الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوازع الطبيعي فيها، غير أن الفاسق قد يوالي أهلَ شيعته، فيؤثرهم بوليته: أختِه أو بنته، فتحصل لها المفسدة العظيمة، فاشتَرِطت العدالة لذلك، وكان اشتراطها تتمة، لا حاجيةً ولا ضروريةً، لأجل تعارُض هاتين الشائبتين، وهذا التعارض بين هاتين الشائبتين هو سبب الخلاف بين العلماء في اشتراط العدالة في ولاية النكاح، وهل تصِحُّ ولاية الفاسق أو لا؟ وفي مذهب مالك قولان.
وكذلك اشتراط العدالة في الأوصياء من باب التَّتمَّةِ أيضا، لأن الغالب على الانسان أنه لا يوصي على ذُريته إلا مَنْ يثِق بشفقته، فوازعه الطبيعي يكفي في تحصيل مصلحة الاولاد. ثم الْأمر فيه كما قلنا في ولي النكاح سواءٌ بسواء، وما عدا ذلك فلا تشترط فيه العدالة، كالإِقرار فإنه يُقْبل فيه قول البَرِّ وَالفاجِر، وهذا لأن الوازع الطبيعي معه، فهو لا يسوقه إلى مضرّة نفسه، وكذلك مسألة الدعاوى يصح فيها البَرُّ والفاجر، والمسلم والكافر، وإنْ كانت عكسَ الإِقرار، فإنه في الإِقرار يعترف بالحق عليه، وهنا يطلب غيره بشيء يقول: هو له، وقامت البينة هنا مَقام الوازع الطبيعي هنالك، بل كَان الرُكُون إليها أوْلى من العدالة، لأن، العدالة قد تتغيَّر في أقربِ وقت، ونحنْ لا نطلع على ذلك، فيوصَل بذلك إلى المضرّة، فاشْتُرطت البينةُ على المدَّعي، وسائرُ ما يقوم مقام البينة، والله أعلم.
القاعدة التاسعة عشرة: في ضَمِّ الشهادات
(218).
قال اللخمي: قيل: تضَم الشهادتان في الأفعال والأقوال، أو إحداهما والأخرى فعلٌ، وقيل: لا يُضَمَّان مطلقا، وقيل: تُضَمان في الأقوال فقط،
وهو غير سليم، والمقصود أن تلك الشفقة تمنعه من ألا يوقع بها غير المصلحة، وذلك ما توضحه عبارة القرافي حيث جاء فيها قوله:
بسبب أن الوِازع الطبيعي في الشفقة على الْمُوَلى عليها يمنع من الوقوع في العار والسَّعي في الِإضرار. فقَرُبَ عدم اشتراط العدالة (في الولاية على النكاح) كالإقرارات، لقيام الوازع الطبيعي فيها.
(218)
هي موضوع الفرق التاسع والستين والمائتين بين قاعدة ضم الشهادتين في الاقوال، وبين قاعدة عدم ضمها في الافعال، جـ 3. ص 177.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء في اول هذا الفرق عند القرافي رحمهما الله، فقال: مما قاله هنا حكايةُ أقوال، ونحو ذلك، ولا كلام فيه.
وقيل: تضمانِ إذا كانتا على فعل، فإن كانت إحداهما على قوْل والأخرى على فعل فَلا، وهذه الأقوالُ كلها لمالك رضي الله عنه. واعتمد الأصحاب في الفرق بين الأقوال والافعال أن الأقوال يمكن تكررها، ويكون. الثاني خبرا عن الأول، والأفعال لا يمكن تكرُّرُها إلّا مع التعَدُّد.
وهذا الفرق فيه بحْث. (219) وذلك أن الأصل في الاستعمال الانشاءُ، وتعديدُ المعاني بتعدد الاستعمال حتى يدل دليل على التاكيد، ومقتضَى هذه القاعدة عدَمُ ضمِّ الأقوال والأفعال، (220) لكن عارَضَ هذه القاعدةَ قاعدةٌ اخرى، وهِيَ أن أصْلَ قولنا: أنتِ طالق، وأنتَ حُرٌّ، الخبرُ عن وقوع الطلاق والعَتاق قبل زمن النطق، وكذلك بعْتُ واشتريتُ وسائر صيغ العقود، وإنما ينصرف لاستحداث هذه المعاني بالقرائن أو النقل العرفي، فحُمِل القول الثاني على الِإخبار في المرَّة الثانية، عملاً بقاعدة ترجيح الاصل الذي هو الخبر، والحَمْلُ على الأصل أوْلى (221)، ولذلك شبّهَهُ الأَصحاب بما لو أقرَّ بمال فِى مجالسَ فانه لا يتعدد عليه لقربه. (222) أمّا لو فرضنا كل واحد من الشاهدين صمَّمَ على الإِنشاء فيما سمِعه كانت الأقوال كالأفعال،
(219) هذا من كلام القرافي رحمه الله.
