الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية: فيما يتعلق بالصائِل
(14) فأقول:
دفْعهُ إن أدّى إلى هلاكه لا ضمان يتعلق به إذا كان القصد الدفع فقط، والموجِبُ لإِسقاط الضمان، العدوانُ.
ثمّ إن الدافع إن كان قد اختُصَّ بإسقاط الضمان هنا فله أيضا خاصة أخرى، وهي أن الدفع لا يتعيَّن عليه، بل له الخِيَارُ في ترْك الدفع، أو الدفعِ، ولا إثمَ عليه في ترْك الدفع وإن آل إلى قتله، بل هو الأرجح في بعض المواضع، وذلك إذا كان في دفعِهِ بالقتل فتنةٌ عامة وموتُ خَلْقٍ. وهذا المعنى الذي صار إليه عثمانُ رضي الله عنه، وإن لم يكن الامرُ كذلك فالامر على السواء، أو يقال: يُؤثر أيضا تركُ الدفع، فهذا الذي اختاره أحدُ ابنَيْ آدم، وهو الظاهر من إطلاق
أمنْ آل نُعْمٍ أنتَ غادٍ فَمُبْكِرٌ
…
غداةَ غد أم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ
لحاجة نفس لم تَقُلْ في جوابها
…
فتُبلِغَ عذْراً والمقالةُ تُعْذِرُ
تهيم إلى نُعْمٍ فلا الشمل جامعٌ
…
ولا االحبلُ موصول ولا القلب مُقْصِرُ
قفي فانظُري أسماءُ هل تعرفينه
…
أهذا المغيرىُّ الذي كان يُذكَرُ
أهذا الذي أطريتِ نعْتاً فلم أكن
…
وعيشِكِ أنساه إلى يَوْمَ أقْبَرُ
فقالت: نعَم، لاشَكَّ غَيَّرَ لوْنَهُ
…
سُرَي الليل يُحْيي نَصَّهُ والتَّهَجُّرُ
لئن كان إيّاه لقد حَالَ بَعْدنا
…
عن العَهْد، والانسانُ قد يتغَيَّرُ
(14)
هي موضوع الفرق السابع والاربعين والمائتين بين قاعدة الإتلاف بالصِّيَال وبرين قاعدة الإتلاف بغيره" جـ 4 ص.183.
والصِيَالُ على وزن فِعَال مصدر صال عليه يصول صولا وصيالا، وصُؤولة وصَيلانا، إذا سطا عليه وقهره. والصَّيَّال بفتح الصاد والياء مبالغة وإن كان الاصل والقياس في مثل هذا الفعل الواوي العين أن يقال عند المبالغة منه صَوَّام وقَوَّام، على حدّ قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ولم يعلق الشيخ ابن الشاط بشيء على هذا الفرق عند القرافي. وممّا جاء في أوله قوله: "إعلم أن الصَّيَّالَ يختص بنوع من إسقاط اعتبار إتلافه، بسبب عداهُ وعدوانه، ويَقوَىَ الضمانُ في غيره على مُتلفه لِعَدم المسْقط، وله خصيصة أخْري، وهي أن الساكت عن الدفع عن نفسه حتي يُقتَلَ لا يُعَدُّ آثما وقاتلا لنفسه، بخلاف ما لو مَنَعَ من نفسه طعامها وشرابها حتى مات فإنه آثم، قاتلٌ لنفسه، ولَوْ لَمْ يمنع عنها الصائلَ من الآدميين لم يأثم بعد ذلك.
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "كُن عبد الله، المقتوَل، ولا تكنْ عبد الله القاتل"(15).
ووافقنَا الشافعيُّ أنه لا يَضمن الفحلَ الصائل، (16) والمجنونَ والصغيره وقال أبو حنيفة: يباحُ له الدفعُ ويَضمن، واتفقوا إذا كان ذميّاً بالغا عاقلا أنهُ لا يَضمن.
لنا وجوه:
الأول أن الأصل عدم الضمان. الثاني القياس على الآدمي، الثالث القياس على الدابة المعروفة بالأذَى أنها تُقْتَلُ ولا تُضمَنُ إجْماعا.
(15) عبارة القرافي هنا هي قولُهُ: ومستَنَدُ ترك الدفع عن النفس (أيْ في حالة الصِّيالِ) ما في الصحيح عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، فذكر ذلك الحديث، ولقصة ابنيْ آدَمَ إذْ قَرَّبَا قُرْباناً فتُقُبِّل من أحدهما ولمْ يُتقَبلْ من الآخَر"، وقد سبقت الإِشارة إلى هذا قريبا. في التعليق 13، من القاعده 5 في الاجارة.
