الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الخامسة:
أقرر فيها أن تحريم المصاهَرَة ليس رُتْبةً واحدة، بل هو رُتَبٌ
. (19)
بيان ذلك أن أقول: قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ} ، وبالجملة كلّ ما ذكِر في القرَآن من تحريم المصَاهَرة فهو يُحمَل على الحرائر لا على الإِماء، وهذا من حيث قوله تعالى:{مِنْ نِسَائِكُمُ} ، فإن معهود النساء هكذا، الحرائر اللائي أبيحَ وطؤهن بالعقْد لا بالمِلْك، فإذا كان هكذا فتحريم الحرائر بالمصاهرة، وذلك في الرتبة الأولى من التحريم، ثم يُلحَق بهن الإِماء. فيكُنّ في الرتبة الثانية، ثم في الرتبة الثالثة الوطءُ شُبْهَةً، ثم في الرابعة الوطء زنًا، فأمّا المراتبُ الثلاث الأولى فهي توجب التحريم من حيث المصاهرة على ترتيب كما قلنا، والخلاف في الزنَى هلْ يؤَثر أم لا؟
فإذا تبين هذا فأقول: قال اللخمي: تَحرُم امرأةُ الجدِ للأمّ والجَدِّ للأب، لا ندراجهما في لفظ الآباء، كما تندرج جدات امرأته وجدّاتُ أمِها من قِبَلِ ابنها وأمِها في قولِهِ تعالى:{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، وبنتُ بنتِ الزوجة، وبنتُ ابنها، وكلُّ ما نُسِب إليها وإن سَفَلَ، في قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ} .
قال شهاب الدين رحمه الله: إعلَم أن هذه الاندراجات ليست بمقتضَى الوضع اللغوي، من حيث إن القرآن نطَق بالثلث للأم، ولم يُعطِهِ الصحابةُ رضي الله
(19) هي موضوع الفرق الخامس والاربعين بعد المائة بين قاعدة تحريم المصاهَرة في الرتبة الأولى وبيْن قاعدة، لواحقها. جـ 3. ص.115.
وقد علق الفقيه ابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند القرافي في أول هذا الفرق إلى قوله: "إلا الزوجاتِ الحرائر"، فقال: لا أعرف ما قاله من أن المفهوم من نسائنا في غالب العادة، الحرائر المنسوبون إلينا بمبيح الوطء وهو العقد، بل لقائلٍ أن يقول: إن المراد بنسائنا جميع المنكوحات، بعقد كان نكاحهم أو مِلْكٍ، حرائِرَ كُنَّ أو مملوكاتٍ. ولقائل أن يقول: المراد بهن المنكوحات، بعقد، وتدخل بينهن الإماء المتزوجات. وأمّا قيْدُ كونهن حرائر، فلا وجه له عندي. وأما قوله "المنسوبون" فصوابه "المنسوبات". فلينظر وليتأمل تحقيق هذا الكلام في مبناه ومعناه.
عنهم للجدة بل حَرَموها، حتى رُوي لهم الحديثُ في السدسِ (20)، وصرَّحَ بالنصف للبنتِ، وبالثلثين للابنتين على السوية، وَوَرثت بنتُ البنت مع البنتِ السدسَ بالسُّنة لا بالكتاب. وابنُ الابن كالابن في الحَجْب، والجد ليس كالأب في الحجب، وهذا يدل على أن الأبَ حقيقةٌ في القريب، مَجاز في آبائه. ولفظ الابن حقيقة في القريب، مجاز في أبنائه، فإن دلَّ إجماع على اعتبار المجاز وإلَّا أُلْغِي، وينبغي أن يُعتقَد أن هذه الاندراجات في تحريم المصاهرة بالإِجماع لا بالنص. (21)
قلت: لا يصح أن تكون هذه الأحكام دليلا على ما قاله من أن الوضع يفيد كذا، فإن اختلاف الأحكام لا يستفاد منه الوضع اللغوي لا نفيا ولا إثباتا، واللهُ أعلم.
