الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قتالهم بمشرك، ولا تُنصَبُ عليهم الرعادات، (30) ولا تُحْرق عليهم المساكن، ولا يُقطع شجرهم.
ويمتاز قتالهم عن قتال المحارِبين بأن المحارِبين يُقتَلون مدْبِرين، ويجوز تعمد قتلهم، ويطالَبون بما استهْلَكوا من دم أو مال في الحرب وغيرها، ويجوز حبس أسراهُم، لاستبراء حالهم، وما أخذوه من الخَراج والزكوات لا يسقط عمن كان عليه، كالغاصب.
وذكر صاحب الجواهر في هذا الفرع قولا فقال: إن وَلَّى البغاة قاضيا، وأخذُوا الزكاة، وأقامُوا حداً، نفذ ذلك كُله، عند عَبْدِ الملك للضرورة مع التاويل، وردَّه ابن القاسم كله لعدم الولاية، وبقَوْل عبد الملك قال الشافعية.
القاعدة الرابعة:
في الفرق بين الحصانة لا تعود بالعدالة، والفسوقِ يعود بالجناية
. (31)
إعْلَمْ أن الانسان، إذا حُكم له بالفسوق ثم تاب، ذهب القضاء عليه بالفسق، فإذا جنَى بعد ذلك كبيرة عاد عليه اسمُ الفسق، ولو كان محْصَنا بعد مباشرة الزني ثم زني، ذهَب الإِحصان الذي هو شرط في حد القذف، فمن قذف من ليس بمحْصَنِ فلا حدَّ عليه، فإذا صار بعد الزني عَدْلاً لمْ تَعُدْ الحصانة بالعدالة كما عاد الفسق بالجناية. وقد وجِد الضدُّ بعْد الضدِ المنافي لحكمه ظاهرا
(30) هكذا في النسخ الثلاث المعتمدة في التحقيق، وعند القرافي: "ولا نوادعهم على ما تُنْصَبُ عليهم الرعادات.
(31)
هي موضوع الفرق السابع والأربعين والمائة بين القاعدتين المذكورتين جـ 3. ص 120. لم يعلق عليه بشيء، الشيخُ ابن الشاط، رحم الله الجميع.
في الموضعين، (32) فلِم كان الفرق؟ والقياسُ الجَليُّ، يوجب أن العِرْض إذا عاد مثلوما بمعاودة الجناية، أن يصير معصوما بمعاودة العدالة.
وأيضا ففيه إشكال من حيث إن أذية المومن لا تحِل ولا تُتْرَكُ سُدىً، (33) فلَمَّا لم يُترك عِرْض المحْصَن الذي لم يتقدم له زني، لصفة العدالة التي انطوى عليها فكذلك من كان على تلك الصفة في العدالة وقد تاب عن زنىً سَبَقه،
فقال شهاب الدين: البحث ها هنا يظهر بقاعدتين:
الأولى أن الله تعالى إذا نصَبَ سبباً لحكمه عِلَة للحكم، هل يجوز ترتيب الحكم على تلك الحكمة حيث وجِدَتْ، لأنها الأصل في اعتبار ذلك السبب، أو لا يجوز، لأن الله تعالى لم يَنْصِبْها سببا للحكم لعدم المناسبة؟ ألا تَرى أن خوف الزني سبَبُ وجوب الزواج، والزواج سببُ وجوبِ النفقة، ولا يناسِبُ أن يكون خوف الزني سبَبَ وجوب النفقة، ونظائره كثيرة، وَهذا هو الصحيح عند علمائنا. ولهذا يُقْطَع السارق لأجل أخذه للمال، ولا يُقْطعُ كلَّ من أخذ المال لغيره، ونَصَبَ الزني سببا للرجْم، لحكمةِ حِفظ الأنساب، لئلا تلتبس. فمن سعى في التباس الأنساب بغير الزني بأن يجمع الصبيان ويُغَيِّبهم صغارا، وياتي بهم كباراً فلا يعرفهم آباؤهم، فلا يجوز رجمُهُ لذلك، ولهذا البحث وقع الخلاف في اللبن
(32) عبارة القرافي أظهر، وهي:"وفي القاعدتين قد ورد الضد بعد الضد، المنفِي لحكمه ظاهرا، قال أصحابنا: إذا قذفه بعد أن صار عَدْلًا لم يُحَدَّ، نقلَه صاحب الجواهر (ابني شاس) وصاحب النوادر (أي كتاب النوادر في الفقه) لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، وجماعة من الأصحاب".
(33)
سدىً، أي همَلا، ودون تعزير وتأديب على تلك الإذاية. وقد ورت هذه الكلمة في قول الله تعالى، تذكيرا وتنبيها للإنسان:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} ، (أي أيظُن أنه خُلِقَ عبثًا، ومُهملًا في هذه الحياة دون تكليف بالتكاليف الشرعية، ودون أن يبعَثَ ويحاسبَ يوم القيامة على أعماله في الدنيا)! كلا، إنه سبحانه أوجد الانسان وخلَقَهُ وكرمه ليحمل أمانة ويبلّغ رسالة، وهي رسالة التكاليف الشرعية التي يجب القيام بها، ورسالة الأمانة التي عجزت السماوات والأرض عن حملها، وحَمَلها الانسان.
