الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الخامسة والعشرون:
في الفرق بين التخْيير والتمليك
. (126)
إعْلَمْ أن أصل التمليك عند مالكٍ الدلالةُ على أصْل الطلاق من غير إشعار بالعدد ولا بالبيونة، فلذلك يَقبل قضاءَ الزوجة بأيّ شيء شآءتْ، والتخييرُ للثلاث قبل البناء وبعده، فلذلك تُقبَل نية الزوج فيما دون الثلاثي قبل البناء، لحصول المقصود، وهُوَ البينونة بالواحدة حينئذ دون ما بعُد البناء، لأنه صريح في البَيْنُونةِ لا يقبل المجاز كالثلاث إذا نطق بها. واتفق الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل على أنه كناية لا يلزمْ به شيء إلا بالنية، ولأن لفظ التخيير يحْتمل التخيير في الطلاق وغيره، وإن اراد الطلاق فيحتمل الواحدة وأكثرَ من ذلك، والْأصْلُ بقاءُ العصمة حتي ينوَّى.
وقد اعتمد الأصحاب على أشياءَ:
منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} (127) الْآية. وظاهرٌ أنه لا دلالة في الآيةِ بوجهٍ على ما قَالُوهُ، لوجوه:
منها أنَّهُ المُطَلِّق عليه السلام لقوله: {وَأُسَرِّحْكُنَّ} لو أنهُ كان مطَلِّقا.
ومما تمسكوا به أيضًا أن إحدى نسائه اختارت نفْسَها فكانت البتَّة.
(126) هي موضوع الفرق الثامن والستين والمائة بين قاعدة التمليك وقاعدة التخيير
…
جـ 3. ص 175. وقد علق الشيخ ابن الشاط في أول هذا الفرق على ما جاء فيه عند القرافي، فقال:"أكثر ما قاله فيه حكايةً خلاف وتوجيه، ولا كلامَ في ذلك، وما قاله من أن مالكًا رضي الله عنه إنما بنَى علي عرف زمانه، هو الظاهر، وما قاله من لزوم تغيُّر الفتوى عند تغيُّر العرف - صحيح، والله أعلم".
(127)
وتمامُها، {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} ، {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} سورةالأحزاب، الآية 29.
قال اللخمي: وهو غير صحيح، بل الذي في الصحيح خلاف ذلك، وأن عائشة اختارت الله ورسوله، فَفَعَلَ سائر نسائه مثل ذلك (128)
ومنها أن هذا هُوَ المفهوم من هذا اللفظ عادة (129)، والْائمة المحالفون ينازعون في أن العادة ما ذكره الأصحاب.
قال شهاب الدين: والصحيح الذي يظهر لي أن الأئمة غيرَ مالك حملوا اللفظ على مقتضاه اللغوي، مالكٌ على عادة كانت في زمانه في بلده، وبهذا الاعتبار يظهر الفرق بين التخيير والتمليك.
غير أنه يقال: العادة تختلف، فلا ينبغي أن ياسمتمر الحكم ويكون واحدًا مع اختلافها، بل يختلف باختلافها، والله أعلم. انتهى ما علمتُه من القواعد في هذا الباب.
ولنذكر مسائل مشكلة وقعت في هذا الباب أيضًا ونذكر أجوبتها (130)
(128) عن عائشة رضي الله عنها قالت: لَمَا نزلت آية التخيير بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة، إنى عارضٌ عليك أمرا، فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تَعرضيه على أبويك: أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما. فقلت: يا رسول الله، وما هو؟ فقرأ عليها الآية السابقة، فقالت: إني أريد الله ورسوله والدارَ الآخرة، لا أؤامر في ذلك أبوَّى، فضَحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقرأ الحِجّر (أيْ عرض الأمر على بقية نسائِهِ وأخبرهن بما قالتْ عائشة فقلن: ونحن نقول مثل ما قالت عائشة. رضي الله عنهن جميعا. أنظر الروايات المحتلفة لهذا الحديث في تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله.
(129)
عبارة القرافي أوضحُ، وهي: وثالثها (أي الوجوه) أن المفهوم من هذا اللفظ عادةً إنما هو التخيير في الكون في العصمة أو مفارقِتها، هذا هو السابق للفهم من قول الرجل لزوجته:"خَيَّرتك، والائمة الثلاثة ينازعون في أن هذا هو المفهوم عادة".