(16)
المراد بالفحل -كما هو معروف- الذكرُ من كل حيوان، في مقابلة الآنثى منه، فقد يَحْدُث أن يخرج فحل الحيوان أو أنثاه من الابل أو الخيل أو البقر مثلا عن طوره وحاله المعتاد، فيباغت الانسان ويهاجمه، ويريد أن يؤدي بحياته، كما يقع ذلك من الانسان الصائل البالغ العاقل، أوْ من الصغير والمجنون ومختل العقل، فأذِنَ الشرع للانسان في هذه الحالة: والموقف الصعب بالدفاع عن نفسه وحياته، وعن عِرضه وأهله وماله، بما لديه من قوة ووسائل ممكنة، لما لهذه الاشياء من مكانة كبيرة وحرمة عظيمة في الاسلام، وعند الله تعالى، جعلتها من المقاصد الضرورية التي جآت بحفظها ووقايتها من المَهَالك والاخطار كل ملة وشريعة ربانية، ولذلكم جاء في الحديث الصحيح المشهور:"مَنْ قُتِلَ دون نفسه (أي دفاعا عنها) فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد". أورده الامام السيوطي في الجامع الصغير، نقلا له عن الائمة: احمد بن حنبل وبعضِ اصحاب السنن، وروايةً له عن سعيد بن زيد، رحم الله الجميع. وما أَدَقَّ وألْطَفَ قول الإِمام محمد بن سعيد البوصيري الصنهاجي رحمه الله في هذا المعني، وهو يتحدَّثُ في قصيدته البُرْدة في مدح خير البرية عن القرآن الكريم، ومعجزته الخالده التي أعجزت بُلَغاء العرب في تحدٍّ لهم بكيفية مستمرة إلى يوم الدين.
رَدَّتْ بلاغتُها دعوى معارضها
…
ردَّ الغَيُور يَدَ الجاني عن الحُرَمِ
لها معانٍ كموج البَحْر في مَدَدٍ
…
وفوق جوهره في الحُسْنِ والقِيَمِ
فَمَا تُعَدُّو ولا تُحْصَى عجائِبُها
…
ولا تُسَامُ على الإِكثار بالسَّأمِ
قرَّت بها عَيْنُ قاريها فقلت له
…
لقد ظفرتَ بحبل الله فاعتصِمِ
وفي هذه الأبيات إشارة إلى حديث الامام الترمذي عن الحارث رضي الله عنه، والذي جاء فيه وصْفٌ جليل وَذكر لفضائلِ القرآن:"هو حبْل الله، المتينُ، وهو الصراطُ الستقيم، هو الذي لا تَزيغ به الأهواءُ، ولا تلتبس به الألسنةُ، ولا يَشبَع منه العلماءُ، ولا يخلَقُ على كثر الرد، ولا تنقضى عجائبه". (أي لا يبلى على كثرة تلاوته، ولا تسامه النفوس على كثرة قرآته، بل تزداد شوقا وتأثرا واهتداء به. وإن علماء المسلمين يكتشفون دائما أسراره، ويدركون أحكامه ومقاصده. ويتذوق المومنون حلاوته وطلاوته).
واحتجُّوا بوجوه:
الأول أن مُدْرَكَ عدَم الضمان، إنَّما هو إذْنُ المالك لَا جوازُ الفعل، لأنه لَوْ أذِن له في قتل عبدهِ لا يضمَن، ولوْ أكلَه لمجاعة ضَمِنَهُ.
الثاني أن الآدمي له قصد واختيار، فلذلك لم يَضمَنْ، والبهيمة لا اختيار لها.
الثالث قوله عليه السلام: "جَرْحُ العجماء جُبَارٌ"(17)، وذلِكَ يقتضي نفْيَ الضمان فيها.
الجواب عن الأول أن الضمان يتوقف على عدم جواز الفعل، بدليل أن الصائل (18) إذا صال على محرَّم لم يَضمَنْهُ.
وعن الثاني أنَّ البهِيمة لها اختيار اعتبره الشرع، وذلك ظاهر في باب الصيْد.
وعن الثالث أن الهدْر (19) يقتضي عدم الضمان مُطلقا، وأنتم لا تقولون به.
(17) عباز القرافي هنا وردتْ بنفس الصيغة، ولمْ يذكر من اخرجه، وهو حديث صحيح أخرجه أئمة الحديث: مالِك في الموطأ والبخاري ومسلم والترمذي رحمهم الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى الحديث ومدلوُلهُ أن ما ترتكبه الحيواناتُ العجمَاءُ من إفساد وإتلاف للغرس أو الزرع المملوك لغير صاحبها فهو جُبارٌ على وزن غَراب، أيْ هو هدَرٌ لا ضمان فيه على مالكها، مَا لمْ يكن معها ويقصِّرْ في ضبطها ورعْيها، وإلا فعليه الضمان، كما سياتي بعدُ في مسألة الماشية إذا أفسدتْ شيئا من الزرع بالنهار أو بالليل، وانظر هذا الحديث في شروحه الوفيرة.
