الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ياخذ سلاحه للحرب، وأيضا فلله عادةْ أجراها في خلقه، فالأدب المُضي على تلك العوائد وهي الالتباس بالأسباب، والترْكُ لها سوءُ أدَبٍ.
ثم إن الخلائق انقسَمُوا في هذا المقام ثلاثةَ أقسام، فقِسْمٌ عاملو الله باعتماد قلوبهم على قدرته تعالى مع إهمال الأسباب، (183)، وقسم لَاحظوا الأسباب وانهمكوا فيها، وهؤلاء لا خير فيهم بالنسبة للآخَرين، وقِسْمٌ اعتبروا المسبَّب والاسباب، ولاحظوا البابيْن، وهولاء أفضلُ الناس، وهذا موطن الأنبياء عليهم السلام.
القاعدة الثالثة عشرة:
في الكلام على الرضَى بالقضاء
. (184)
إعْلَمْ أن شهاب الدين رحمه الله بيَّنَ الرضَى بالقضاء وبيَّن الرضا بالمقضي فقال:
(183) قال القرافي: "فلججُوا في البحار في زمن الهول، وسلَكُوا القفار العظيمة المهلكة بغير زاد، إلى غير ذلك من هذه التصرفات، فهؤلاء حصلَ لهم التوكل، وفاتهم الأدب مع الله تعالى، وهم جماعة العبَّاد، أحوالهم مسطورة في الكتب في الرقائق".
قلت: والرقائق: صح رقيقة، وهي كل كلمة وموعظةٍ ترفق القلْب وتُؤثُرُ فيه وتُلَينه لطاعة الله والاقبال عليه والخشية منه، وترشدُهُ لِعدم الركون والاطمئنان للدنيا بكيفية كلية، وذلك بسماع آية من كتاب الله العزيز، أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو موعظة من عانم وفقيه، وداع إلى الخير من أهل الفضل والصلاح، والورع والتقوى والفلاح، الذين ينفذ كلامهم الخالصُ لله إلى القلوب والنفوس. قال اللهُ تعالى:"الله نزَّل أحسن الحديثِ كتابا متشابها مثاني، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد". سورة الزُّمَر، الآية 23. ولأهمية هذه الرقائق نجد جميع المؤلفين والمصنفين لكتب السنة النبوية الطاهرة، يفْردُونَ موضوع الزهد والرقائق بكتاب أو بابٍ خاص من مؤلفاتهم، ويوردون فيه الآيات القرآنية والآحاديثَ النبوية المتعلقة بهذا الجانب في حياة المسلمين، مصداقا لقول الله رب العالمين: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. سورة يونس، 57 - 58.
(184)
هي موضوع الفرق الثاني والستين والمائتين بين قاعدة الرضى بالقضاء وعدم الرضى بالمقضي". جـ 4. ص 228.
والفرق بين القضاء والمقضِيّ أن الطبِيب إذا وصف للعليل دواءً مُرّا أو قطحَ يده المتآكلة، فإن قال المريض: بِيس ترتيبُ الطيب ومعالجتُهُ، وأيسَرُ من هذا يقوم مقام هذا، فهو سُخْط بقضاء الطيب، بحيث لو سمعه الطيب كره ذلك وشق عليه، ولو قال: هذا دواءٌ مرُّ قاسَيتُ منه شديدا، فهذا سخط بالمقضي الذي هو الدواء والقطْعُ، لا بالقضاء الذي هو ترتيب الطبيب، ولا يؤلمه إذا سمع ذلك، بل يقول له: صَدَقت، الأمر كذلك.
فعلى هذا، المريضُ إذا تألم في المرض بمقتضَى طبعه فهذا عدم رضى بالمقضِي لا بالقضاء، فلو قال: أيُّ شيء عملتُ حتى أصابني مثلُ هذا وما كنت أستاهل هذا فهذا عدم رضا بالقضاء، فنحن مامورون بالرضى بالقضاء، ولا نتعرض لربنا إلَّا بالاجلال والتعظيم، ونحْذَرُ أن نتعرض لربنا إلَّا بالإِجلال والتعظيم، ونَحْذَرُ أن نعترض عليه في ملكه، وما أمِرْنَا أن يطيب لنا البلاء، (185) فالرضى
= ومبحث القضاء والقدر من المباحث الدقيقة التي تناولها علماء التوحيد في الاسلام، وتوسعوا فيها، وبحثُوها بَحْثاً عميقا. والرضى بالقضاء والقدر من عناصر الايمان في الاسلام.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا الفرق فقال: ما قاله فيه صحيح، ما عدَا قولَه:"والرضى بالكفر كفْرٌ"، فإنه إنْ أرادء علمه بكفره فذلك لا يتأتى إلَّا مِنْ الكافر عِنادا، على القول بجواز ذلك عادة، وأما على القول بامتناع ذلك عادة فلا، وما عدا قولَه:"فمن قُضيَ عليه بالمعصية أو الكفر فالواجبُ عليه أن يلاحِظ جهة المعصية والكفر فيكرههما، وأما قدَرُ الله تعالى فيهما فالرضى به ليس إلَّا، ومتَى سخِطه وسفَّه الربوبية في ذلك كان ذلك معصية أو كُفراً منضَمّا إلى معصيته كفره على حسب حاله في ذلك، فتأمل هذه الفروق". فإن كراهة الكفر - يقول ابن الشاط، لا يتأزَّى إلاء الكفر عنادا، على أن ذلك من البعيد المشبَّه بالمحال، لأنه لا كفر عنادا إلا لحامل يحمله عليه ويرجحه عنده كالمتناقضين. وأما كراهية المعصية فهي ممكنة، لأن كل عاص، عالمٌ بعصيانه، والله أعلم".