(130)
هذه المسائل مع أجوبتها هي من إضافات الشيخ البقوري رحمه الله، ومن زياداته وإفاداته التي أضافها في بعض الموضوعات إلى أصل كتاب الفروق لشيخه شهاب الدين القرافي رحمه الله، وهي تدل على سَعة اطِّلاعه وعمق تمكنه فيما يتَّصل بالقواعد الفقهية، وما يتفرع عنها من نظائرَ مماثلة، ومسائلَ مشابهة وفروع وجزئيات، وغير ذلك مما يتصل بعلوم الشريعة عامة.
المسألة الأولى:
قال مالك: من نكح بعَبْدٍ مُطْلَق فنكاحه صحيح، (131)، ولها الوسط من العبيد، ومن نكح بثَوبٍ مطلق لم يصح وفُسِخَ قبل الدخول، فأشْكَلَ من حيث إن المَوْضعين فيهما الصداق غير متعين.
فالجواب أن العبيد لا يكاد يقع بينها الْتِباسٌ (132) في الاختلاف الشديد كوقوعه في غيره، فلهذا خففه مالك، وليس كذلك الثياب، لأن التباين فيها شديد، فلم يصحّ الاطلاق فيها.
المسألة الثانية:
قال الفقهاء: يصح النكاح بعبد مطلق، ولا يصح البيع بعبد مطلق، ولا الإجارة، فأشكلَ ذلك أيضا، إذ الكُلُّ عقودُ معاوضةٍ.
فالجواب أن عقد النكاح ليس المبتغَى منه العوضُ، والبيعُ المبتغَى منه العوض، فصح الإطلاق في النكاح ولم يصحَّ في البيع، وكذلك دخَل الخيار في البيع والاجارة، ولم يدخل في النكاح.
المسألة الثالثة:
إذا تزوج العبد بغير إذن سيده جاز النكاح إذا أجازه سَيِّدُه، وانفسخ إذا رَدَّهُ. فإن قال - لَمّا عَلِم -: لا أرْضى، ثم كُلِّم في ذلك فقال: رضِيتُ، ولم يُرِدْ بقوله الأول لا أرضَي، فسخ النِكاحِ، صَحَّ النكاحُ برضاه الثاني. ولذا باع رجُلٌ سلعة رَجُلٍ بغير أمره فإن البيع يصح إن أجازه ربّ السلعة وينفسخ إن ردّه. فإن قال - لما علِمَ - لا أرضَى، ثم كُلّم في ذلك، فقال: قد رضيت صحّ، سواء
(131) أي مَن جَعَل صداق زوجته عبدا مطلقا غير مقيَّد بصفات معينة، فنكاحه صحيح، كما سيتضح بيانه في العبارة الموالية.
(132)
كذا في نسخة ع وَفي نسختي ح، وت: التباين، وهذه الكلمة يظهر أنها أنسَبُ في المعني، ومنسجمة مع نفس الكلمة بعدها.
أراد بقوله الأول الفسخ أوْلًا، فلم كان هذا، والكلِّ عقدُ معاوضةٍ عقَدَه من ليس عقده بنافع، وهو مفتقِر في نفوذه إلى الغير؟ .
فالجواب أن البيع محمول من ربِّ السلعة الثاني على ابتداء عقْده، فلهذا صحَّ، يلتفت إلى الكلام الأول، وليس كذلك السيدُ، لأن العاقد هو العبد، ولا يُحمَلُ عقده الثاني على ابتداء عقد، فلهذا قلنا: إن أراد بالقول الأول فسخَ النكاح لم يصحَّ رضاه بعد ذلك، وذلك أن البيع أوسَعُ أمرًا في هذا المعنى من النكاح.
المسألة الرابعة
قال مالك: يصح عقد النكاح من غير ذكر مهر، ولا يصح عقد البيع إلا بذكر الثمن، فيقال: لم كان هذا، وكِلاهما عقدُ معاوضةٍ؟ .
فالجواب أن النكاح، المقصودُّ منه الألفة والوَصْلة دون المهر، فصح وإن لم يُذْكَر، والبيعُ، المقصودُ منه الثمنُ، لأنه مبني على المكايَسَة والمعايَنَة، فلم يَصِحَّ إلَّا بذكر الثمن، لأنه المقصود منه، فافترقا.