(18)
في نسخة، ع وح: الصيد، وهو ما في كتاب الفروق عند القرافي، ولعله خطأ في النسخ ترك المعنى غامضا وغيرَ واضح، وفي نسخة ت: الصائل وهو الصواب فيما يظهر، بدليل الفعل الآتي بعده من مادته، وهو قوله: إذا صال على: محرَّم. وبهذا التصحيح ينكشف المعنى ويتضح جليا، ويزول الغموض والتوقُّف عنده للاستيضاح، فلِيتأمل ذلك ولْيُحَقَّقْ، والله أعلم.
(19)
الهدْر بسكون الدال وفتحها، مصدر هدر الدمَ يهدُره بضم الدال كسرها في المضارع، ويقال أهدره إذا أباحه وأبطل ضمانه والمؤاخذةَ عليه بالقصاص والدية، وهو أمر مشروع في حالة الدفاع عن النفس والعرْض والمال، ومن حق الإِمام السلطان في شأن من ثبت إجرامُه وجنايته على المسلمين، وترويعه لِأمْنِهِمْ وراحتهم واطمئنانهم إذا فرَّ ولم يقع التمكن منه، لإقامة القِصاص عليه، فقد جعل الله القصاص الشرعي وسيلة للْحياة الآمنة للناس، مصداقا لقول الله تعالى: =
مسألة: الماشية إن أفسدتْ شيئا بالنهار حين إرسالها للرَّعي وانفلاتها فلا ضمان في ذلك، إلا أن يكون صاحِبها معها فلا يمنعُها، ويتركُها لذلك الفساد، وما افسدتْه بالليل فيه الضمان. وقال الشافعي: هذا في الزرع، ليْلاً كان أو نهاراً.
ولَنا وجوه:
الأول أنه قضاء سليمانَ عليه السلام، إذْ النفْش رَعْيُ الليل (20).
الثاني أنه فرّط فيضمن كما لو كان حاضرا.
الثالث أن (21) بالنهار يمكن التحفظ دون الليل، فلذلك كان الضمان فيه دون النهار. وقد اعتبرتم ذلك في قولكم: إن رَمتْ الدابة حَصَاةً كبيرة فأصابت
= {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وفي الحديث الصحيح عن عمرانَ بن حُصَيْن رضي الله عنه أن رجلا عضَّ يدَ رجُل، فنزع يدَهُ من فمه، فوقعَت ثنِيَّتاه، أي (سقطتا) فاختصَموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يعَض احدُكم أخاه كما يعض الفحْلُ، لا دِيةَ لك".
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أهدر دم كعب ابن زهير لتجرؤه على هجْو النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علِم كعْبٌ بذلك وأراد الله به خيرا جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معتذرا وتائبا مستغفرا، معلنا اسلامه وإيمانه بالله ورسوله ودين الاسلام، ونظم في ذلك قصيدته المشهورة:"بانتْ سعاد"، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وخلع عليه بردته الشريفة، وكان مما جاء في هذه القصيدة الرائعة قوله:
أنبِئتُ أن رسول الله أوعَدني
…
والعفْو عند رسول الله مأمول
وقد أتيت رَسُولَ الله معتذرا
…
والعذر عند رسول الله مقبول
مَهْلا هداك الذي اعطاك نافلة الـ
…
ـقرآن فيها هو مواعيظ وتفصيل
لَا تاخُذَنَّي بأقوال الوُشاة ولم
…
أذنِبْ وقد كثُرتْ فِيَّ الأقاويلُ
إلى أن قال:
إن الرسول لَسَيْفٌ يستضاء به
…
مهنَّدٌ من سيوف الله مسْلول ..
(20)
إشارة إلى قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ (اي رعتْ فيه)، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} سورة الانبياء الآية 78 - 79.
(21)
كذا في نسختي ع، وح. وفي نسخة ت أنه بذكر الضمير، وهو ما عند القرافي. وهو أظهر وأصوبُ، حيث لا تدخل أنَّ على الفعل مباشرة، وانما تدخل على المبتدأ والخبر، وهنا في مثل هذه العبارة تكون مخفَفَةً ويكون ضميرها ضمير الشأن، فيعود على ما بعده ويفسره ما بعده من الجملة والكلام الذي يكون خبرا لها، كما في قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} سورة النجم. 39. وكما جاء عند ابن مالك في ألفيته:
"وإن تخفَّفْ أن فاسْمُها استكَنْ
…
والخبرَ اجْعَلْ جملةً مِن بَعْدَ أنْ =
انسانا، ضَمن الراكب، بخلاف الصغيرة، لأن الصغيرة لا يمكنه التحفظ منها، ويتحفّظ من الكبيرة بالتنكب عنها.
احتجوا بوجوه:
الأول قوله عليه الصلاة والسلام: "جَرْحُ العجماء جُبَارٌ".
الثاني القياس على النهار. وما ذكرتموه في الفرق بالحراسة باطل، لأنه لا فرق بين من حفِظ ماله فأتلفه إنسان أو أهمله فأتلفه، أنه يضمن في الوجهين.
