الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس". قال صاحب المنتهي (218): يَحتمل أن يكون معناه إن كان الناس يعتقدون الشؤمَ فإنما يعتقدونه في هذه الثلاث، أو إن كان الشؤم واقعاً في نفس الامر ففي هذه الثلاث، وقد قال عليه السلام: "لا عدْوَى ولا هامَ ولا صَفَر، ولا يَحُلَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ، ولْيَحُلَّ المُصِحُّ حيث شاء.
فلا عدوى، معناه لا يتضرر مريض بمريض. وكانت العرب تقول: إذا وقعت هامةٌ على بيت خرجَ منه ميت، وقيل: معناه إن العرب كانت تقول: إذا قُتِل أحَدٌ خرج من رأسه طائر لا يزال يقول: إسقُوني إسقوني حتى يُقتَلَ قاتِلُهُ، ولا صَفَرَ، هو الشهر الذي كانت الجاهلية تحَرِّمُ فيه صفر لتبيح المحرَّم. وقيل: كانت الجاهلية تقول: هو داء في الجوف يقتُلُ. والممْرِض على المصح، قيل: معناه لا يَحُلُّ المجذوم على الصحيح وان كان لا يُعْدي، فالنفس تكرهه، فهو من باب إزالة الضرر لا من العدوى، وقيل: هو ناسخ لقوله عليه السلام "لا عدْوى".
القاعدة التاسعة عشرة
في الرؤيا التي تُعْبَرُ من التي لا تُعْبر
. (219)
= ومن معاني الشؤم ومَدْلوله في الفَرَسَ، جُمُوحها وعدَمُ انقيادها. ومن معاني الشؤم في المرأة سوء خُلُقها أو عُقْمُها، وفي الدار ما قد تكون عليه من ضيق مرافِقِها ومساكنها، وما يصيب الانسان فيها من ثر أو سوء حالٍ عند حلوله بها وسكناه فيها. فقد روى أبو داود بسند صالح أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال. يا ربسول الله، إنا كنا في دار كثيرٍ فيها عدَدُنا، كثير فيها أموالُنا، فتحولْنَا إلى دار أخرى، فقل فيها عدَدُنا، وقلَّت فيها أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذَروها ذَميمة" أي اتركوها حال كونها مذمومة. فهذا الحديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أظهر له هذا الرجل تشاؤُمَهُ مع أهله من الدار، أمرهم بالتحول منها ليخلصوا من التشاؤم وليسْلموا من سوء الظن بالله، فإنما الشؤم عند التشاؤم.
(219)
هي موضوع الفرق الثامن والستين والمائتين بين قاعدة الرؤيا التي يجوز تعبيرها، وقاعدة التي لا يجوز تعبيرها". جـ 4. ص 217.
وهو من الفروق الطويلة كثيراً عند الامام القرافي، ومع ذلك لم يعلق عليه بشيء، الشيخ ابن الشاط رحمه الله، بل جعله مشمولا بما قاله في آخر تعليقٍ على الفرق الثالث والستين والمائتين حيث قال: جميع ما قاله القرافي في الفرق بعده - وهو الرابع والستون والمائتان إلى آخر الفرق الحادي والسبعين والمائتين صحيح) أو نَقْلٌ لا كلام فيه.
قال صاحب القبَس: (220) تقؤل: رأيته رؤية إذا عاينتَه ببصرك، ورأيت رأياً إذا اعتقدت بقلبك، ورأيت رؤْيا بالقَصْر إذا عاينتَ في منامك. قال الكِرماني في كتابه الكبير: الرؤيا ثمانية أقسام: سبعة منها لا تُعَبَّرُ، وواحدة فقط هي التي تعبَّرُ.
فأربعة نشأت عن الأخلاط الأربعة، فمن غلب عليه الصفراءُ رأى ما يناشها، وكذا في بقية الأخلاط. (221)
القسم الخامس حديث النفس، ويُعْلم ذلك بكثرة الفكر فيه في اليقظة.
القسم السادس من الشيطان، ويُعرَفُ بأن يكون فيه حثٌّ على ما تكرهه الشريعة وتُنكره ولَوْ بالمآل.
والقسم السابع ما كان فيه احتلام.
والقسم الثامن ما خرج عن هذه، وهو من ملك الرؤيا من اللوح المحفوظ. (222)
(220) صاحب القبَس، هو محمد بن عبد الله بن محمد، أبو بكر المعروف بابن المعروف المعَافري، حافظ متبحر في العلوم الاسلامية، وفقيه متضلّع من ائمة المالكية وأعلام فقهائها. (468 هـ - 543 هـ) سبقت الاشارة اليه افي الجزء الأول، لأنه ذكر بوصفه ونسبةِ هذا الكتاب اليه.
والقبسَ اسم لشرحه على موطأ الامام مالك رحمه الله، وهو كتاب طبع مؤخرا، وصار متداولا بين العلماء للرجوع اليه والاستفادة منه. فرحم الله علماءنا الأبرار، وألحقنا بهم مسلمين، آمين.
(221)
الأخلاط الباقية هي: السوداء، والدم، والبلغم، فمن غلب عليه السوداء رأى الألوان السُّود، والأشياء المحرقة، والطموم الحامضة، لأنه طعم السوداء، ومن غلبت عليه الصفراء رأى الألوان الصُّفرْ، والطعوم المُرَّة، والسموم والحرور والصواعق ونحو ذلك، ومن غلب عليه الدم يري الألوانَ الحُمْر والموم الحلوة، وأنواع الطرب، لأن الدم مُفْرح حلو، والصفراء مسخنة مُرَّة، ومن غلب عليه البلغم رأى الالوان البيض، والأمطار والمياه والثلج.