(185)
عبارة القرافي هنا: "وأما أنَّا أُمرْنا بأن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث فليس كذلك، ولم تَرِدْ الشريعة بتكليف أحد بما ليس في طبعه، فلم يومَر الأرمدُ باستطابة الرمَد المؤلم ولا غيره من المرض (والرمَد مرض يصيب العين)، بل ذَمَّ الله قوما لا يتألمون ولا يجدون لِلْبَأسَاءِ وقعا، فذمَّهم بقوله تعالى في شأن الكافرين المكذبين بيوم الدين، المتنكبين عن الصراط المستقيم: "ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون". سورة المومنون الآية 76. فمن لم يستكن ويَدلّ للمؤلمات، ويُظْهرْ الجزعَ منها، ويسألْ ربَّه إقالة العثْرة منها فهو جبار عنيد، بعيد عن طرق الخير، فالمقضِيُّ والقدورُ أثر القضاء والقدر، فالواجبُ هو الرضَى بالقضاء فقط".
بالقضاء واجب. (186)
وأما المقضي فإن كان واجبا وجب الرضى به، وإن كان حراما حَرُمَ الرضي به، وإن كان مندوبا فهو مندوب، أو مكروها فمكروه، فالرضى بالكفر كُفْرٌ. فعلى هذا، العبدُ إذا قدر عليه بالكفر فهو غير راض بالكفر الذي هو المقضي، ولا يحل له الرضَى به، وواجب عليه الرضَى بقدر الله السابق عليه، ومتى سخِط كان ذنبه من جهة الكفر، ومن جهة السخط بالرضَى.
وعلى هذا الرضَى بالقضاء يحصل من كل مسلم، وليس ممّا يختص به الأولياءُ. (187). وَمَا سبب هذا إلا أنهم لا يفرقون بين الرضى بالقضاء وبين الرضى بالمقضى. ولاشك أن الرضَى بالمقضي الذي يخالف الطبعَ حتى لا يكون معه خير مِن ألمه، أمْرٌ عزيز، ويكاد أنه ما حصل للانبياء، فكيف يحصل لغيرهمْ، فالصواب التفريق، واللهُ أعلم (188).
(186) فالرضى بالقضاء والقدر من أسس وعناصر الايمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الايمان أن تومن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقضاء والقدَر: خيره وشر، حُلْوه ومُرّه".
وعن أنس رضي الله عن النبِي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثٌ من أصل الايمان: (1) الكفُّ عمن قال لا الاه إلا اللهُ، ولا نُكَفِرُهُ بذنْب، ولا نُخرجه من الاسلام بعمل، والجهادُ ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتِل آخرُ هذه الأمة الدجالَ، لا ببطله جوْرُ جائِرٍ، ولا عدْلُ عادلٍ، (3) والايمان بالأقدار". والأقدار جمع قدَر، وهو ما قدره الله وكتبه على الانسان في سابق العلم والازل). روى هذا الحديثَ أبو داود بسند حسن.
(187)
عبارة القرافي هنا أوسعُ وأوضحُ حيث قال: "وإذا وضَحَتْ لك هذه الفروق فاعْلَمْ أن كثيرا من الناس يعتقد أن الرضى بالقضاء إنما يحصل من الاولياء، وخاصة عُبَّاَد الله تعالى، لأنه من العزيز الوجود، وليس كذلك، بل أكثرُ العوام من الومنين إنما يتألمون من المقضى فقط، وأمَّا التوجُّهُ إلى جهة الربوبية بالتجوير والقضاء بغير العدل فهذا لا يكاد يوجد إلا نادرا من الفُجَّار والمرَدَة، وإنما يبعث هؤلاء على قولهم: "إن الرضى بالقضاءِ إنما يكون من جهة الأولياء خاصة"، أنهم يعتقدون أن الرضى بالقضاء هو الرضى بالقضى، وعلى هذا التفسير هو عزيز الوجود، بل هو كالمتعذر" اهـ.
(188)
قال القرافي هنا تكملةً للموضوع، وزيادةً في الايضاح والبيان: "فإنَّا نَجْزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تألم لقتل عمه حمزةَ، وموت ولده إبراهيم ورمْي عائشة بما رُمِيَتْ به، لأن ذلك كله من القضى، ونَجْزِم بأن الانبياء عليهم السلام تتألم طباعهم وتتوجع من المؤلات وتُسَرُّ بالسرات.
وإذا كان الرضَى بالقضيات غيرَ حاصل في طبائع الانبياء، فغيرهم بطريق الأولى.
فالرضى بهذا التفسير لا طمعَ فيه، وهذا التفسير غلطٌ، بل الحق ما تقدم، وهو متيسر على أكثرِ العوام من المومنين، فضلا عن الانبياء والصالحين، فاعلَمْ ذلك ".