الثالث القياس على جناية الانسان على نفسه وماله، وجنايته على أهل الحرب أو مالِهِمْ.
والجواب عن الأول أن الجَرْحَ عندنا جُبَارٌ، (أي هَدَرٌ)، وإنما النزاع في غير الجرح. وقد اتفقنا على تضمين السائق والراكب.
وِعن الثاني الفرق المتقدم. وعن الثالث أنه قياس خَالَف الآية. وأيضا فهو بالليل مفَرّط، وبالنهار ليس مُفرّطاً.
سؤال في قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} يقتضي أن حكمه كان أقربٌ إلى الصواب، مع أن حكم داود عليه السلام لو وقع في شرْعنا أمْضيناه، لأن قيمة الزرع يجوز أن تُوخَذ فيها غَنَم، لأن صاحبها مفْلِسٌ مثلا، وغيرُ ذلك، وأمّا حكم سليمان عليه السلام لو وقع في شرعنا من بعض القضاة ما أمضيناه، لأنه إيجابٌ لقيمةٍ مؤجَّلَةٍ، ولا يلزم ذلك صاحبَ الحرْثِ، لأن الأصل في القيَم الحلولُ إذا وجبتْ في الاتلافات، ولأنه إحالة على أعيان لا يجوز بيعها، وما لا يُبَاع لا يُعاوَضُ به في القيم، فُلزم أحدُ الأمرين: إما أن لا تكون شريعتنا أعمَّ في المصالح (*)، أو يكون
= وهو من الحالات التي يعود فيها الضمير على ما بعده، إذ الاصل في ضمير الغائب أن يعود على ما قبله، كما هو معروف، وإلى تلك الحالات يشير الناظم لها بقوله.
وعَوْدُ مُضمِرَ على ما بعْدَه .... لفظاً ورتْبةَ فحصِّلْ عَدَّهُ
في مضمر الشأن ورُبَّ والبدَل
…
نعْمَ وبئسَ وتنَازعِ العَمَلْ
وأمثلتها تكفّلتْ بها كتب النحو، كما سبقت الإشارة اليه والتذكير به في محله من الجزء الاول من هذا الكتاب، وفي هذه المسألة للمناسَبة.
(*) كذا في جميع النسخ الثلاث لترتيب الفروق. وعند القرافي هنا: "إمّا ان تكون شريعتنا أتَمَّ في المصالحِ أكمل الشرائع" بالإثبات، ولعل ما هنا عند البقوري بالنفي أصْوَبُ وأنْسَب في المعنى المراد، فليتأمل ذلك وليُحَقَّقْ للتاكد من الصواب ووجهه بالنسبة للعبارتيْن معاً، وَلْيُرْجَعْ فيه إلى التفاسير عند هذه الآية الكريمة والتي قبلها من سورة الأنبياء: 79، 78.
داود عليه السلام فهِمَ دون سليمان عليه السلام، وظاهر الآية خلافه، وهذا موضع مشكل.
ووجْهُ الجواب أن المصلحة التي أشار إليها سليمان عليه السلام يجوز أن تكون أعمّ باعتبار ذلك الزمن، بأن تكون مصلحة زَمانهم كانت تقتضي ألا تَخْرُجَ عيْنُ مال الانسان من يده، إمّا لقلة الأعيان، وإما لعدم ضرر الحاجة، وتكون المصلحة الأخرى باعتبار زماننا أتَمَّ، فيعْتَبر الحكْم.
قلت: ولْنَذْكر هنا خمْس مسائل: (22)
المسألة الأولى: قال مالك: مَن استهلك شيئا ممّا يكال أو يوزن كان عليه مِثلُه، وإن استَهلك شيئا من العُروض كان عليه قيمتُه، فلِمَ كان هذا التفريق؟
فالجواب أن ما استُهلك لابد فيه مِن بدَل، فإذا كان ممّا له مِثْلٌ كان أقربَ في معنى البدل الواجب، لأنه أسهَلُ من القيمة، فالقيمة تحتاج إلى اجتهاد، فما صِيرَ إلى القيمة إلَّا لتعذر المِثل الذي هو أسْهَلُ وأحَقُّ في معنى البدلية.
المسألة الثانية: قال مالك: إذا جَنى الغاصب على العين المغصوبة جِنايةً، فإن رَّبَّها مَخَيّرٌ بين أخذِها وأخذِ ما نقصَتْهُ بجنايته، وإذا أصابها أمرٌ من السماء أو غيرُ ذلك من غير فعل الغاصب فربُّها مخيَّرٌ، إن شاء أخَذَها ناقِصة، وإن شاء لم يأخذْها، فلم كان هذا؟ .