(222)
عبارة القرافي: القسم الثامن هو الذي يجوز تعبيره، وهو ما خرجَ عني هذه (الاقسام السابقة)، وهو ما ينقله مَلَكُ الرؤيا من اللوح المحفوظ، فإن الله عز وجل وكل ملْكاً باللوح المحفوظ، ينقل لكل أحد ما يتعلق به من اللوح المحفوظ، من أمْرِ الدنيا والآخرة، من خير أو شر، لا شرك من ذلك شيئا، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَهُ مَنْ جَهِله، وذكَره من ذكَره، ونَسِيَه مَن نَسِيه، وهذا هو الذي يجوز تعبيره، وما عداه لا يعبَّر، وفي الفرق سبع مسائل. =
وهنا سبع مسائل:
المسألة الأولى. قال صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، (223)، فهل هذا التقسيمُ من حيث إنه صلى الله عليه وسلم بقي ثلاثا
= قلت: يقال عَبَرَ الرؤيا بالتخفيف يعْبُرُها من باب نصر ينصر، إذا فسرها وأوَّلها، ويقال: عَبَّر الرؤيا بتشديد الباء فيها يُعَبرها، ومن التعبير بالتخفيف قول الله تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} . سورة يوسف الآيات 43 - 49.
(223)
أخرجه الإِمام مالك في الموطأ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك الذي رواه أنس، قال الزرقاني شارح الموطأ: والحديث متواتر جاء عن جمع من الصحابة.
ومن ذلك، الحديثُ المرسَلُ في الموطأ عن زيد بن أسلمَ عن عطاء بن يسَار، والذي وصَلَه البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لن يبقى بعدي من النبوة إلا المبشِّرات، فقالوا: وما المبشرات يا رسولَ الله؟ قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل الصالح أو تُرَى له، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. قال الزرقاني: مجازا لا حقيقة، لان النبوة انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم، وجزء "النبوة لا يكون نبوة كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة. نعم، إن وقعت منه صلى الله عليه وسلم فهى جزء من أجزاء النبوة حقيقة. وقيل: إنْ وقعت من غيره فهي جزء من عِلْم النبوة، لأنها وان انقطعت فعلْمها باق.
وتُعُقّب بقول مالك كما حكاه ابن عبد البر حين سئل: يُعَبّر الرؤيا كلُّ أحد؟ ، فقال: أبا النبوة يُلعَبُ؟ ! ، ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة.
وأجيبَ بأنه لم يُرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يُتكلمَ فها بلا عِلم، فليس المراد أنها نُبُوة من جهة الاطلاع، لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة، وجزء الشي لا يستلزم ثبوتَ وصفه له، كمن قال: أشهد ان لا الاه إلا الله، رافعاً بها صوته لا يُسَمى مؤذِنا. قال أبو عمر: مفهومه أنها من غير الصاع لا يُقْطَعُ بأنها كذلك، ويَحتمل أنه خرَجَ على جواب سائل فلا مفهوم له. ويؤيده قوله في مرسل عطاءٍ السابق الذكر، "يراها الرجل الصالح أو تُرَى له، فعمَّ قولُه يرَى، الصالحَ وغيرَه.
وعشرين سنة ينزل الوحي إلَيْه فيها، ومن جملتها ستة أشهر، ما كان ياتيه فيهاللا النوم، فكان يَرَى الرؤيا فتخْرُجُ كفلَقِ الصبح، (224) ورَدَّ ابن العربي هذا وقال:
يَرِدُ على هذا القول الاختلاف في العدد، فجاء سبعون، وجاء أقل من ستة وأَربعين، وجاء خمس وستون، وغيرُه هذا، وارتضَى القاضي أبو بكر ما قاله الطَّبري من أن التجربة هي بحسب اختلاف الرائين ومقاماتهم. وكَرِه مالكٌ أن يعْبُرَ الرؤيا من لا عِلْمَ له بها وقال: أيتلَاعب بالنبوة؟ ! لَمَّا قيل له: الرجلُ يَعلَم فيها الشر فيفسرها بالخير. وفي الموطأ: "الرؤيا الصالحة من الله، والحُلْمُ من الشيطان، فإذا رأى أحدُكم الشر فلينفِثْ عن يساره ثلاثَ مرات إذا استيقظ، ولْيتعوذْ بالله من شرها فإنها ليست تضره إن شاء الله". قال الباجي: يحتمل أن يريد بالصالحة المبَشِرةَ، ويحتمل الصادقةَ من الله، ويريد بالحُلْم ما يُحْزِن، ويحتمل أن يريد به الكاذب.
قال ابن وهب: يقول في الاستعاذة إذا نَفَثَ عن يساره: أعوذ بمن استعاذت به ملائكة الله ورسلُه من شر ما رأيتُ في منامي هذا أن يصيبني منه شيء أكرَهه، ثم يتحول على جانبه الآخَر.
قال الشيخ أبو الوليد في المقدِّمات: الفرق بين رؤيا الانبياء وغيرهم أن رؤيا غيرهم إذا أخطأ في تَاويلها تَخْرج كما أُوّلَتْ، (225) بخلاف رؤيا الانبياء.
(224) إشارة إلى حديث بدْء نزول الوحي، وهو ما رُوي عن عائشة أم المومنين رضي الله عنها قالت: أؤلُ ما بُدِى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا الا جآت مِثَل فلَق الصبح
…
إلى آخر هذا الحديث الطويل، رواه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله.