(220)
كذا في جميع النسخ. ع. ح. ت، وتعديد بالعين، وفي هذا الفرق عند القرافي: وتجديد المعافي بتجدد الاستعمال والتاسيس (بالجيم)، والتعبير بالتجديد أظهر وأوضح، وأن الأول له معنى ووجه آخر مقبول، فلْيتَأمَّل وليحقق، والله أعلم.
(221)
علق الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي، فقال: ما قاله صحيح، بناء على ما أصل، الا ما قاله من قوله: انتَ طالق، وانت حرٌّ، الخبر عن وقوع الطلاق والعتاق قبل زمان النطق، فإنه ليس بصحيح. فإن الخبر باسم الفاعل المطلق لا يكون إلا للحال. وقد تقدت الاشارة إلى هذه في تعليق سابق.
(222)
قال ابن الشاط هنا: إنما لم يتعدد عليه ما أقر به لاحتمال تكرر الاقرار بمال واحد، مع أن الأصل برآة الذمة من الزائد، وكذلك ما نحن فيه من قوله: عبدي فلان حر، ثم كرر ذلك القول، فإنه يُحملُ على أن الثاني خبر عن الاول، بناء على ما أصل من أصل الخبر، فيكون حينئذ الشاهدان شهِدا على شيء واحد، وهو انشاء العتق في العبد الذي سمَّى.
ثم زاد ابن الشاط قائلا هنا: لا أدري مْا الحامل على تكلف تقديره كون القول الثاني خبرا عن الأول، مع أنه لو بَيَّن بقرينة مقاله او بقرينة حالِهِ أنه يريد بالقول الثاني تاكيد الانشاء لِعتق
وبالجُمْلة، من غلب عليه مُلاحظةُ الانشاء لم يَضُمَّ في الأقوال، ومتى لاحَظَ الانشاءً ولاحظَ الخبر، وأنه الأصْل ضَمَّ في الأقوال. وأمّا الافعالُ فبيَّنَ أنه لا يمكن أن يكون الثاني عَيْنَ الأول. (223) لأنه لا يصح أن يكون خبرا عنه، فإن الخبر من خصائص الأقوال، فصار مشهوداً به آخر. وأمّا عدم الضمّ إذا كانت إحداهما قولا والأخرى فعلا، فلأن الضم إنما يكون في جنس واحد، وضمُّ الشيء إلى جنسه أقربُ من ضمِّه إلى غير جنسه (224).
= ذلك العبدَ، لكملت شهادة الشاهدين بذلك العتق، وكذلك لو تبين بالقرائن أن القول الاول خبر عن أنه كان عقدَ عتقه، والقول الثاني كذلك، لحصلت شهادة شاهدين على إقراره بعتقه، فلا فرق - إذن - بين ما إذا كان القولان إنشاء أو كانا خبرا، أو كان أحدهما خبرا والآخر إنشاء، من حيث ان المقصود وهو وقوع عتقه اياه قد حصل على كل تقدير من تلك التقادير.
نعم إذا تبيَّن بالقرآئن أو احتمل أن القوَل الثاني تأسيسُ إنشاء كالاول، فها هنا لا يصح ضم الشهادتين المختلفتي التاريخ، لأنه لا يكون على عقد العتق الا شاهد واحد وهو الأول، وأما الثاني، فإنَّما لا يصح عقد العتق به، لأن العقد أو العتق لا ينعقد فيما تقدم عتقه.
(223)
كذا في ع، وح. وعند القرافي. وفي نسخة ت: عكس الاول، بدل عين الأول.
(224)
علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافيِ هنا قوله: "أما لو فرضنا كل واحد من الشاهدين صمَّم على الانشاء فيما سمعه كانتَ الاقوال كالافعال" إلى هنا
…
الخ
فقال: لا أحسِبُ ما بنَى عليه الفرقَ من كون القول الثاني خبرا عن الأول صحيحا، بل الذي ينبغي أن يكون أصْلا في هذه المسائل، سواء كانت قولا أو فعلا، أو كيفما كان، أن يُنظر إليها، فإن قبلَتْ الضم ضُمتْ، وإلا فلا.
ففي القول كمسألة الإِقرار بمال، كمن يقول في رمضان: لفلان عندى دينار، فسمعه شاهد، ثم يقول في شوال: لفلان عندى دينار، فسمعه آخر، فلاشك أن المَوْضع يقبل الضم، فتُكَمل الشهادة، ويقضَى عليه بالدينار.