فالجواب أنه إذا كانت الجناية من فعل الغاصب فقد تَعدَّى، فوجَبَ أن يوخَذ بتعدِّيه كما لو تعدَّى غيرُ الغاصب، وإذا كانت الجناية من غيرِ فعْله لم يُوجَدْ
(22) هذه المسائل الخمسة هي مما أضافه الشيخ البقوري هنا إلى كتاب شيخه القرافي رحمهما الله، ويوجد منها في نسخة الخزانة العامة مسألتان، بينما توجد المسائل الخمس كلها في كل من نسختى الخزانة الحسنية، ح والخزانه التونسية ت.
وهذه المسائل الاضافية عند البقوري تدل على مدى تمكنه من هذا العلم في القواعد والفروع والاطلاع الواسع على كتبه ومولفاته الوفيرة.
منه تعَدٍّ، والعَينُ المغصوبة قائمةٌ، فوجبَ أن يكون ربّها مخيَّراً، كما ذَكَرَ مالك رحمه الله.
المسألة الثالثة: إذا غصب دابة فعَجِفتْ (23) كان ذلك فوْتاً، وإذا غصب عبداً فعَجِفَ لم يكن ذلك فوتا، والكل عَجْفٌ في حيوان، فلِمَ كان ذلك؟ .
فالجواب أن الدواب إنما ترَادُ للقوة، لأن الغرض منها الحمل، والرقيق ليس كذلك.
(23) عجفت الدابة بكسر الجيم وضمها إذا ضعفت وذهب سِمَنها، فهى عجفاء، وعجف الدابة يفتح الجيم، ويعجفها بضمه وكسره، وأعجفها إذا أهْزلَها، وصارت هزيلة في يده بسبب النقص والتفريط في رعيها وإطعامها وعلفها.
ومن المعنى الأول حديث البَرَاء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل ماذا يُتَّقَى من الضحايا؟ فقال: أربعٌ: العرجاءُ البيِّن ظَلْعُها، والعوراءُ البيِّن عوَرُها، والمريضة البيِّنُ مرَضُها، والعجفَاءُ التي لا تُنْقِى" اى الهزيلة التي لا شحم ولا مخ فيها.
ومن ذلك قول الامام شرف الدين: محمد البوصيري في قصيدته الهمزية في مدح خيْر البرية، وهو يتحدث عن رضاع النبي صلى الله عليه وسلم في آل سعدٍ من حليمة السعدية رضي الله عنها، وعما أظهر الله لها من خيرات ومعجزاتِ في شياهها وأرضِها، وما صارت عليه الارض المتصلة بمسكنها من خصْب، والشياهُ من امتلاء ضرع، بفضل ارضاعها للنبي صلى الله عليه وسلم وبركاته، فقال البوصيري في ذلك رحمه الله:
وبَدَتْ في رضاعه معجزات
…
ليس فيها عن العيون خَفاءُ
إذ أبَتْهُ ليُتْمِهِ مِرْضِعات
…
قلْنَ ما في اليتيم عَنَّا غَنَاءُ
فأتتْهُ من آل سعدٍ فَتاةٌ
…
قدْ ابَتْها لفقرها الرضعَاء
أرْضعَتْه لبانها فسَقَتْها
…
وبنيهَا ألبانَهُن الشَّاءُ
اصبحت شُؤالاً عجافاً وأمست
…
ماَ بها شائِلٌ ولا عجفاءُ
أخصَبَ العَيشُ عندها بعْدَ مَحْل
…
إذْ غدا للنبي منها غِذَاءُ
يا لهَا مِنَّةً لقد ضوعفَ الاجْـ
…
ـر عليها من جِنْسِهَا والجزَاءُ
وإذا سخَّرَ الالاهُ أناساً
…
لِسَعيدٍ فإنهمْ سعداءُ،
حبةٌ أنبَتتْ سنابلَ والعصْـ
…
ـفُ لديهِ يستشرفُ الضعفاءُ
المسألة الرابعة: إذا غصَب رجلٌ خلخاليْن فكسرهما فليس عليه إلَّا ما نقص الكسْرُ فقط، سواء كانتْ (24) فضة أو ذهبا، وإذا غصب دنانير أو دراهم فكسَرَهَا، فربُّها مخَّير، إن شاء ألزمه مثلَها، وإن شاء أخذها كذلك، ولا يلزَمُهُ ما نقَصَ الكسرُ، والكلّ ذهبٌ وفضة كُسِرت على وجْهِ التعدي.
فالجوابْ أن الحَلي يُقتنَى لأجْل منفعته، فإذا اتْلَفَ ذلك الصنعةُ. (25) وجبَ عليه بدلُها ليصِل ربُّها إلى غرضه كما لو أتْلَف عليه طَسْتاً، وليس كذلك الدينار والدراهم، لأنها لا تُتَّخَذُ لصنعتها وإنما تُتخَذُ لأعيانها، فإذا أتلفَ العيْنَ (26) وجب أن يكون على الجاني مثلُها.
المسألة الخامسة: مَن غصَبَ دارا أو أرضا فسكن الدارَ وزرع الارض فعليه أجرُ ما انتفع به، وإذا غصَبَ دابة أو عبداً فاستغل ذلك فلا شيء عليه، فلِم كان هذا؟ .