ومما جاء في موضوع الرؤيا مارواه البخاري، عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأى أحدم رؤيا يُحِبُّها فإنها هي من الله، فلْيَحْمَدْ الله ولْيتحدَّث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يَكرَه، فإنما هي من الشيطان، فليستعِذ من شرها ولا يذْكرْها لأحد، فإنها لا تضُرُّه". اهـ.
(225)
كذا بِالإِثباتِ في جميع النسخ الثلاث العتمَدَة في التحقيق والتصحيح. وعبارة القرافي أن رؤيا غيرهم إذا اخطأ في تاويلها لا تخرج كما أولتْ، فالعبارة عنده بالنفي، ثم قال: ورؤيا غير الصالح لا يقال فيها جزء من النبوة، وإنما يُلْهِمُ الله تعالى الرائي التعوذ إذا كانت من الشيطان، أو قَدَّر أنها لا تصيبه، وإن كانت من الله تعالى فإن شر القدر قد يكون وقوعه موقوفا على عدم الدعاء. =
المسألة الثانية. المعتزلة تقول في الرؤيا: هي تخاييل لا حقيقةَ لها، وأصحابنا لهم ثلاثة أقوال:
قال القاضي (226): هي خواطر واعتقادات، وقال الاستاذ أبو اسحاق: هي إدراك بأجزاءَ لم تحلَّها آفة النوم، وقيل: هي إدراك روحاني، وما يُرى من الصور فهي أمثلة تُضرَب له على ذلك. (227)
= وعبارة أبي الوليد بن رشد من أولها في كتابه المقدمات، هي كما يلي:
والمعنَى في ذلك أن الرؤيا الصالحة، وهي الحسنة التي تبشر بالخير في الدنيا أو في الاخرة، لا مدخل فيها للشيطان، وهي من الله عز وجل، ومن ستة وأربعين جزءا إذا رآها الرجل الصالح، والعنى في هذه التجزئة أن ما يصاب في تأويله، من هذه الرؤيا التي على هذه الصفة المايهورة في الحديث، فَتَخْرُجُ على ما تُعَبَّرُ به، فما يُخْطَأ في تأويله فلا يخرج على ما يعبَّرُ، يكون جزءاً من خمسة أو ستة وأربعين أو سبعين جزءا، إذْ لو خرجت كلها على ما تعَبَّرُ لكانت كالنبوة في الإِخبار بالمغيَّبات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لَن يبقى من بَعْدِي إلا المُبَشِّرَاتُ، وهئ الرؤيا الصالحة، كما سبَق ذكرُه، فالُّرؤيا البشِرة من الله جزء من الأجزاء المذكورة في الحديث إن كانت من الرجل الصالح، وإن لم تكن من الرجل الصالح فلا يقال فيها، وَإنْ كانت من الله تعالى، : إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة ولا من ستة وأربعين ولا من سبعين.
(226)
الظاهر أن المراد به القاضي أبو بكر، محمد بن الطيب الباقلَّاني من علماء القرن الرابع الهجري، نسبة إلى بيع الباقلاء، وهي الفول، ويعرف بابن الباقلاني، وبالقاضي أبي بكر، ولد بالبصرة، وسكن بغداد، وهُوَ المتكلم المشهور، والمتضلع المتمكن في علم التوحيد، ردَّ على الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، كان في العقيدة على مذهب الاشعري، وفي الفروع والفقه على مذهب مالك، وانتهت إليه رئاسة المذهب، توفي رحمه الله ببغداد عام 404 هـ. كما أن المراد بأبي اسحاق. العلامة الامام ابراهيم بن محمد الاسفرايني من ائمة الشافعية له التصانيف القيمة الجليلة، من اشهرها كتابه الكبير، المسمَّى "جامع الحلى" في اصول الدين والرد على الملحدين، ويوصف بالاستاذ في كتب اصول الفقه، . صح الجوامع، وكذا في أصول الدين في كتب التوحيد الخ
…
ت. 418 هـ. فليحقق ذلك.
(227)
عبارة القرافي تزيد المسألة وضوحا وبيانا حيث قال: فإذا رأى الرائي أنه بالمشرق، وهو بالمغرب أو نحوه، فهى أمثلة جعلها الله دليلاً على تلك المعاني، كما جُعِلَتْ الحروف والاصوات والرقوم للكتابة دليلا على المعاني.
قال القرافي: "فإذا رأى (الرائي في المنام) الله تعالى، أو النبيَّ صلى الله عليه وسلم فهى أمثلة تُضَرب له بقدر حاله، فإن كان مُوَحِّداً رآه حسنا، أو مُلْحِداً رآه قبيحا، وهو أحد التأويلين في قول النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي في أحسنِ صورة".
قال بعض العلماء: قال لي بعض الأمراء: رأيت البارحة النبي صلى الله عليه وسلم في أشد ما يكون من =
قلت: قال الإِمام فخر الدين: إن الحِسّ المشترَك تنطبع فيه الصورة الظاهرة في الخارج والصور الحاصلة في الباطن، فتارةً تَرِد عليه من داخل، وتارة من خارج، وهو قابل لما يَرِد من الموضعين، والادراك لا يتعلق بما في الخارج ولا بما في الباطن، وانما يتعلق بما انطبع في الحس المشترَك من أي جهة كان انطباعه، لكنْ إيرادُ الحواس الظاهرة أقوى من إيراد الأمور الباطنة، ولهذا إذا كان الانسان متيقظا تتعطّلُ عليه الايرادات الباطنة إلا القليلَ من الناس وهُم الفضلاء من الخلْق، حتى إذا كان النَّومُ وُجِدتْ الامورُ الباطنية، للايراد على الحس المشترك لتعطيل الحواس. ومن هذا إيرادُها عند المرض، وهذا لِضَعْف حواس المريض، وكذا الأمْرُ فيما يَرِدُ حال الخوف الشديد.