المسألة الخامسة:
يُفسخ نِكاح المرتد ولا يَرْتجِعُ وإنّ رجع إلى الإسلام، وإن أسلم الكافر ثبت على النكاح، فلِمَ كان هذا، وكلاهما إسلام من كُفْرٍ؟ .
فالجواب أن الرِّدة غُلِّظ في بابها ما لم يُغلَّظ في باب الكفر الأصلي، ألَا ترى أنه لا يُقر على ارتداده، بخلاف الكافر الأصلي
المسألة السادسة:
مالِكٌ يجوِّزُ (133) عَقْدَ الأبِ على نِصفِ صداقِ ابنته البِكر بعد الطلاق، ولا يُجَوِّز قبْلَ الطلاق، فلم ذلك وفي كلا الموضعين هُوَ عَفْوٌ عن صداق؟
(133) كذا في نسختي ع، وح، وفي نسخة ثالثة: ت: تجيز من الفعل أجاز، ومعناهما واحد،
فالجواب أن صنع الأب لا يَجُوزُ على (134) ابنته البِكر إلا إذا كان نظرًا لها، وإذا لم يكن نظرًا لها لم يَجُزْ. فقبْلَ الطلاق ليس بنظرٍ عفوُهُ عن الصداق، لأنه لا منفعة لابنته في ذلك، وبَعْد الطلاق هو نظرٌ، لأنّ فيه منفعةَ البنت، وذلك أن يكون داعيا لرغبة الأزواج بها (135) بِحُسْنِ الأحدوثة عنها بوضع الصداق عن الزوج.
المسألة السابعة:
إذا تزوج المرأةَ على خمر أو خنزير فُسِخ النكاح قبل الدخول، وإذا خالعها بذلك مضى الخلع وردِّ ما أَخذ، فلم كان ذلك وفي كلا الموضعين هو عقدٌّ؟ .
فالجواب أن الخلع طلاق لا يفتقر إلى عوض، لأن خروج البُضعِ عن مِلك الزوج لم يَفسد بفساد العوض، وليس كذلك عقد النكاح لأنه يفتقر إلى العوض، والخمر والخنزير ليس بعوض فلم يصحَّ العقد. وأيضا فإنَّ الخلع طلاق، والطلاق لا يمكن دفعه بعد وقوعه، وعقد النكاح يمكن دفعه بعد وقوعه، فافترقا.
المسألة الثامنة:
إذا غَرَّتْ المرأةُ ترَكَ لها ربعَ دينار إذا كان دخَل بها، وإن يي الغَارُّ الوليَّ رجع عليه بجميع الصداق، فيقال: ولِمَ، وفي كلا الموضعين كلّ واحدٍ منهما غارٌّ في النكاح.
(134) كذا في نسختي ع، ح وفي نسخة ت: عن ابنته.
(135)
كذا في نسختي ع، وح. وفي نسخة ت: فيها: ومعلوم أن حروفَ الجر ينوب بعضها عن بعض ويقوم مقامه إذا صح المعنى، ولم يؤد إلى وضع حرف الجر في غير موضعه، والخروج عن قواعد اللغة وأسلوب الاستعمال، إذ من المعروف كذلك والمسلَّمِ به لغة وقاعدةً، أن بعض الحروف يصح استعمالها مع فعل ولا يصحُّ استعمالها مع فعل آخر، تمشِّيا مع لغة القرآن والحديث النبوي الشريف والنطق العربي السليم الفصيح. فلينتبه لذلك، فإنه تقع الغفلة عنه أحيانا في بعض التعابير والاساليب المستعملة حديثا في الكتابات الحديثة والمعاصرة.
فالجواب أن المرأة إذا كانت هي الغَارَّةَ فلابُدّ من ترك شيء لها من الصداق، لئلا يَعْرى البُضْعُ عن عوض، وليس كذلك الولي، لأن في الرجوع عليه بالصداق لم يَعْرَ البُضع عن عوضٍ، لأنه لا يرجع على المرأة بذلك، فافترقا.