(24) كذا في جميع النسخ، وكان مقتضى قواعد اللغة، ومقتضى التناسب أنَ يقال: سواء كانا بالتثنية، ليعود الضمير على الخصمين، ولعله خطأ في النسخ، أو يراد بالضمير مادَّتهما، التي تكون فضة أو ذهبا، أو يرَاد اعتبارُ أن اقل الجمع اثنان، على رأى من يقول بذلك من النحاة، على حدّ قوله تعالى "هذان خصمان اختصموا في ربهم" سورة الحج، الآية 19.
(25)
كذا في ح: وفي ت: "فالجواب أن الحلي، يقتنَى لصنعته، واذا اختلفت تلك الصنعة وجبَ عليه بَدلها.
(26)
كذا في ح، وفي ت: فإذا تلِفتْ عليه العيْنُ".
فالجواب أن الحيوانَ لا يبقى على حالة واحدة لسرعة التغير إليه، فَجُعِل فيه الخراجُ بالضمان (27)، والدُّور والارضُون (28) لا تكاد تتغيَّر مع القرب، فلم يكن فيها الخراجُ بالضمان، لأن الغالب سقوط الضمان فيها، والله تعالى أعْلَمُ، وبه التوفيق.
(27)"الخراجُ بالضمان" هو نص حديث أخرجه ائمة السنة والحديث: احمد بن حنبل، واَصحاب السنن، وصححه الترمذي، وهو مروي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
وفقه الحديث ومعناه أن الفائدة التي تاتي من المبيع، ويستفيذها المشتري لنفسه تكونُ من حقه، بسبب ضمانه لذلك المبيع لو تلِف عنده، ولم يتم البيع، فلَوْ اشترى بهيمة واستغلها أياماً ثم ظهر بها عيب سابق على البيع بقول أهل الخبرة، فله حق الفسخ، وله الحق في ذلك الاستغلال بالركوب أو الحرث، أو استدرار اللبن ونحو ذلك دون أن يرْجع عليه البائعُ بشيء.
وجاء في بعض الروايات، بيانا لهذا الامر والمعنى، أن رجلا ابتاع (أي اشترى) غلاما (اي اشترى عبدا مملوكا من مالكه)، ثم وجد به عيباً فردَّه بالعَيْب، فقال البائع: غَلَّةُ عبدي (اي أعطني ثمن خدمته وأجْرها)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الغَلَّةُ بالضمان"، أي غَلَّة العبد وخدمته تلك المدة هي من حق المشتري بسبب أنه ضامن المَبيع لو تلف عنده أوضاع او نحو ذلك.
(28)
الارضون، جمع أرض وهي مثل السماء، كلمة مؤنث المعنى، وفي القرآن الكريم:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} "والسماءَ رفعَهَا" وجُمعتْ جمع مذكر سالم، إلحاقا لها بالمفرد المذكر العاقل الذي يُجمَعُ هذا الجمعَ، سواءٌ كان عَلَمَا أو صفةً، كما ألحِقتْ به كلمات أخرىَ، وفي ذلك يقول العلامة: محمد ابن مالك الاندلسى الجيَّانِي رحمه الله في الفيته النحوية الشهيرة.
وارفَعْ بواو، وبيَا اجررْ وانصب
…
سَالِمَ جَمْعِ عامِر وَمُذنِب
وشبْه ذَيْن وبه عشرُونَ
…
وبابُهُ ألحِقَ والاهلُونا
أُملُو، وعالَمُونَ عليُّوِنا
…
وأرَضون شَذَّ والسِّنونَا
القسمةُ، والمسَاقاةُ، والقِراضُ، والمرافقُ، والإِحيَاء، والتوكيل، واللّقَطَةُ، والإِقرار، (1) والاستحقاق، وفي ذلك ثمانُ قواعد:
القاعدة الأولى في بيان ما يَقْبَلُ القِسْمة: (2)
إعْلَمْ أن الذي يقبل القسمة ما عَرِىَ (3) عن أربعة أشياءَ:
(1) كذا في نسخة ح، وت، وفي نسخة ع: الإبراءُ، والصواب الإقرار، لأنه هو الذي وقع الكلام عنه في قاعدة خاصة به ضِمن قواعد هذا الباب.
وقد تناولت كتب فقه السنة، كتب الفقه والفروع على اختلاف مذاهبها - حدودَ وتعاريف هذه الابواب، وتفصيل أحكامها بتوسع وبيان فَلْيُرْجَع إليها في أبوابها ومظانها.
ومن المعلوم أن اشهر من تناول حدود الأبواب الفقهية، وخَصَّهَا بتعاريف دقيقة جامعة لتعريف الباب، مانعة من دخول غيره معه، هو العلامة الشهير والمحقق الكبير، أحد أعلام المذهب المالكي، أبو عبد الله محمد بن عرفة التونسي، المتوفى سنة ثلاث وثمانمائة (803) رحمه الله، وذلك فى كتابه الذائع الصيت، والمعروف عند الفقهاء بحدود ابن عرفة.