ثم قال: الصُّوَرُ التي تُرَكِّبها القُوى الخيِّلة قد تكون كاذبة وقد تكون صادقة.
فالكاذبة لأسباب ثلالة:
الأول: إذا أحَسَّ الانسان وثبتتْ الصورة المحسوسة في الخيال بعْد النوم ترتسم في الحس المشترك.
= السوادِ، فقلتُ. له (أي قال هذا العالم لذلك الأمير الذي رَأى تلك الرؤيا): ظلمت الخَلْقَ وغيرتَ الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الظم ظلمات يوم القيامة" فالتغيير فيك لاشك فيك، وكان متغيرا عليّ، وعنده كاتبه وصِهره وولده، فأما الكاتب فمات، وأما الآخران فتنصَّرَا، وأما هو فكان مستنِدا فجلس على نفسه، وجعل يتعذر، وكان آخر كلامه: وددت أن أكون جميعاً لنخلات أعيش بها بالشغر. قلت له: وما ينفعك أنا أقبلُ عذرك، وخرجتُ، فواللهِ ما توقفتْ لي عنده بعدُ حاجة. اهـ.
قلت: مما يزيد هذا الوضوع توضيحا وبيانا ما ذكره العالم الفاضل الشيخ محمد على بن الشيخ. حسين مفتي المالكية في كتابه "تهذيب الفروق والقواعد السَّنيَّة". المطبوع بهامش كتاب الفروق للقرافي، رحمهم الله، قال:
الناس في الرؤى ثلاثُ درجات: الانبياءُ: رؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ماب يحتاج إلى تعبير، والصالحون، والغالب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير، والصالحون، والغالب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، وما عداهم يقع في رِؤياهم الصدقُ والأضغاث، وهم ثلاثة: مستُورون، فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسَقَة، والغالب على رؤياهم أضغاث ويقل فيهْا الصدق، وكُفَّار، ويندُرُ فيها الصدق جدًّا، ويرشد لذلك خبر الامام مسلم مرفوعا:"أصْدقُكُم رؤيا أصدقُكُم حديثا". اهـ.
الثاني أن القوة المفَكِّرة إذا ألَّفَتْ صورةً حفِظَتْها القوة الخيالية، فعند النوم تَرُدُّها على الحس المشترَك.
الثالث: تغيُّرُ مِزاجِ الرُّوحِ للقوة التخيلة يوجب تغَير أفعالها بِحسب تلك التغيرات.
وأمَّا الصَّادقة فتنبَنِي على مقدمتين:
الواحدة أن جميع ما كان ويكون، معلومٌ للبارى تعالى والعقل والنفوس. (228)
الثانية أن النفوس الناطقة شأنها الاتصال بتلك المبادئ، وانما يعوق ذلك استغراق النفس في تدبير البدن، فإذا حصل لها أدنى فراغ كما يكون في النوْمِ حصل اتصال انطاعها بتلك المبادئ فينقطح فيها من الصور الحاصلة هنالك ما هو أليقُ بتلك النفس من أحْوالها وأحوال ما يَقْرُبُ منها من الأهْلِ والوَلد والْبَلَد.
ثمّ إن المتخيلة تُحَاكِي تلك المعاني الكلية بصور جزئية فتنطبع تلك الصورٍ في الحس المشترك، فيصيرُ مشاهَدَة. ثم إن كانت تلك الصوَرُ الجُزئية مناسبةً للكلية حتى لم يقع الفرق إلّا بما بين الجزئي والكلي لم تحْتَجْ إلى تغيْير، وإلَّا
(228) قلت: هذه المبارة هكذا على ظاهرها وعمومها لا تكاد تكون مسلَّمة ومقبولة بالنسبة للعقل والنفس، عند التوقف عندها والتأمل، ولذلك أعطاها المؤلف رحمه الله شرحا وتفسيرا في المقدّمة الثانية بعدها، بما يجعلها مستساغة ومقبولة، ويفيد بأن المؤلف عارف بما يقول ومدرِك له تمام الإِدراك. ومع ذلك يبقى في النفس والعقل منها شيء، لأن عِلم ما كان وما يكون، محصور في علم الله سبحانه، وإنما هو لله وحده. فكان مقتضَى ذلك أن يقال في المبارة: إن جميع ما كان وما يكون معلوم الباري تعالى وحْدَه، وأنه سبحانه جحل في النفوس والعقل شفافية وروحانية تجعلها مؤهلة ومستعدة لأن تطلّع وتتعرف على ما أراد الله لها تعلَّمَهُ وإدراكه والاطلاع عليه من علم ومعرفة، وغير ذلك من اسرار كونية في الحياة، ومع ذلك فإنه سبحانه وتعالى جعل للعقل والنفس ولجميع القوى العقلية والنفسية علماً وإدراكا: محدوداً لا تتجاوزه في إطار استعدادها بوصفها مخلوقات ضعيفة ضمن مكونات الانسان وخصائص جسمه وفكره الضعيف وروحانيته النفسية، مصداقا لقول الله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وقوله سبحانه: "وما أوتيم من العلم إلا قليلا". وقوله سبحانه في شأن الخضِر مع موسى عليه السلام: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} . فلْيُحَقّق ذلك، ولْيُصَحَّحْ، والله أعلم بالصواب.