المسألة التاسعة:
قال مالك: تُصْرَفُ كنايةُ الظِهار إلى الطلاق، ولا تُصرَف كناية الطلاق إلى الظهار، فلم ذلك وكلاهما كِناية؟
فالجواب أن الطلاق يفيد معني لا يفيده الظِهار، وذلك أنه يقطع العصمة، فكانت رتبتُه أرفع من رتبة الظهار، فلم يصح أن تنصرف كنايته إلى الظهار، لأنه دونه في الرتبة، وصحّ انصراف كناية الظهار إلى الطلاق، لأنه انصراف إلى ما هو أعْلى من رتبته.
فإن قيل: هذا المعني موجود في صريحه، ومع ذلك لا يَنْصرف إلى الطلاق.
قيل له: المعتَبر في الصريح اللفظ، واللفظُ لا يصح صرْفُهُ إلى غير ما وضع له إلا على طريق المجاز. والكِناية، المعتبرُ فيها معناها دون لفظها، والمعاني يصح نقلها إذا كانت فائدتها موجودة فيما نُقلت إليه، ولهذا لا تُصْرَف كناية الطلاق إلى الظهار، لأن المعني غير موجود فيه.
المسألة العاشرة:
إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي كظهر أمّي لزمه الظهار، وإذا قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق لم يلزمه ذلك وكان له أن يتزوج، فيقال: لِمَ ذلك والجميع مانع للوطء؟
فالجواب أن الطلاق لا يمكنه إسقاطه عن نفسه فلم يلزمه، لأنه يؤدي إلى منع الاستباحة وإلى الزنى الممنوع منه، الذي أباحَ اللهُ نكاح الإِماء لأجله،
والظهار يمكنه إسقاطه في نفسه بالكفارة ويصل إلى الاستباحة، فافترَقا. (136)
المسألة الحادية عشرة:
مالكٌ: إذا ظاهَرَ من أجنبية (137) لم يلزمه إلا بشرط التزوج، وإذا آلى منها لزمه الإيلاء متى تزوَّجَها، (138) وكلاهما يمنع الوطء، فلم كان ذلك؟
فالجواب أن حقيقة الظهار تشبيهُ محَلَّل بمُحَرَّم، وهذا المعني لا يوجد في الأجنبية لأنها محرَّمة، فيحصل تشبيه مُحرَّمة بمحرَّمة، وذلك غير ما وُضع له الظهار فلم يَلزمْ، وليس كذللك الإيلاء، لأنه يمين على ترك وطء، وهذا المعنى موجود في الاجنبية كوجوده في الزوجة، فافترقا.
(136) وأحكام الظهار وكفاراته جاء ذكرها في أول سورة المجادلة، إبتداء من قول الله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} . كما جاء ذكرها في أحاديث نبوية.
(137)
اصطلاح المرأة الاجنبية في الفقه يعني كلَّ امرأة مسلمة ليست ذات محْرَم من محارم الانسان ولا ذاتَ قرابة من قرابته ولا صلة تجمعها به سِوى أخُوَّة الإسلام والإِيمان، ويجوز للانسان التزوجُ بها شرعًا، فهي بذلك المعنى أجنبية عنه، ويحرم عليه الاختلاءُ والاتصال والاستمتاع بها إلا بعد عقد شرعي مُستَجْمِع لشروط العقد الصحيح، وَمُسْتوفٍ أركانَه الاساسية كلها في الإسلام.
(138)
الإيلاء هو الحلف من الزوج على عدم مباشرة زوجته مدة، وهذه المدة إن كانت أقلَّ من أربعة أشهر فله أن ينتظر انقضاء المدة، وعلى الزوجة الصبرُ لحين انتهائها، وإن كانت أكثرَ من أربعة أشهر، فللزوجة مطالَبَةُ الزوج عند انقضاء أربعة أشهر بالفَئ (ايْ العودة إلى علاقة زوجته ومعاشرتها الزوجية) أو الطلاق، فيجبره القاضي على ذلك حتى لا يضرَّ بالزوجة مَضرة غَيْرَ محتملة، وهذا ما أقرته مدونة الاحوال الشخصية المغربية في فصلها 28، المتعلق بالتطليق للايلاء أو الهجر حيث جاء في هذا الفصل ما نصه:
"إذا آلى الزوج أو حلَف على هجْر زوجته وترك المسيس جاز للزوجة أن ترفع أمرها إلى القاضي الذي يؤجله أربعة أشهر، فإن لم يَفِىْ بعد الاجل طلقها عليه، وهذا الطلاق رجعي". وقد جاء ذكر الإيلاء وأحكامه في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . سورة البقرة، الآية 226. قال عنها القاضي أبو بكر ابن العربي المعَافري رحمه الله في كتابه أحكام القرآن:"هي آية عظيمة الموقع جدًا، يترتب عليها حكم كبير، اختلاف فيه الصحابة والتابعون وفقهاء الامصار، ودَقَّتْ مَدَاركها حسب ما ترونها من جملتها إن شاء الله".
