعة الفقهية الكويتية بتفصيل.