احتاجت، فإن كانت المناسَبَة بوجْهٍ ما حاصلةً فهى رؤياه والا فهي أضغاث أحْلامٍ. (229)
المسألة الثالثة قال الاستاذ أبو اسحاق رضي الله عنه: الإِدراك يُضاده النوم اتفاقا، والرؤيا إدراك المِثْلِ، فكيف تجتمع مع النوم؟ .
وأجاب بأن النفس ذاتُ جواهر، فإنْ عَمّها النومُ فلا إدراك ولا منام، وإن قام عَرَضُ النوم ببعضها أمْكن قيام إدراك المنام بالبعض الآخَرِ، وكذلك اكثر المنامات آخر الليل عند خِفّة النوم.
المسألة الرابعة: إذا كان المُدرَك إنما هي المُثُل، وبه خرَجَ الجوابُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرَى في الآن الواحدِ في مكانين، فإنّ المرئي في مكانين مثالان ولا إشكال حينئذ. وأمّا إشكال أن يكون الواحد في مكانين في زمان واحد فأجاب
(229) الاضغاث جمع ضِغث بكسر الضاد وسكون الغين والتاء المثلثة هو ما كان مختلطا من الامر، ولا حقيقةَ له، والأحلام. جمع حُلُم بضم الحاء واللام وبإسكانِها، ما يراه النائم في النوم. ويطلق ويراد به بلوع الولد مبلغ التكليف بعلامة البلوغ في الذكر والانثى. ومنه الآية الكريمة:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} . سورة النور، الآية 59 وأضغاث الأحلام هي الأحلام المختلطة الملتبسة التي لا يصح تاويلها وتفسيرها.
وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم، في سورة يوسف كما سبقت الاشارة إليها، فيما يتعلق بتعبيره الرؤيا وتأويلها وتفسيرها. وفي أول سورة الانبياء، فيما حكاه الله عن الكافرين من إنكارهم الوحى والقرآن الكريم، وجمعية نبينا المصطفي الامين فقال تعالى حكاية عنهم:{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الآيات: 5 - 7. من سورة الأنبياء.
ويطلق الضغث ويراد به القَبضة أو الكَمِّية من الحشيش يختلط بها الرطْب باليابس، ومنه الآية الكريمة. خطابا لنبي الله، سيدنا أيوب عليه السلام:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44} الآية 77 من سورة ص.
وكان أيوبُ عليه السلام قد لقي من زوجته التي صبرتْ معه على بلائه بالمرض بعض الضجر، فحلف إن برئ لَيَضربنها مائَة سوط، فألهمه الله وأوحى إليه أن ياخذ حَزمة من قصب وأعواد مختلطة، فيها مائة سوْط، فيضربها ضربة واحدة خفيفة، فيَكون كأنه ضربها مائة مرة، فيبَرُّ في يمينه ويَسْلَم مِن حِنثه، وذلك من لطِف الله وسَعَة رحمته بِنبيه أيوب وزوجه التي قامت على رعايته في شدة مرضه الدي طال به، صابرة محتسبة لله تعالى في ذلك، راجية منه سبحانه حسن الأجر والمثوبة، وهو سبحانه لا يضيع أجْر المحسنين.
الصوفيةُ بأنه عليه السلام كالشمس يُرَى في أماكن عِدَّةٍ وهي واحدة، وهو باطل، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه زيدٌ في بيته، ويراه عمْرٌو، كذلك ويراه في بيته بجملتِه، والشمس إنما تُرى من أماكن عِدة وهي بمكان واحد، فلو رِيئَتْ داخل بَيْتٍ بِجِرْمها استحال رؤية جِرمِها داخِل بيتٍ آخر، وهذا هو الذي يوازي رؤية رسول الله عدرو: في بيتين، والاشكال لم يَرِدْ في رؤيته في مواضع عدة، وإنما ورد بحسَب ما قلنا، فلا يتجه الجواب إلا بإثبات المُثُل وتعدادها. (230)
قلت: أبو حامد الغزالي من الصوفية وهو قائل بأن الرؤية تعلَّقت بالمثال، وأنكر غيره، وبَلَّدَ من لَمْ يقل به، وهذا هو معنى قوله عليه السلام:"فقد رآني حقاً"، أي رأى مثالي فإن الشيطان لا يتمثل بي، وأن الخبر شهِد بعصمة المِثال من الشيطان.
المسألة الخامسة. قال شهاب الدين: قال العلماء: إنما تصِحُّ رؤية التي صلى الله عليه وسلم لأحدِ رجلين: أحدُهما صحابي رآه فعلم صفته فانطبع في نفْسِهِ مثالُهُ، وثانيهما رجل تكرر عليه عاع صفاته بالنقل حتى انطبعت في نفسه صفته عليه السلام ومثاله المعصوم، كما انطبع لمن رآه، (231) فهذان ينتفي عنهما اللبْسُ والرّيْبُ،
(230) عبارة القرافي: فلا يتجه الجواب إلا بان المرئي مثاله عليه السلام لا ذاتُهُ. كذلك كل مرئي من بحر أو جبل أو آدمى أو غيره إنما يرى مثالُه لا هو بذاته، وبه يظهر معنى قوله عليه الصلاة والسلام:"من رآني فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل به"، وأن التقدير من رأى مثالي فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل به". وأن الخبر إنما يشهد بعصمة المثال عن الشيطان
…
الخ.