المسألة الثانية عشرة:
يُجْبَرُ المطلق في الحيض على الرجعة ولا يُجْبَرُ المطلق في الطُّهْر الذي مَسَّ فيه على الرجعة، وكِلا الطلاقيْن ممنوع منه، فلِمَ ذلك؟
فالجواب أن المطلق في الحيض أدخلَ الضرر على المرأة، لأنه طوّل عليها العدة فعُوقب بالارتجاع، وهذا المعنى غير موجود في الطلاق في الطُّهر الذي مَسَّ فيه، لأنه لم يطوّل بِه عدةً عليها، إذْ تعتدُّ به قُرءا كاملا (138 م).
المسألة الثالثة عشرة.
قال ابن عبد الحكم: إذا قال لامرأته: كل امرأة أتزوجُها عليك فهي عليّ كظهر أمّي فعليه كفارة واحدة. وإذا قال: كل امرأة أتزوجها عليك فالمرأة التي أتزوجها عليك كظهر أمي، فكلما تزوج امرأة فعليه كفارة، وفي كلا الموضعين فقد علَّق الظِهار بالتزوج، فلِمَ وقع الفرق؟
فالجواب أنه إذا قال: كلُّ امرأة أتزوجها عليك، فقد جمع بينهن في الظِهار، فهو كما لو قال لنسوة: أنتُنَّ عليَّ كظهر أمي، فليس عليه إلا كفارةٌ واحدةٌ، لإشراكه بينهن في الظهار، وليس كذلك إذا قال: فالمرأة التي أتزوج عليك، لأنه أفرد كل واحدةٍ في الظهار ولم يُرِدُّ الاشتراك، فيكون بمنزلة من قال لأربع نسوة: أنتِ علي كظهر أمي، وأنت علي كظهر أمي، حتى أتى على آخرهن، فإن عليه أربعَ كفارتٍ، لأنه أفْرَدَ كل واحدة منهن بالظهار، ولم يُشْرِكْ بينهن كما تقدم، فافترقا.
(138 م) ومن المعلوم أن الطلاق السُّنِّي هو الذي يكون في طهر لم يقع المسيس فيه، ولا يكون متبوعا بطلقة ثانية - على فرض وقوعها - حتى تنقضي عدة المرأة من الطلقة الأولى.
وسمي سُنِّيًا باعتباره مستجمعا للشروط المذكورة المطلوبة فيه، في مقابلة الطلاق البدعي الذي يقع فيه إخلال ببعض تلك الشروط، إذ من المعلوم - كما جاء في الحديث - أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، حيث يدعو الإسلام إلى حسن المعاشرة بين الزوجين، وبُرَغب في ذلك ويحث عليه، ويحض على الحفاظ على تماسُكِ الأسرة وبقائها مجتمعةً سعيدة ملتئمة الشمل والكلمة، وعلى تربية الأولاد تربية حسنةً ورعايتهم رعاية كاملة ..
المسألة الرابعة عشرة.
إذا طلَّق الرجُلُ امرأتَه، فأنفَقَتْ من ماله قبل علمها بالطلاق لم تُتَّبَعْ بما أنفقتْ، ولو أنفقتْ بعد موته وهي لا تَعلم بموت اتُّبِعَتْ بالنفقة، وفي كلا الموضعين هي نفقة بعدَ زوال العصمة عنها، فلِم الفرق في الجواب؟
فالجواب أن في الطلاق التفريطَ منسوب إلى الزوج، فلذلك لم تُتَّبَعْ بما أنفقتْ، لأنه كأنه أذِن لها في ذلك ورضي به، وليس كذلك في الموتِ، لأنه غير مُفِرّط، ولأن النفقة بعد الموت من مال الوارث، والزوجة لا تستحق نفقة على الورثة، فَقَدْ كانتْ متعدية بما أنفقت، فلزمها الضمان، والجهْل لا يُسْقِط ذلك عنْها، لأن التعدي على مالِ الغير يَستوى فيه الجهْلُ والعمد.