(20) فعَنْ قَبيصَةَ بنِ ذُؤَيب رضي الله عنه قال: جآت الجدَّة إلى أبي بكر رضي الله عنه، تَسْألُه ميراثها فقال: مَالَكِ في كتاب الله شيءٌ، وما علمتُ لك في سُنة نبي الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارْجِعي حتى أسأل الناس، فسأل، فقال المغيرةُ بن شُعبة: حضَرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدَس، فقال أبو بكر: هل معَك غيرُك؟ ، فقام محمد بن مَسْلَمة، فقال مثلَ قوله، فأنفذَه لها أبو بكر. ثم جآت الجدة الأخرى إلى عمر تسألُهُ ميراثها، فقال: مالكِ في كتاب اللهِ شيء، وَما كان الذي قُضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكنْ هو ذَلك السدس، فإن اجتمعتما، فيه فهو بيْنكما، وأيَّتُكمَا خَلَتْ بِهِ فهو لها". رواه اصحاب السُّنن، وذلك أن الجدة إما أن تكون والدة الاب أو والدة الأم، وقد تجتمعان، فتكون كل واحدة موجودة قيْدَ الحياة، فيكون السدس بينهما. وفي معناه حديث بُرَيْدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أمٌّ" رواه أبو داود والنسائي. فإذا كانت أم الهالك موجودة حجبت الجدة حجْبَ إسقاط، وحالت دونها والميراث.
(21)
علق الشيخ ابن الشاط على كلام القرافي المحكي عن اللخمي بقوله:
قلت: لا أعرف صحة ما قال من أن الحقيقة في لفظ الأب وشبهه أن المراد به المباشِر، وأنه إنْ أريدَ به غيْرُ المباشر فهو مجاز. ولعل الامر في ذلك بالعكس، وأن الحقيقة في لفظ الأبُ كل من له ولادة، والمجاز، المباشرُ، لكن غَلَبَ هذا المجاز حتى صار عُرفا، فكان ذلك السبَبَ في اقتصار الصحابة فيما اقتصروا به من الاحكام على المباشر، والله أعلم.
ثم زاد ابن الشاط قائلا عند قول القرافي: "ينبغي اعتقاد أن هذه الاندراجات في تحريم المصاهرة بالاجماع لا بالنص، وأن الاستدلال بنفس اللفظ متعذر، وأن الفقيه الذي يعتقد ذلك ويستدل باللفظ غالط، لأن الأصل عدمُ المجاز، والاقتصارُ على الحقيقة": "ما قاله القرافي في ذلك يوافَق عليه، لكن لا لأن الحقيقة في المباشر، بل لأن المجاز الصائر عرفا موجود فيه".
القاعدة السادسة:
أقرر فيها ما يحرم بالنسب مما لا يحرم به (22) فنقول:
الانسان يحرم عليه بالنسب أصُولُه وفصولُه، وفصولُ أولِ أصوله، وأولُ فصْل من كل أصلٍ وإن علا.
فالأصول، الآباء والأمهات وإن علَوْا، والفصُوُل الأبناء وأبناء الأبناء وإن سَفَلوا. وفصُولُ أولِ الأصول، الإِخوةُ والأخواتُ وأولادُهم وإن سفلوا، احترازًا من فصول ثاني الأصول وثالثِهَا وإن علا ذلك، فإنهم أولاد الأعمام والعمات، والأخوالِ والخالات، وهي مباحات، لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، "وبناتِ عمك وبناتِ عماتك، وبناتِ خالك وبناتِ خالاتِكَ". (23)
وأولُ فصل من كل أصل يندرج فيه أولاد الأجداد والجداتِ وهُمْ الأعمام والعمات، والأخوال والخالات.
وقولنا: أول فصل، احترازا من ثاني فصل من أول الأصول، فإن ثاني فصْلٍ، أولادُ الأعمام والعمات، وأولاد الاخوال والخالات.
والأصل في هذا قولُهُ تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} الآية. واتفقت الأمة على أن المراد بهذا اللفظِ، القريبُ والبعيدُ من كل نوع، واللفظ صالح له، كقوله تعالى:{مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} ، وكقوله:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} .
(22) هي موضوع الفرق السادس والاربعين والمائة بين قاعدة ما يحْرُمُ بالنَسب وبيْن قاعدة ما لا يحرم بالنسب، جـ 3. ص. 118.
لم يعلق ابن الشاط عليه بشيء، وقال: ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح.
(23)
الآية 50 من سورة الاحزاب. وأول الآية قول الله تعالى خطابا لنبيه الكريم، وتشريعا لعباده المسلمين:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} . سورة الأحزاب: الآية 50