(231)
عبارة القرافي هنا: "كما حصل ذلك لمن رآه. فإذا رآه جزم برؤية مثاله عليه السلام كما يجزم به من رآه، فينتفي عنه اللبس والشك في رؤيته عليه السلاة والسلام، وأمّا غير هذين فلا يحصل له الجزم، بل يجوز أن يكون رآه، عليه السلام، بمثاله، ويحتمل أن يكون من تخييل الشيطان، ولا يفيد قول المرئي لمن يراه: أنا رسول الله، ولا قول من يحضر معه: هذا رسول الله، لأن الشيطان يكذب إنفسه ويكذب لغيره، فلا يحصل الجزم.
إذا تقرر هذا فإنه لابدَّ من رؤية مثاله المخصوص، فيشكل ذلك بما تقرر في كتب التعبير أن الرائي يراه شيخا وشابا وأسْود، وذاهبَ العينين، وذاهبَ اليدين، وعلى أنواع شَتَّى من المُثُلِ التي ليست مثاله عليه السلام.
فالجواب عن هذا أن هذه الصفات صفات الرائين وأحوالهم، يظهر فيها عليه الصلاة والسلام، وهو كالمرآة لهم". =
وغيرهما لا يحصل له الجزم، بأنه راه ولو وجد في نفسه أن المرئي هو النفس أو يقول له قائل: هذا النبيُّ.
قلت: لقد ضيَّقت واسعا، وما علَى الذي قلتَه دليل ولا برْهانٌ إلا مجرد دعوى الحق في خلافها. ثم الذي عليه المعَبِّرون خلاف هذا. ثم هذا الاشتراط يُعَطِّلُ زؤية الله ورؤية الملائكة، فإنه يلزمك أن لا تصح رؤية الحق تعالى لأنه لا صورة له، حتى يتمثل لنا صورةً كصورته (232).
والله أعلم.
قال شهاب الدين:
"فَرْع " لَو أنَّ رجلا رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبَره بأن امرأته طالقٌ ثلاثا، وهو جازم بأنه لم يُطلّقها، ماذا يصْنَعُ؟
فقال: يُقدِم حال اليقظة على حال النوْم، فلا تُطَلَّق عليه، وهذا لتَطرق الاحتمال للرائي بالغلط في ضبط المثال، وتطرّقُ الاحتمال إلى النوم أقربُ من تطرق الاحتمال لِحَال اليقظة. (233)
فيها شيخ البقوري رحمه الله على هذا الكلام عند القرافي، بعد اختصاره كما هو واضح من كلامه فقال: مخاطبا له: لقد ضيقتَ واسعا"
…
الخ. فليتاملْ ذلك، والله أعلم.
(232)
كذا في نسخة الخزانة الهامة بالرباط، ونسخة الخزانة الحسنية بالرباط، وفي نسخة ت: لأنه لا صورة له تتمثل لنا صورة، والله أعلم.
(233)
عبارة القرافي هنا تزيد المسألة بيانا ووضوحا أكثرَ، حيث قال: "وقع البحث في هذا مع الفقهاء، واضطربت آراؤهم في ذلك بالتحريم وعدمه، لتعارض خبره عليه عليه السلام عن تحريمها في النوم مع إخباره في اليقظة في شريعته أنها مباحة له.
ثم قال: والذي يظهر لي أن إخباره عليه الصلاة والسلام في اليقظة مقدَّمٌ على الخبر في النوم، لِتطَرُّق الاحتمال للرائي بالغلَط في ضبط المثال، فإذا عرضنا على أنفسنا احتمال طُرُوِّ الطلاق مع الجهل به، واحمالَ طُرُوّ الغلط في النِوم، وجَدْنا الغلط في المِثال أيسَرَ وأرْجحَ. ومن هو من الناس يضبط المثال على النحو المتقدم إلا أفرادٌ قليلة من الحفَاظ لصفته عليه الصلاة والسلام. وأما ضبط عدم الطلاق فلا في يختل إلَّا على النادر من الناس، والعملُ بالراجح متعَيّن.
ثم قال: وكذلك لو قال له عن حلال: إنه حرام، أو عن حرام: إنهُ حلال، أو عن حكم من أحكام الشريعة، قدَّمْنا ما ثبت في اليقظة على ما رأى في النوم، لما ذكرناه، كما لو تعارض خَبَرَانِ من أخبار اليقظة صحيحان، فإنا نقدم الارجح بالسند أو باللفظ أو بفصاحته أو قلة الاحمال في المجاز أو غيره، فكذلك خبرُ اليقظة وخبَرُ النوم يُخَرًجانِ على هذه القاعدة." اهـ =
المسألة السادسة: رؤية الله تعال في النوم تصح، (234)، ولذلك أحوال:
1) أحدها أن يراه في النوم على النحو الذي دل عليه العقل والنقل من صفات الكمال، والسلامة من الصفات الدالة على الحدوث، من الجسمية وغيرها، فهذا نجوّزه في الدنيا كما نجوّزه في الآخرة، ونجزمُ بوقوعه في الدار الآخرة للمومنين، (235) ولكن من ادَّعى هذه الحالة وهو من غير أهْلها كالعصاة والمقَصّرين كذَّبناه، أَو من الأولياء المتقين لا نُكذّبه، ونُسَلِّم له حالَهُ.
= قلت: والتحقيق في هذا الباب، والتدقيق في موضوعه، والتنبيه إلى مسائله مهم ومفيد جدا، وذلك الوقوف في وجه بعض المدعين والمشعْوذين وللرّد على ادعاَتهم ودحضها وإبطالها حين يدَّعون بين الحين والآخر أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم مناما، وأنه قال لهم كذا وكذا، وأمرهم أن يخبروا به الناس، مما لا يتفق مع نصوص الشريعة الغراء، حين عرْضهِ عيها ومقارنته بظواهِرِهَا وقواطعها من ادلة النصوص والاحكام الشرعية الجليه الواضحة، وهم يريدون بذالك أن تكون لهم مكانة عند الهامة، عصَمنَا الله منهم ومن ادعآتهم التي لا تستند إلى أساس شرعي صحيح.
