الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الأولى:
في تقرير ما يحرم من البِدع ويُنْهَى عنها ممَّا ليس كذلك
. (2)
قال شهاب الدين: إعْلَمْ أن الأصحاب - فيما رأيْتُ - متفقون على إنْكار البِدَع، نصَّ على ذلك ابن أبي زيد وغيرُهُ.
والحَقُّ التفصيل، وأنها خمسة أقسام: قِسْم واجب، وهو ما تَنَاولَتْهُ (3) قواعد الوجوب وأدلتُه من الشرع، كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضَّيَاعُ، فمِثْلُ هذا لا ينبغِي أن يُختلَفَ في وجوبِه.
= وقال الشيخ العلامة أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني الذي كان يلقَبُ بمالكٍ الصغير، لكونه أبرَزَ علماء المذهب المالكي، وأشهر فقهائهم في القرن الرابع الهجرى، قال في رسالته الفقهية المباركة:"باب جُمَل من الفرائض والسنَن الواجبة والرغائب"، وهو في معنى كتاب الجامع في المؤلفات السابقة التي ذكرنا. وفي غيرها مما لم نذكره من مؤلفات أخرى فرحمه الله.
ومن خلال هذه النقول من كتب هؤلاء الأئمة والفقهاء الأعلام تبدو أهمية كتاب الجامع في ختام المؤلفات الحديثية والفقهية، وتظهر الغاية منه، حيث يشتمل على أبواب ومسائل متنوعة، ويكون بمثابة خلاصة جامعة لما في الكتاب، واستدراك لما لم يذكر فيها من مسائل تتصل بالعقيدة الحقة والشريعة الإِسلامية السمحة، والأخلاق الدينية الفاضلة. فرحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، ونفع بعلمهم ومؤلفاتهم، وجزاهم خيرا عن الإسلام والمسلمين، وأبقى الخير والعلمَ والصلاح والنفع في هذه الأمة الإسلامية المحمدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خيْرُ الوارثين.
(2)
هي موضوع الفرق الثاني والخمسين والمائتين بين قاعدة ما يَحْرُمُ من البدَعِ ويُنهَى عنه وبين قاعدة مالا ينهى عنه منها. جـ 4. ص 202. وقد علق عليه الشيخ ابو القاسم ابن الشاط رحمه الله بقوله: "ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح".
(3)
كذا في ع، وت. وفي ت: تناولَه، بدون تاء التأنيث، وحينئذ يحتمل أن يكون فعلا ماضيا مفتوح اللام، أو فعلاً مضارعاً مضمون اللام، أصله تتناولُه (بِتاءيِن) كما عند القرافي: إحداهما تاء الفعل الماضي تناولَ الشيءَ يتناوله، والثانية تاء المضارعة، وفي هذه الحالة عند إجتماع هاتين التاءين تُحْذَف إحداهما تخْفيفا، وفي ذلك يقول العلامة محمد بن عبد الله بن مالك الأندلسي في ألفيته في النحو والصرف:
ومَا بتَاَءيْن ابتدِى قد يُقْتَصَرْ
…
فيه على تَا كتَبَيَّنُ العِبَرْ
وأصلهَ تتبيَّنُ العِبر، فحذِفت إحدى التاءين في الأسلوب العربي للتخفيف على اللسان والنطق بالكلام.
الثاني محرَّم، وهو كل بدْعة تناولتْها قواعد التحريم وأدلتُه من الشريعة، كالمُكُوس (4) والمُحْدَثاتِ من المظالم.
القِسْم الثالث من البِدَع مندوبٌ إليه، وهو ما تناولتْهُ قواعدُ الندب أو أدلَّتُه، كصلاة التراويح (5)، وإقامةِ صُوَر للأئمة والقُضَاةِ ووُلَاةِ الأمر، على خلاف ما كان عليه الصحابة. فقد جاء عُمَر الشامَ ووجدَ معاويةَ قد اتخذَ الحُجَّاب والمراكبَ النفيسة والثياب العالية، وسَلَك ما سلكه الملوك، فأنكر عليه عُمَرُ، فقال: إنَّا بأرض يحْتاج إلى هذا في سياسة الناس، فقال له عمر بعد ذلك: لا آمرُك ولا أنهَاك، أيْ أنتَ أعْرَفُ بحالك وحالِ هؤلاء الناس، فإن كان كذلك جاز وإلا فلا.