المسألة الخامسةَ عشرةَ:
إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهى طالق لم يلزمه طلاق وكان له أن يتزوج، وإذا قال: كُلُّ امرأة أتزوجها فأمرُها بيدها لزمه ذلك، وفي كِلا الموضعين طلاق، فلمَ كان هذا؟
فالجواب أن في الطلاق قدْ سَدَّ بابَ الإِباحة، فلم يلزمه، ليس كذلك في التمليك، لأنه لم يَسُدَّ على نفسه باب الإِباحة، لجواز أن تَختاره المرأة على الطلاق دون الاخرى، فافترقا.
المسألةُ السادسةَ عشرةَ:
قال الفقهاء: العِدة في الوفَاة قبل الاسْتِبراء، وفي الطلاق بَعدهُ، فلِمَ كان ذلك، وكِلاهما عِدَّةٌ؟
فالجواب أن العِدة في الطلاق أقْرَآءٌ، والشهورُ بدلٌ منها، ولا يصح الانتقال إلى الأبْدَال إلا عدم مبْدَلاتها، ولا يقدَّمُ البدَلُ في العِدّة (139) وهو الأقراء، إلا بعد
(139) كذا في نسخة ع، وفي ت:"ولا يِعْدَمُ البَدَل من العدة"، وفي ح: ولا يقدَّم البدَلُ في العدة، وهو الأقْراء، ولعلَّ ما في نسخة ع أظهرُ وأنسَبُ، فلْيُتأمَّل وليْصُحَّحْ.
الاستبراء، لأنه بذلك يُعلَم أنها من أهل الشهور، والعِدة في الوفاة مُرُورُ زمان، وذلك غيرُ موقوف على شيء متوقَّع، ولأن العِدة في الوفاة، المقصودُ منها الشهورُ، والعدة في الطلاق، المقصود منها الاستبراء.
المسألة السابعة عشرة:
إذا قال لامرأته: أنتِ طالق ثلاثا، وأنت عليَّ كظهر أمِّي فلا ظهار عليه، وإذا قال: أنتِ على كظهر أُمي، وأنتِ طالق ثلاثا. فعليه الظِّهار إذا عادت إليه، والجميع ظهارٌ وجِدَ مع طلاق.
فالجوابُ أن الظِهَار لا يصح ولا يتوجَّه إلا بوجود حقيقته، وحقيقَتُهُ تشبِيهُ محلَّل بمحرَّم، ولا يلزم في الأجنبية، لأن معناه لا يوجدُ فيها، وإذا قال لامرأته: أنتِ طالق ثلاثا صارتْ أجنبية منه، فلا فرقَ بين ظهاره منها وبيْن غيْرها، فلم يتوجه حينئذ ظهار. وإذا قال: أنتِ عليَّ كظهر أمى فقد أوقَعَ الظهار وهي زوجة، فلزمه ذلك، فإذا حَدَثَ بعده طلاق لم يزُل بهِ ما قدْ ترتب عليه، فافترقا.
المسألةَ الثامنةَ عشْرةَ.
إذا قال المطلق الرجعي لِامرأته: إذا كانَ غدٌ فقد راجعتُك لم يكن رِجْعَةً، وإذا قال: قد كنتُ راجعتكِ بالأمس كان ذلك رِجعة، وفي كلا الموضعين هو إخبار عن رجعة:
فالجواب: إذا علَّق المراجعة بوقت ياتي فقد صار وعْداً، والوعدُ في النكاح لا يجوز، والرجعة نكاحٌ، فإذا أَخبر عن وقت قد مضى فليْسَ بوعد، وإنما هو إخبار عن مراجعة قدْ حدثَت له في العدِّة، فكأنه قال: قد راجعتُك في الحال.
المسألة التاسعَةَ عشْرَةَ:
إذا قال: قد راجعتُكِ فقالت: قد انقضتْ عدتي صُدِّقَتْ في الحال، فإنْ كان بعد ذلك قالتْ هذا، نُظِر إلى المُدة، فإن كان مثلها تنقضي فيها العدة
صُدِّقتْ، وإن كانتْ لا تنقضي في مثلها لَمْ تصَدَّق، وفي كلا الموضعَيْن هي مُدَّعِيَّة لانقضاء العدة.