(234)
قلت: وهي بالنسبة للانبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام حق، وأمْر مقبول مسَلَّمٌ به، إذا وقعت لنبي وأخبر بها، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"رأيتُ ربي في أحْسَنِ صورة"، أخرجه الامام أحمد في مسنده، والإِمام الترمذي في سننه، والإمام السيوطي في كتابه: الجامع الصغير". بصيغة: "رأيتُ ربي عز وجل".
وهذه الرؤيا المنامية كما تكون وتحصُلُ الأنبياء تكون كذلك العباد الصالحين، والأولياء المتقين كما سبق ذكره عند القرافي، لأنها تدخل في باب الكرامة والبشرَى التي وعد الله بها الاتقياء من عبادِهِ المومنين، فقال تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . سورة يونس، الآية 62 - 63.
(235)
وذلك مصداقا لقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، سورة القيامة، الآية 23، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنَّا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سَتعْرضُونَ على ربكم كما تَرون هذا القمر ليلة البَدْر، لا تُضَامُونَ (أي لا يلحقهم ضَيْمٌ برؤية بعضهم دون العض)، أوْ لا تَضَامُّون في رؤيته (اي لا تتزاحمون فيها)، فإن استطعتم ألَّا تُغْلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وصلاةٍ قبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . رواه الائمة: البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي رحمهم الله.
وقَوْلُهُ تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، (236) فيه تاويلات، وهو عموم يقبَل التخصيص، وخَبَرُ العدل مقبول في تخصيص العموم، ونحن نقبل خبر الأولياء في خوارق العادات التي هي الكرامات، فكيف لا نَقبَله في تخصيص العمومات.
وثانيها أن يراه سبحانه في سورة مستحيلة عليه سبحانه وتعالى، كمن يقول: رأيته في سورة رجل ويَفْهَم الرائي من تلك الصورة أنَّها خَلْقٌ من خلق الله تعالى تَرَآءى له الموَلَى فيها، فهذه الحالةُ أيضا صحيحة جائزة.
الحالة الثالثة أن يَرَى هذه الصورة الجسْمية ويَعتَقِد أنَّها الله حقيقةً، ولا يَخْطرٌ له في النوم معنى المجاز البتَّة، فهذه يحتَمل أن تكون رؤيا صحيحة، وكان الغلط ح ذلك للرائي، ويحتمل أن تكون كذبا، والشيطان خَيَّل له ذلك ليُضلّه، فلو اعتقد في اليقظة أن الذي رآه حق ولا شك فيه أىى من الجسمية المرئية لكان كافراً، وقد تكون تلك الصورة، فيها من الحقارة ما يكون سببا لأن يكَفره الحَشْويَّةُ الذين يقولون بالجِسْميَّةِ.
المسألة السابعة في تحقيق مُثُل الرؤيا.
إعْلَمْ أن أدلة هذه المُثُل على المعاني كدلالة الألفاظ الصوفية والرقوم الكتابية عليها.
واعْلَمْ أنه يقع فيها جميع ما يقع في الألفاظ من المشترك. والمتواطِئ، والمترادِف والمتبايِن، والمجاز، والحقيقة، والمفهوم والخصوص، والمقيَّد، والتصحيف،
(236) تمام هذه الآية الكريمة قول الله سبحانه: {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} . سورة الأنعام، الآية. 103 هـ.
والقلب، والجمع بينهما، والصريح والكناية، والمعاريض حتي يقع فيه ما يقع في الألفاظ من قولهم: أبو يوسف أبو حنيفة، (237) وزيدٌ زُهيرٌ (238) شِعْراً.
فالمشترَكُ كالفيل هو مَلِكٌ أعجميٌّ، وهو الطلاق الثلاث.
لأن عادة أهْل الهند إذا طلّق أحدٌ ثلاثا ألْقوْه على فيل، فلمّا كان من لوازم الطَّلاق عُبِّر به عن الطلاق، والمتواطئ كالشجرة وهي رجلٌ، أيَّ رجُلٍ كان.
ثمّ إن كانتْ تنبت في العجم فهو رجل أعْجَمي، أو عند العرب فهو عربي أو لا ثمر لها فلا خير فيه، أوْلها شَوْك فهو كثير الشر، أوْلها ثمر له قِشر فلهُ خيْرٌ لا يوصل اليه إلا بعْد مشقة، وهذا هو المُطْلَقُ والمقَيَّدُ، فحصلتْ القيود بالأمور الخارجة، كالصَّاعد على المنبر، الصعود ولاية، وهي مشترَكة بين الولايات ومطلقةٌ،
(237) أبو يوسف: المراد به يعقوب بن ابراهيم بن حبيب، القاضي الامام رحمه الله. أخذ الفقه عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان مقَدَّما في أصحابه. صحيحا، ومتفوقا عليهم، بمنزلة الإِمام ابن القاسم من تلاميذ الامام مالك رحمهما الله، ولِيَ القضاء للهادي والمهدِي والرشيد من خِلفاء بئ الباس، وهُوَ أول من سمِّيَ قاضيَ القضاة، وأوَّلُ من اتخذ العلماء زيًّا خاصا، وثّقَهُ ابنُ مَعين وابن المديني، ورُوي عنه أنه قال:"ما قلت قولا خالفتُ فيه أبا حنيفة إلا وقول قاله ثم رغِبَ عنه" أي رجع عنه. ولأبي يوسف مؤلفات عديدة، من أشهرها كتاب "الخراج"، (في الأموال وتصريفها)، ولمكانته في العلوم الاسلامية وتبحره فيها، وخاصة في الفقه يشبهه العلماء بأبي حنيفة، فيقولون: أبو يوسف أبو حنيفة. وتوفي، سنة 181 هـ. رحمه الله.