القسم الرابع بِدع مكروهة، وهي ما تناولته أدلة الكراهة في الشريعة وقواعِدِها، كتخصيص الأيام الفاضلة أَو غيرها بنوع من العبادة، ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام، (6) أو ليلة بقِيَام.
(4) المكوس: جمع مَكس، وهو ما يؤخَذ من نقود كضريبة على السلع الواردة من البادية إلى الحاضرة مثلا، أو الواردة على الأسواق في البادية أو الحاضرة بقصد بيعها، فيؤخذ من صاحبها شيء من النقد يؤديه مقابلَ إدخالها للسوق أو الإتيانِ بها إلى المدينة للبيع، وهو شيء غير مشروع ولا مقبولٍ في الاسلام، كما نص عليه الفقهاء. وذكروه في كتبهم المتعلقة بالأحكام السلطانية وغيرِها من الكتب الفقهية. فليرجع إليها من أراد التوسع في معرفة تلك الأحكام.
(5)
فصلاة التراويح في رمضان بدأها النبي صلى الله عليه وسلم وسَنَّها، وشرعها لأمته، فكان يُرغبُ في قيام رمضان من غير أن يأمرَهم فيه بعزيمةٍ، ويقول: "من قام رمضان إيماناً واحتِساباً غفِر له ما تقدم من ذنبه
…
".، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها، خشيةَ أن تُفرَضَ على أمته، ورحمَة بها، وتخفيفاً عنها.
وروى الإِمام البخاري عن عبد الرحمان بن عبد القاري رضي الله عنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يصلى الرجلُ لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهطُ (أي الجماعةُ)، فقال عمر: " (إنى أرى لو جمعتُ هؤلاءِ على قارئ واحد لكان أمْثَلَ، ئم عزم فجمعَهُمْ على أبيّ بن كعب، ثمّ خرجْتُ معه ليلة أخرى، والناسُ يصَلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نِعْمَ البدْعة هذه، والتي ينامون عنها أفضلُ من التي يقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أولهُ". اهـ
(6)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَصُمْ أحدُكم يومَ الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصومَ بعْدَه". رواه الشيخان: البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث رحمهم الله.
ومن هذا البابِ الزيادة في المندوبات المحدودات، كما ورد في التسبيح عقب الصلاة تسعا وتسعين (7) فيفعل مائةً، ووردَ صاعٌ في زكاة الفطر، (8)، فيزيد هو في هذا، وذلك استظهارٌ على الشارع، وقلةُ أدَب معه، بل شأنُ العظماءِ من أهل الدنيا إذا حدَّدوا شيئا أن يوقَفَ عنده، والخروج عنه قلة أدب، والزيادة في الواجب أشد في المنع، لأنه سبب لأن يُعتقَدَ أن الواجب الأصْلُ والمزيدُ عليه.
(7) عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مُعَقِّبَاتٌ لا يَخيب قائلهن أو فاعلهنَّ: ثلاث وثلاثون تسبيحةً، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة في دُبُر كل صلاة". وسُميتْ هذه الكلماتُ معَقباتٍ لأنها تقال عقب الصلاة وإثر الانتهاء منها. رواه كل من الأئمة: مسلمٌ والترمذي والنسائى رحمهم الله.
وفي معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهبَ أهل الدثور (أي الأموال) بالدرجات والنعيم المقيم، يُصَلون كما نُصلى، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعْتقون ولا نَعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعَلِّمكم شيئا تدركون به مَن سَبَقكم، وتسبقون به مَنْ بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم، إلا من صنع مثلَ ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسوَل الله (أيْ دُلّنَا على ذلك وأرْشِدْنا إليه) لنعمل به، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دُبُرَ كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلْنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". رواه كل من أئمة الحديث: البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي رحمهم الله، وزاد أبو داود: "وتختمها بلا إلاه إلا الله وحْده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ".