ونظراً لدقة تعبيرها وصعوبة فهم تعاريفِها غالبا، فقد يسَّر الله وقيضَ لَهَا من يقوم بشرحها نطقا ومفهوما، ذلكم هو العلامة الجليل والفقيه الكبير الإِمام ابو عبد الله، محمد المشهور بالرصاع، فجاء شرحه مفيدا نافعا، مبسِّطا لتلك التعاريف وموضِحا لها لفظا ومعنى، جعل العلماء يقبلون عليه ويعتمدونه فيها.
ولأهميته ونُدْرته فقد طُبع طبعة جديدة مصحَّحة في جزء واحد كبير من طرف وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية بالملكة المغربية في رمضان 1412 هـ موافق 1992، ووجَد إقبالا كبيرا عليه من أهل العلم والفقه والقضاء، بالمغرب وغيره من البلاد العربية والاسلامية.
(2)
هي موضوع "الفرق الخامسَ عشر والمائتين بين قاعدة ما يَقبل القِسمة وقاعدة مالا يقبلها". - 4. ص 26. وهو من الفروق القصيرة عند القرافي، ولم يعلق عليه بشيء، الشيخ ابن الشاط، فربهما الله جميعا.
(3)
عرِيَ الانسانُ أو المكان عن الشيء يعْرَى كرضي يرضَى إذا تجرد عنه أو نزَعه وخَلا منه، ومن ذلك الآيةُ الكريمة في قوله تعالى خطابا لآدم عليه السلام، وهو في الجنة قبل أن يوسوس اليه الشيطان فيها، ويُزِلَّه عنها ويخرجَه منها:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} . سورة طه. الآية 118 - 119. ويقال: عَرَاه الامْرُ يعروه ويَعريه إذا نزل به وشعُرَ به، ومن ذلك على سبيل المثال قول الشاعر الاسلامي أبي صخْر الهذَلي، من شعراءِ العصر الاموي في قصيدته الغزلية الرائعة اللطيفة الشهيرة الموجودة في الدواوين الأدبية الكبرى والتي يقول في مطلعها:
لِلَيْلَى بذات الجيش دار عرفتها
…
وأخرى بذاتِ البَيْنَ آياتها سطر (سفر)
إلى أن يقول فيها: =
الغرر كمشروعية (4) القرعة في المختلفات، فإن الغرَرَ يعْظُمُ.
الثاني الربا، كقسمة الثمار بشرط التاخير إلى الطِّيبِ، لما يدخله من بيع الطعام بالطعام غيرَ معلوم التماثل، إذْ القسمة بيع، فإنْ تَباينَ الجنس الواحد بالجودةِ والرداءة ففى جوازه بالقرعة قولان، حكاهما اللخمي.
الثالث إضاعة المال، كالياقوتة.
وَاني لتعروني لذكراك هزَّةٌ
…
كما انتفضَ العصفورُ بلَّله القَطْرُ
ومن رواية للبيت عند أبي الْفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني: "وإني لتعروني لذكراك فترة"، وكذا في شواهد المغْنِي لجلال الدين السيوطي رحمه الله.
ولكلمة العرو هنا تفسير ومعنى آخر في دواوين الادب والشعر كالاغاني للاصبهاني رحمه الله.
(4)
كذا في ع، وفي ح: كشريعة القرعة، وفي المختلفات، بزيادة الواو، وفي كتاب الفروق مثل ما في نسخة ع هكذا "كمشروعية القرعة في المختلفات". وهو ما في تهذيب الفروق كذلك للشيخ محمد علي حيث قال رحمه الله: والمقسوم نوعان: الاول رقاب الاموال، والثاني الرقاب، وهما إما قابلان للقسمة بالقرعة، وإمّا غيْرُ قابليْن لها، فما لا يقبلها أحد امور أربعة: ما في قسْمِه الغرر كمشروعية القرعة في المختلِفات فإن الغرر يَعْظُمُ. والمختلفات إمّا من الرباع، وما في العروض، وإما ممّا يكال أو يوزَنُ، فقال ابن رشد الحفيد رحمه الله في بدايته: لا خلاف في انه لا يُجْمَعُ بين أنواع الرباع المختلفة، مثل أن يكون منها دُور، ومنها حوائط، ومنها ارض في القسمة بالسّهمة، وإن كانتْ من العروض، فقال التسولي على العاصمية: "وليس لهم أن يجعلوا البقر مثلا في ناحية العقار، او الابِل التي تعادلها في القيمة في ناحية ويقترعون، لأن القرعة لا يجمع فيها بين جنسيْن ولا بين نوعيْن مختلفين على المشهور، لما في ذلك من الغرر. اهـ الخ.