فالجواب أنَها إذا كانت في الحالِ لم تُتَّهَمْ على كراهيةِ نكاحه، فلهذا نُظِر إلى ما تَدَّعيه، وإيس كذلك إذا أجابتْ بعد مدة مضَت من كلامه، لأنها تتَّهمُ على نكاحه أنها كارهة له، فلهذا لم يُنظَر إلى قَوْلها. وفرق ابن القاسم بينهما، بأنْ قال: إنَّ في السكوت قد ثبتتْ الرجعة فلم يُقبل قولها في بطلانها، وفي الأَولى لم تَثْبُتْ، فقُبِلَ قوُلهَا.
المسألة العشرون:
إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، إلا من قبيلة كذا ومن بني فلان، أو مِن قريَةٍ بعينها لزمه ذإك، إلا أن يكون المعَيَّنُ من القرية أو القبيلةِ ليس فيها ما (139 م) يَتزوج، لصغَر القرية وقِلّة القبيلة، فلا يلزمه اليمين. وإذا قال: كل امرأة أتزوجها من قبيلة كذا أوْ من قريةِ كذا لزمه اليمين، سواء كانتْ القبيلة قليلةً أو لم تكن، وكذلك القرية، وفي كلا الموضعين اليمين معلَّقة بهما،
فالجواب أن يمينه إذا كانت تَسُد على نفسه بابَ الإِباحة سقطتْ ولم تلزَمْ، وكان كمن عَمَّ النساءَ كلَّهن، وإذا لم تكن يمينه تسُدُّ على نفسه بابَ الإِباحة لزِمتْه، وفي الأول (140) قد وُجد السد فلم تلزمه، وفي الثانية لم يُوجد فلزمتْه اليمين.
(139 م) لعل صوابه مَن، إذ القاعدة أن من تُستعمل للعاقل، وما لغيره، والمعنى المراد أنه ليس في القرية والقبيلة التي عينها بالاستثناء مَن يتزوجها من النساء، لصغر القبيلة أو القرية.
(140)
أي وفي القول الأول، فالموصوف هو القول المفهوم من قوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق إلا مِنْ قبيلة كذا لزمه اليمين
…
الخ
المسألة الحادية والعشرون:
إذا حلَفَ لَيضربَن عبده لأجَلٍ سمّاه فَعَتَقَهُ، فادّعى ضربَه عند حلول الأجل، فأكذبَهُ العبدُ، فالقول قول السيد، وإذا حلف بالطلاق لَيَقضِينّ فلاناً حقَّه لأجلٍ سمّاه، فادعى عند حلول الأجَل القضاء، فأكذبه ربّ الحقِّ، لم يُقبَل قول الحالف، وفي كِلا الموضعين هُو مدّعٍ لإِسقاط اليمين مع كون الحق تعلَّقَ بغيره، أعني الطلاق والعتق.
فالجواب أن العادة جارية بأن السيد يضرب عبده أيَّ وقت شاء من غير إشهاد، فإذا ادّعى فِعله قُبِلَ قولُه، ولأنه بمنزلةِ أن يدعي العبدُ عليه العِتْقَ وينكر السيدُ، فالقول قول السيد، وليس كذلك قضاءُ الحق، لأن العادة جارية بالإِشهاد، ألا ترى أنّ مَنْ أمَرَ رجُلاً أن يدفع مالاً إلى رجل فادّعى إيصالَه فأنكره المبعوثُ إليه فعَلى الدافع البينةُ وإلّا ضَمِنَ.
المسألة الثانية والعشرون:
إِذا راجع المخالِعُ ثم طلَّق قبل أن يمَس، فإنَّها تبني على عدتها الأولى، وإذا راجعَ من له الرَّجعة ثم طلق قبل أن يمس، فإنها تستأنِف العدة، وفي كلا الموضعين قد وجد، الطلاق قبل الدخول.
فالجواب أن المخالِعُ يتزوج تزويجا (141) مبتدَأً ويطَلِّق قبل الدخول، فأشبه غيره لو تزوج قبل الدخول، فإنها تبني على عِدتها الأولى، ليس كذلك المرتجِع، لأن الرجعة ليستْ بنكاح مبتدأ، لأن أحكام الزوجية باقية بينهما، فلهذا استانفت العدة.