قلتُ: ويظهر أنه لا منافاةَ بين ما جاء في الحديث الأول من كون التكبير أربعاً وثلاثين ومن وجه الاستدلال به على عدم الزيادة في عدد هذه الكلمات، ولا بين ما في هذا الحديث الثاني من كون التكبير ثلاثا وثلاثين مرة، لأن الرواية كذلك وردت في الأول، ولأنه يمكن فهم التكبيرة الرابعة والثلاثين، على أن المراد بها كلمة الهيللة، بما يشمل التهليل والتكبير بكلمة لا إلاه إلا الله، والله أكبر. فليتأمل ذلك وليُحقَّق، والله أعلم.
(8)
عن عبد الله بن عمرَ رضي الله عنهما قال: فَرضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد، والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمَر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، (أي صلاة العيد). حديث صحيح رواه أئمة الحديث رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
الحامس: البدع المباحة، وهي ما تناولته أدلة الإِباحة وقواعدُها من الشريعة كاتخاذ المناخِل للدقيق (9)، لأن ليْن العيْش وإصلاحَه ، من المباحات، فما يُوصِلُ إليه مباح.
فالبِدعة إذا عُرِضَتْ على قواعد الشرع انقسمت إلى الأقسام الخمسة، وإن نُظِر إليها من حيث الجملة مع قطْع النظر عما يتقاضاها وأنها بدعة كُرِهَتْ، فإن الخيْرَ كلَّه في الاتِّباع والشرَّ في الابتداع، ولبعض السلف من أهل الأندلس: ثلاث لوْكُتِبْنَ في ظُفْرٍ لَوَسِعَهُنَّ، وفيهن خير الدنيا والآخرة: اتَّبع لا تبتدعْ، اتَّضع لا ترتفع، مَنْ ورِعَ لا يتَّسِعْ. (10)
(9) المناخل: جمع مُنخل بضم الميم والخاء، وهو أداة النخل كالغِربال ونحوه، حيث يُنخَلُ به الدقيق ويُصَفَّى من النُّخالة. واستعماله من الأشياء المباحة شرعاً، وفي عادة الناس ثانيا.
(10)
أي إن من كان متحليا بالتقوى والورع لا يتوسع في تعاطى المباحات، ولا يُكْثِرُ من الانتفاع والاستمتاع بها، حَذَراً من أن يَجُرَّهُ ذلك ويدفع به إلى الوقوع فيما ليس بمباح، وهو أمرٌ لا يجوز شرعا، للمسلم أن يقدم عليه ولا يسوغ له ذلك بحال من الأحوال.
قلت: وحَبَّذا لو أن بعض الناس الذين يتحدثون في موضوع السنة والبدعة ويتناولون الكلام فيه عن غير معرفة عميقة، ولادراية واعية، يهتدون إلى الاطلاع والتعرف على كلام مثل هؤلاء العلماء الأفاضل الأجلاء. المشهود لهم بالعلم والورع والتقوى على صعيد العالم الإسلامي، ويرجعون إلى قراءة مثل هذه التحقيقات والتدقيقات الموجودة في كتبهم القيمة، ومؤلفاتهم الشهيرة، والاستنارة بعلمهم وفقههم في الدين، وذلك حتى يتسنَّى لمن يتحدث في هذا الموضوع الدينى الدقيق، ويتيسَّر له الاهتداء إلى الصواب فيه، والتمييزُ بين ما هو من قبيل البدعة حقا، وَمُخَالِفٌ كلَّ المخالفة لِنصوص الشرع ومقاصده، ولأصوله وقواعده العامة، ولِما أجمع عليه أئمة وعلماء الأمة الإسلامية، ومتعارضٌ مع كل ذلك، فيرْفضُ من أساسه إجمالا وتفصيلا، وبين ما ليس كذلك، ولا يتعارض في شيء مع تلك المبادئ والأصول والقواعد العامة، فيُقبل ويُوخَذُ بهِ، على اعتبار أن له أصلا من الدين، وأساساً من شرعه الحكيم، ويمكن اعتباره من السنة الحَسنة ومندرجا فيها، ومشمولا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من سَنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيء، ومن سَن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيء". وبذلك يكون المقياسُ والميزانُ الشرعي في ذلك هو المعتبر عند النظر في هذا الموضوع بتأمل وتدبر، وبتفهم وتبصر، وبدون تَجَزُّؤٍ وتسَرُّعٍ واعتداد بالرأى، وتعميم الحكم على كل الأمور، فيحصل التمييز ويتضح التفريق بين ما يكون من السنة الحسنة فيُقبل، وبين ما يكون من قبيل السنة السيئة، فيُرفض، ولا يُقبل، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، (أي مردود عليه)، لأنه حينئذ ليس من الدين في شيء، ولا يندرج في أصل ئابت من أصوله، ولا في مقصد حكيم من مقاصده، ولا في قاعدة عامة من قواعده، فلا يكون له أساس في الدين لا من قريب ولا من بعيد. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهذا التمييز والتفريق بين ما أحدِث ويدخل في السنة الحسنة ويكون مشمولا بها ومندرجاً فيها، وبين ما أحدث ويكون خارجاً عنها على ضوء المقياس والميزان الشرعى المذكور هو الذي ارتضاه بعض علماء الإسلام وأخذوا به، وقسموا على أساسه البدعة إلى خمسة أقسام، وهم في نفس الوقت يدركون وجهة نظر العلماء الآخرين القائلين ببدعة كل ما أحدث في الدين بعد عصر النبوة والرسالة، وبَعْدَ عَهْدِ السلف الصالح من الصحابة، ويتفهمون مقصدهم النبيل الهادف إلى الحيلولة دون توسع العامة في إحداث البدع السيئة ونسبَتِهَا إلى الدين وإلصاقها به، وهو منها براء وبعيد.
على أن من المسلَّم به والمفروض المبنى على حسن الظن بالناس أن أي مسلم متبصر في الدين، فضلا عن عالم وفقيه متمكن وعارفٍ بشرعه الحكيم، لا يسمح له إيمانه وتديُّنهُ ويقينه بلقاء ربه أن يتقدم بين يدي الله ورسوله بزيادة قول أو عمل لا أساس له في الإسلام، ولا أن يتجرأ على أن يحدث ويَشْرع مالم يأذن به الله، ولا أن يخالف أمراً هو طاعةٌ لله ورسوله، وأجمع علماء الإسلام وأمته على الأخذِ والعمل به في كل عصر وجيل. خاصة والعلماء العارفون أعرفُ الناسِ بالحديث والسنة، وأحرص الناس على الاقتداء والِاتِّباعِ، والاهتداء بنور القرآن، وهَدْي الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد زكاهم الله تعالى وأثن عليهم بقوله المبين:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} ، وبقوله سبحانه:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . وقوله جل علاه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} .
ومن هذا المنطلَق والأساس، ومن كون الأمر لا يعدو أن يكون اختلافا في فهم بعض النصوص الشرعية ومقاصدها الحكيمة، رأينا الشيخ البقوري رحمه الله في هذه القاعدة الأولى من قواعد كتاب الجامع، ورأينا شهاب الدين القرافي قبله رحمه الله في الفرق الثاني والخمسين والمائتين، الموازى لتلك القاعدة يقسم البدعة إلى. خمسة أقسام: بدعة واجبة، ومندوبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرمة. ورأينا الشيخ العلامة أبا القاسم ابن الشاط، وناهيكم به علما وفقها، وورعا وتحقيقا، وانتقاداً وتصوييا وتصحيحا لكلام القرافي، لدرجة القسوة عليه أحيانا، يوافق على ما جاء في هذا الفرق ويسلِّمهُ ويقول:"ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح "، (أيْ: من التقسيم وغيره، ممّا اتصل بالموضوع
…
على أن بعض الأئمة الأعلام من علمائنا الأبرار خصُّوا بعض مؤلفاتهم بهذا الموضوع، وتناولوه فيها بدقة وتوسع، حرصاً على تبيين وتوضيح كل ما يمكن أن يعتبر من قبيل البدعة، مثل كتاب الاعتصام لأبي إسحاق الشاطبى، والمدخل للعلامة ابن الحاج، وكتاب السنن والمبتدعات، وغيرهم ممن بحثوا هذا الموضوع، بقطع النظر عن وجهة نظرهم فيه واحترامها واعتبارها في الحرص على الِاتّباع، ومخالفة بعض العلماء لهم في جزئياته وبعض مسائله وتعميمه، مما يمكن أن ينطبق عليه قول علمائنا: اختلاف العلماء رحمة، فرحمهم الله. جميعا وأثابهم على حسن صنيعهم وحرصهم على الاتباِع والاقتداء، والتمسك بنصوص ومقاصد الشرع الحكيم. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= هذا وممن تناول مَبْحث الفرق بين السنة والبدعة، ونقل آراء العلماء واختلاف وجهات نظرهم وفهمهم في الموضوع بأسلوب جلى مشرق واضح، أستاذنا الجليل، العلامة المشارك السيد علال الفاسي رحمه الله، وذلك في كتابه القيم والذائع الصيت:(مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها). وكذا موسوعة الفقه الكويتية في مادة بدعة، حيث نقلت أقوال العلماء في موضوع البدعة والسنة، بشيء من البيان والتفصيل.