وعلى كل يَبقى شيء من الاستشكال في هذا العبارة يجْعَلُها غير واضحة المعنى، ذلك- والله أعلما بالصواب - أن كلمة مشروعية في النسخ كلها وعند القرافي وفي تهذيب الفروق لا تنسجم ولا تلتقي كونها في سياق التمثيل لما لا يقبل القسمة، فلعلَّ كلمة المشرعية كتبت خطأ في النَّسْخ والطبع محل كلمة قسمة، وإن كان ذلك مزدوجا، لوجودها كذلك في هذا الفرق وفي تهذيب الفروق، بدليل ما ياتي في المثال الثاني الممنوع وهو قوله: كقسمة الثمار بشرط التاخير، فهو تشبيه فيما تمتنع القسمة فيه، لأنه يؤدي إلى الربا ولا يَعْرَى منه. وكذلك قسمة القرعة في المختلفات هي ممتنعة لما تؤدي اليه من الغرر الكبير، فتكون هذه القسمة غير مشروعة، حسبما تبادر إلى الفهم.
ويوضح ذلك ما ذكره الفقهاء ونصوا عليه في الكتب الفقهية، أن القسمة نوعان: قسمة الرقاب وقسمة المنافع. وقسمة الرقاب على ثلاثة اوجه:
أحَدُهَا قسمة قرْعة بعد تقويم وتعديل (وهي التي تهمنا هنا) وهي قسمة يوجبُها الحَكَم ويجبِرُ عليها من أباها فيما ينقسم، ولا تصح الّا فيما تماثَلَ أو تجانسَ من الاصول والعروض والحيوان لا فيما اختلفَ وتباينَ من ذلك، ولا في شيء من الكيل والموزون. =
الرابع لحق آدمي (5) كالحمّام والخشبة والثوب، فهذا القَسْمُ يجوز بالتراضي، لأن للآدمي إسقاطَ حقّهِ، بخلاف حق الله وإضاعةِ المال.
ومنع أبُو حنيفة والشافعي وأحمد قسمة ما فيه ضررٌ أو تغيير نوع المقسوم، ومنع أبو حنيفة قَسْم الرقيق، وأجازه الشافعي. واحتج أبو حنيفة بأن منافعه مختلفة بالفعل والشجاعة وغيرهما، فلا يمكن فيه التعْديل.
جوابه لو امتنع تعديله لامتنع بيعه وتقويمه، لأنهما مبنيان على معرفة القيم، والله تعالى أعلم، وبه التوفيق.
= والوجه الثاني قسمة المراضاة بعد التقوم والتعديل، فتصح في الجنس الواحد وفي الاجناس المختلفة المتباينة، وفي المكيل والوزون إلا فيما كان منه صنفا واحدا مدَّخراً لا يجوز فيه التفاضل.
وأما قسمة المراضاة بغير تعديل ولا تقويم فلا اختلاف أنها بيع من البيوع في جميع الاحكام. وأما قسمة المنافع فإنها لا تجوز بالقرعة على مذهب ابن القاسم، ولا يجْبَرُ عليها من أباها، ولا تكون الا على المراضاة والمهايَأة، والمهايأة إما بالازمان، كأن يتراضيا على أن يسكن أحدهما الدار او يحرث الارض مدةً من الزمن، والآخَرُ كذلك، وإما بالاعيان كان يسكن احدهما داراً او يحرث ارضا، ويسكن الآخرُ دارا او يحرث أرضا أخرى.
والقسمة تعتبر من العقود اللازمة ان وقعَتْ بوجه صحيح سليم، فلا يكون بعد ذلك لأحد الشركاء المتقاسمين نقضها ولَا الرجوعُ عنها الا بما يقتضي ذلك مما لم يكن معلوما حين القسمة كما نص عليه الفقهاء بتفصيل، في المقدمات لابن رشد الجد، وفي غيره من المؤلفات الفقهية.
(5)
تأمل الكلام على هذا الشرط الرابع، فلعله يحتاج إلى توقف واستيضاح بالنسبة لما قبله من الشروط.
وتوضحهُ عبارة تهذيب الفروق حيث جاء فيه قَوْلُهُ: القسم الثالث ما كان في قسْمه إضاعة الْمال، لحق الله تعالى، كقَسْم الياقوتة.
الرابع: ما كان في قسمه إضاعة المال، لحق آدمي، كقسم الدار اللطيفة، والحمّام والخشبة، والمصراعيْن (البابين). قال الاصل، أي القرافي في كتابه الفروق: ويكون إضاعة المال في هذا الأمر لحق آدمي يجوز عندنا قسمُهُ بالتراضي، لأن للآدمي إسقاط حقه، بخلاف حق الله تعالي في إضاعة المال وغيره. ومنعَ أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل قَسْمَ ما فيه ضرر، أو تغيُّر نوع المقسوم. وانظر منظومة التحفة لابن عاصم فيما يتعلق بأحكام القسمة ومختصر الشيخ خليل وغيْرهما لاستيضاح مسائلها وبيان احكامها التفصيلية.