المستهْلَك هَلْ يؤثر تحْريما أم لا؟ (34)، فمن علّل بالحكمة أوقع به الحِرمة، قاله مطرف من أصحابنا، وقال مالك في المدونة: لا تقع به الحِرمة، إعراضا عن التعليل بالحكمة، وقاله الشافعي وأبو حنيفة: . فمسألتنا، إنْ لاحَظْنا الحِكمة دون السبب حَسُنَ إعادةُ الحدّ، وإن اقتصرنا على حصول السبب فلا يجب الحدُّ، لأنه اشتِرط فيه الاحصان، وَهُوَ يتخفف بعدم مباشرة الزني، فإن النقيضين لا يَصْدُقان، (35) وَالعدالة بعد ذلك لا تُنَافِي كونه مباشِراً.
(34) عبارة القرافي أوسع وأوضح حين قال: "وكذلك شرِعَ الرّضاع سببا للتحريم، بسبب أن جزء المرضية وهو اللّبَن صار جزءَ الرضيع باغتذائه به وصيرورته من أعضائه، فأشبه مَنيَّها ولحمتها في النَّسب، لأنهما جزء الجنين، ولذلك قال عليه السلام: "الرضاع لُحمة كلُحمة النسب"، فإذا أخذنا نعلل بهذه الحكمة لَزِمَنَا أن من شرب دم امرأة أو أوكل قطعةً لحمها يحرم عليها وتحرم عليه، وليس كذلك، ولأجل ملاحظة التعليل بالحكمة إذا استُهْلِك اللّبَنُ وعُدِم ما يسمَّى رضاعا ولبنا وتناوله الصبى، فمن علَّل بالحكمة أوقع به الحرمة
…
الخ.
(35)
التعبير بالنقيضين مصطلح من مصطلحات علم المنطق وألفائظه، وهو أحد الأنواع الأربعة للتقابل بين الألفاظ المفردة، وهذه الأنواع هي:
1) تقابُلُ النقيضين، وهما الأمران اللذان يكون أحدهما سلبا للآخر ونفياً له، ولا يجتمعان ولا يرتفعان معا، بل لابد أن يكون أحدهما موجودا، مثل قولك: إنسان، لا إنسان، حيوان، لا حيوان، طائر، لا طائر.
والتعبير بالنقيضين يكون في التنافي بين المفردات كما اتضح من خلال التعريف والأمثلة لذلك. وهو بذلك غير التناقض الذي يكون بين جملتين أو قضيتين متناقضين، ولذلك قيل في تعريفه: إنه اختلاف القضيتين في الكيف، اختلافا يقتضي لزوم صدق إحدهما وكذِبَ الأخرى، مثل القول: زبد قائم، زيدْ ليس بقائم، الانسان حيوان، الانسان ليس بحيوان، وهذا ما يُشير إليه الشيخ عبد الرحمان الأخضري رحمه الله في منظومته الشهيرة بالسلم في علم المنطق حيث قال في ذلك:
تناقض خُلْفُ القضيتين في
…
كيف، وشرطُ واحدٍ أمر قفِيّ
2) وتقابل الضدين، وهما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان، وقد يرتفعان، بحيث تبقى الواسطة بينهما، مثل أبيض وأسود، حيث يكون الشيء بلون آخرَ ثالث، مثل أخضر أو أحمر.
3) وتقَابلُ المتضايفين، وهما الأمران اللذان لا يمكن تعتْل أحدِهمَا دون الآخر، مثل فوق، وتحت، وأعلى، وأسفل.
4) وتقابل العدَم والملَكَةِ، وهما الأمران اللذان يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا، كالبصر بالنسبة للعمى، وكالسمع بالنسبة للصَّمَم، وهكذا الخ
…
ولذلك قيل في تعريف التقابل: هو ألا يجتمع أمران في زمانٍ واحد في ذاتٍ واحدة من جهة واحدة.
ثمّ إن الحدود يغلب عليها التَّعَبُّد من جهة مقاديرها، وإن كانت معقولة المعتى من جهة أصولها. والتعبُّدُ لا يُجيز التصرف، فظهر أنه لا يلوم من الاستواء في الأذية الاستواءُ في الحدِّ، ولكن يعزَّرُ في حق الواحد، ويُحَدُّ في حق الآخر.
القاعدة الثانية: قاعدةُ حمْل المطْلَق على المقيَّد، وذلك أن الله تعالى قال:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية، فجاَت هذه مطْلَقَةً، وجآت ايةٌ أخرى مقيَّدةً، وهي:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ} ، (36) ومن زَنَى ليس بغافل، فيُرَدُّ المطلق إلى المقيد. ومفهوم هذِه (الآية) المقيَّدة أن من لم يكُن غافلا لاحدّ على الانسان في قذفه، وإن كان التعزير يلحق. بسببه. (37) وأمَّا عَوْد الفسوق بِعَوْدِ الجناية فإن الأمة مجمِعة على أن سبب الفسوق ملابَسة الكبيرة، أو الإِصرار على الصغيرة من غير قيْدٍ ولا شرْط، فحَيْث وُجد، وجبَ القضاء بالفسق من غير استثناء صورةٍ من صورة، عملا بطردِ العلة ووجُوبِ الموجِبِ.
(36) سورة النور - الآية 23، ص، {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
(37)
قال القرافي هنا: والمباشر للزني ليس بغافل عنه، فلا يحدُّ قاذفه، لأنه لَوْ حُدُّ لحصَلَ معنى اللعْن في الدنيا والآخرة، وهو منفيٌّ بهذه الآية من جهة مفهومها الذي هو مفهوم الصفة، لأن مفهومها يُلعن بالتعزو والعقوبة المؤلمة على حسب حال المقذوف، فيبقى مما عداه على مقتضى الدليل.