ونقل الشيخ الإِمام الحافظ خاتمة المحققين، وعمدة الأتقياء العارفين، وقُدْوة الأولياء الواصلين، العلامة ابن حجر الهيثمي رحمه الله في كتابه "فتح المبين لشرح الأربعين"، الذي شرح فيه الأربعين حديثا النووية التي جمعها الإِمام النووي رحمه الله، نَقَلَ كلامَ الإِمام الشافعي رحمه الله في هذا الموضوع، أثناء شرحه للحديث الخامس من تلك الأحاديث، وهو الحديث الصحِيح المتفَقُ عليه والمروىُّ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"منِ أحدث في أمرنا هذا ما ليسَ منه فهو رَدٌ (أي مردود عليه)، وفي رواية أخرى: "من عمِلَ عملَا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ".
قال الإِمامُ الشافعي هنا رحمه الله، وناهيكم بهِ علما وورَعاً، وخشيةً وتقوى:"ما أحدِث وخالَفَ كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثراً فهو البدعة الضالة، وما أحْدِثَ من الخيْر ولم يخَالِف شيئا من ذلك فهو البدعة المحمودة".
قال ابن حَجَر الهيثمي هنا رحمه الله: والحاصل أن البدعة الحسنة متفَق على ندْبها، وهي ما وافق شيئا مما مر ولا يَلزَم من فعله محذور (أي ممنوع) شرعي، ومنها ما هو فرضُ كفايةٍ كتصنيف العلوم ونحوها ممّا مر.
ثم زاد قائلا: قال الإِمام أبو شامة شيخُ المصنف (أيْ شيخ الإِمام النووي مصنف هذه الأحاديتْ الأربعين في أصول الدين) رحمهما الله: "ومِنْ أحْسَنِ ما ابتُدِعَ في زماننا ما يُفْعَلُ كل يوم في اليوم الموافق لمولد النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف وإظهارِ الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسانِ إلى الفقراء مشْعِرٌ بمحبَّة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعل ذلك، ومُشْعِرٌ بشُكر الله تعالى على ما من به من إيجاد وبعثة رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعَلى آله وسلم تسليما"، إلى غير ذلك مما ذكره عن البدعة الحسنة، والبدعة السيئة، ومقياس التفريق بينهما وميزان تمييز إحداهما عن الاخرى، واعتبار ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن.
وما من شك في أن هؤلاء الأئمة الأعلام، والعلماء الأتقياء الأبرار كانوا رحمهم الله على معرفة ودراية كاملة بما يقولون، وعلى بينة وبصيرة من أمرهم فيما يكتبون ويوضحون، علما وورعا وتقوى، وخشية، وفِقهاً متينا في الدين.
ومن ثمَّ فإنه لا ينبغي لكل من يتصدر لتوعية الناس وإرشادهم في أمور دينهم أن يتسرع في الحكم على كل قول أو عمل رأى عليه الناس، ويمكن اعتباره من القُرَب التطوعية، فيَصِفَهُ بأنه من قبيل البدعة المنكرة والمحرمة التي لا تَمتُّ إلى الدين بصلة، بل ينبغي له أن يتثبت ويتروَّى، وأنْ يعرضه على ميزان الشرع ويذاكِرَ فيه العلماء المتمكَنين، فيتحرى في إصدار الحكم على =