(141) كذا في جميع النسخ الثلاث المعتمدة في التحقيق والتصحيح، ومقتضى التناسب بين الفعل ومصدره أن يقال: يتزوج تزوجا، ولعله نظر إلى فعل الزوج وهو التزوج، وفعْل ولِيّ المرأة وهو التزويج، فجمع بينهما في العبارة والصيغة بِالفعل والْمصْدر المناسبة لكل منهما، والله أعلم.
المسألة الثالثة والعشرون:
قال ابنُ القاسم: عدة المريضة سَنةٌ، وعدةُ المرضِع ثلاث حِيَض، وفي كلا الموضعَيْن قدْ وُجِد المانع من الحيض.
فالجواب أن المانع في الرضاع يمكن دفعه بإزالة الوَلد عنها، فلهذا لم يكن بد من الحيض، لأن الأشهر إنما هي بَدل عن الحيض، ولا تنتقل إليها إلا مع عَدَمِه، وليْسَ كذلك المَرض، لأنه لا يمكن دفعُه، فانتقلت إلى الأشهر.
المسألة الرابعة والعشرون:
يصح شراء الأمة المعتدة، ولا يصحُّ عقد النكاح عليها، وفي كِلا الموضعَيْن فهو عقدُ معاوَضةٍ.
فالجواب أن المقصود من عقد النكاح الاستمتاع بالوطء، والاستمتاعُ ممنوع منه في العِدة، فلا يصِحُّ فيه عقد النكاح كما قلنا في المُحْرِمة: إنه لا يجوز العقد عليها ما كانت مُحْرِمَة (142)، لأن المقصود من العقد الاستمتاع، والاستمتاع ممنوع في حال الإحرام، ليسَ كذلك في الشراء، لأن البيع، المقصودُ منه المِلكُ، والمِلك يتضمن الانتِفاع بوجوه المنافِعِ كلِها، والاستمتاع داخِل فيها على سبيل التبَع لأنه هو المقصود، ألا ترى أنه يَصِح مِلك من لا يجوز له وطؤها مثْل أختهِ من الرضاعة وخالتِه وعمته من النسَب، وإن كان النكاح منفعة، ولا يصح عقد النكاح عليهن، ولأنَّ التزويج إنما مُنِع منه في العدة لأجْلِ فساد الأنساب، ولأنه لمّا جَاز بيْعُ الْأمة قبل أن يستَبْرِئها السَّيدُ من وطئه جازَ أن تُبَاع الأمَةُ من الزوج،
(142) أي مدة كونها محْرِمة، فما ظرفية مصدرية، على حد قوله تعالى في شأن عيسى ابن مريم عليه السلام مع أمه مريم:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} . سوة مريم، آية: 30 - 34.
وإنَّما لم يَجُزْ أن يعْقِد عليها عقدَ النكاح في العِدة غيرُ الزوج، لأن العدة في حق الأزواج كالاستبراءِ في حق السيد.
المسألة الخامسة والعشرون:
يجب الإِحْدَاد على الأمَةِ المتوفَّى عنها زوجُها وعلى الحُرّة، هُمَا فيه سواءٌ، وعِدَّة الْأمَةِ نصْف عدةِ الحرة، فلِمَ سُوِّى بينهما في الإِحداد، وفُرِّق بينهما في العِدّة، والكل يجب على الزوج؟
فالجواب أن الإِحداد إنما هو الامتناع عن الطِّيب وَلَبْسِ المصْبَغات، وهَذا المعنى تستوي المدة الطويلة والقصيرة فيه، كما الأمرُ في الإِحرام، لمَّا مَنَع من الطيب إستوى في ذلك طويل الإِحرام وذلك الحجُّ، وقصيرُهُ وذلك العمرة، والعِدَّة في معاني الحدود، فلَمَّا تَنَصَّفتْ الحدودُ تنصفتْ العِدَدُ. (143)
(143) فمن الاحكام الشرعية المعروفة في باب الجنايات أن الحدود تكون في العبد وتقام عليه بنصف ما وجب على الحر، فيُحَدُّ العبد في القذف للغير، وفي شرب الخمر، أربعين سوطا أو جلدة بدَل ثمانين بالنسبة للحر، ويُحَدُّ خمسين جلدةً في ثبوت الزنى عليه، بدَلَ مائة جلدة وتغريب سنة، بالنسبة للحر، وقد جآء حَدُّ الزِنَى في قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
…
} سورة النور الآية 2