(238)
المراد به الشاعر الشهير أحد شعراء العصر الجاهلي أصحاب القصائد الطويلة المشهورة بالمعلقات، يمتاز شعره بالرصانة والجودة والحكم، مِثل الحكم التي ختم بها قصيدته المعلقة التي يقول في مطلعها.
أمِنْ أمِّ أوفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ
…
بِحَومانة الدَّرَّاج فالمتثلَّمِ
ويقول في ختامها هذه الابياتَ الحِكميةَ اللطيفة، التي يقع الاستشهاد ببعضها في مواضع مختلفةٍ، في مواطن مناسبةٍ من طرف النحاة والأدباء، وهي قوله:
ومهْما تكنْ عند امرئ من خليقةٍ
…
-وإن خالَفيها تخفَى على الناسِ- تُعْلَمِ
وكَائِنْ تَرى من صامتٍ لك مُعْجبٍ
…
زيادتُه أو نقْصُهُ في التكلم
لسان الفتَى نصفٌ ونصفٌ فَؤادُه
…
فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدّم
وإن سَفَاهَ الشيخ لا حِلمَ بعدَه
…
وإن الفتَى بعْدَ السَّفَاهة يَحْلُمُ
سألْنَا فأعْطَيتُمْ وعُدْنَا فعُدتُموا
…
ومَنْ أكثرَ التَّسآل يوماً سَيُحْرَمُ
والشخص الاديب حين يكون له شعر متين رصين، لغة ومضموناً وبلاغةً وحكمة، يمكن تَشْبيهُهُ بهذا الشاعر زهير او غيره من الشعراء والادباء المرموقين، فيقال: زيد زهيْرٌ شعْرا، ونحو ذلك. ومنه قيل: المرءُ بأصْغريْهِ: قلبِه ولسانِهِ.
فإن كان الرَّائي فقيها كانت الولاية قضاءً، أو أميرًا فَوالٍ، أو من بيت المُلك فملِكٌ إلى غير ذلك.
وكذلك ينصرف للخير بقرينة الرائي وحاله، وإن كان ظاهره الشر فينصرف للشر بقرينة الرائي وحاله، كمن رأى أنه مات، فالرجُل الخيِّر ماتت حظوظه وصلحت نفسه، والرَّجُل الشريرُ ماتَ قلبُهُ، والمترادفة كالفاكهة الصَّفراء تدل على الهَمِّ، وحَمْلُ الصغير يدل عليه أيضا. والمتبايِن كالأخذ من الميت والدَّفع له، والمجاز والحقيقة كالبحر هو السلطان حقيقةً، ويعبَّر به عن سَعة العلم مجازا، والعموم كمن رى أن أَسنانه سفطت في التراب فإنه يموت أقاربه، فإن كان في نفس الأمْر إنما يموت بعض أقاربه قبل موته فهو عامّ أريد به الخصوص.
وأما أبو يوسف أبو حنيفة فالرؤيا تُرَى لشخص، والمراد من يشبهه أوْ مَن يتسمى باسمه، وبَسْطُ هذه التفاصيل في كتب التعبير (أيْ تعبير الرؤيا وتأويلها).
واعْلمْ أن للعبارة قوةً نفسية يخلقها الله على تلك الحالة، فبها يَقْدِر المعَبِّر على العبارة، فقد يكون ذلك لإِنسان بحسب الرؤيا فقط، وقد يكون ذلك لإِنسان آخرَ بحسب الرؤيا وغيرها، وذَلكَ أكمَلُ، ومن كانتْ له قوةُ نفسِ، ومعرفةٌ بالقواعد، وهو ذو علم، ينتفع بتعابِيره وتظهر منه العجائب في تفسيرها حتى إنه ليقال: إنه حديثٌ أخَذَه من الجن أوْلَهُ مُكاشَفة، والقوة النفسانية لا تُنال بسَعى كسْبٍ، وإنما هي موهبة من الله تعالى يهبها لمن يشاء من عباده (238 م).
(238 م) هذه الفقرة المختصرة الموجَزَةُ هنا عند البقوري، هي موضوع تنبيهٍ مفَصَّل، ومُطَوَّلٍ عند القرافي رحمهما الله جاء فيها قوله:
"إعْلَمْ أن تفسير المنامات قد اتسعَتْ تقييداته، وتشعَّبتْ تخصيصاته، وتنوعتْ تعريفاته، بحيث صار الانسان لا يَقْدرُ أن يعتمد فيه على مجرد المنقولات، لكثرة التخصيصات بأحوال الرائين-، بخلاف تفسير القرآن العظيم والتحدث في الفقه والكتاب والسُّنة، وغير ذلك من العلوم، فإنَّ ضوابطها إمّا: خصورةٌ أو قريبة من الحصر.
وعِلْمُ المنَامَات منتشِر انتشاراً شديداً لا يدخل تحت ضبط، فلا جَرَم أنْ إحتاجَ الناظر فيه مع ضوابطه وقرائنه إلى قوة من قوى الشفوس المُعِينة على الفراسَةِ والاطلاع على المغيَّبات، بحيث إذا توجَّه الحزْرُ إلى شيء، لا يكاد في يخطئ، بسبب ما يخلقه الله تعالى في تلك النفوس من القوة =