وفي الفعل، كمن يَشرب الخمر في شوال، فيشاهده شاهد، ثم يشربها في ذى القعدة فيشاهده آخَرُ، فلا شك أن هذا الموضع يقبل الضم، فإن الشاهديْن معاً قدْ اجتمعا معا على مشاهدتهما إياه، يشرب الخمر، فتكمل الشهادة فليزمه الحد.
وما قاله القرافي بعد ذلك حكاية اقوال ولا كلام فيها. وما قاله من الحمل على الخبر، فهو بناء على أصله، وما قاله فيما إذا شهد له شاهد الانشاء صحيح، والله أعلم.
وأما القول الذي لا يقبل الضم فكما إذا قال في رمضان: عبدي فلان حرٌّ، على قصد نأسيس الانشاء لعتقه، فشهد عليه بذلك شاهد، ثم قال في شوال: عبدي حر على ذلك القصد بعينه، فيشهد عليه بذاك شاهد آخر، وتعذّر قبول الضم هنا مِن قِبَلِ أن عقد العتق لا يتعدد. =
"تفريع". قال اللخمي: لوْ شهِد أحَدُ الشهود بالثلاث قبْلَ أمس، والثاني باثنتين أمْسِ، والثالث بواحدةٍ اليومَ. لزم الثلاثُ، لأن ضمَّ الثاني للأول يوجبُ اثنتين قبل سماع الثالث، فلمَّا سمع الثالث ضُمَّ لهما، فلزمت الثلاث. وكذلك لو شهدَ الثاني بواحدة والآخَرُ باثنتين، لأن الثاني صح الأول طلقتان، فتضم إليهما طلقة الآخَر. وكذلك لو شهِد الأول باثنتين، والثاني بثلاث، والآخر بواحدة. هذا كله إذا عُلِمَت التواريخ، فإن جُهلت فيختلف في لزوم الثلاث او اثنتين، لأن الزائد عليهما من باب الطلاق بالشك. وقال أبو حنيفة: إذا شهِدَ أحدُهما بطلقة والآخَرُ بأكْثر لمْ يحْكَم بشيء، لِعَدَم كمال الشهادة. فلو شهِد أحدُهما ببائنة والآخَرُ برجْعيَّة ضُمَّتْ الشهادتان، لأنَّ الاختلاف ها هنا إنما هو في الصفة. قال مالك في المدَونة: إذا شَهِدَ أحَدهما أنه قال: إن فعلت كذا فامْرأتِي طالق، وشهِد الآخَرُ أنه قالَ ذلك في صَفَر، وشهِدا عليه، أو غيرهما بالفعل بعد صفر طُلِّقتْ، لاتفاقهما على التعليق والمعَلَّقِ والمعلَّقِ عليه، كما لو اتفقا على المُقَرِّ به واختلفا في زمن الاقرار. وإن شهدا في مجلس على التَّعليق، وشهِدَ أحدهما أنه فعل يوم الجمعة الشرْط، والآخرُ أنه فعله يوم السبت طُلِّقتْ، لاتفاقهما على التعليق ووقوع الشرْط، وكذلك لَوْ نَسَبَا قوله إلى مكانيْن، وِهذا بناء على أن القول الثاني خبر لا إنشاء، فلو صمّم كل واحد من الشاهدين على الانشاء لمْ يكنْ ضَم.
= وأما الفعل الذي لا يقْبلُ الضم، فكما إذا شهد شاهد أنه شاهد زيدا قتل عمراً، في شوال، وشهِدَ شاهدٌ آخَر أنه شاهَدَ قتله في ذي القعدة، وتعذر قبول الضم هنا من قبل أن القتل لا يتعدد.
وعلى ما تقرر تُشكلُ المسألة التي نُقل عن مالك رحمه الله مِن أنه إذا شهِدَ أحد الشاهدين أنه طلقها بمكة في رمضان، وشهد الآخر أنه طلقها بمصر في صفر طلقت من حيث إن المدة التي بيْنَ رمضان وصفر أكثر من مدة العدة، فعلى تقدير قصده تاسيسَ الانشاء، فالقولُ الثافي لا ينعقد به طلاق، لأنها قد انحلت عصمته عنها قبل هذا التاريخ بمقتضى شهادة الاول. وعلى تقدير قصد الخبر فالقولُ الثاني يبعِدُ اطلاع الشاهد على هذا القصد، لاحتمال القول الثاني قصدَ تأسيس الإِنشاء وقصد تاكيده، وقَصْدَ الخبر، وترجيحُ قصد الخبر بأنه الاصل لا يخفى ضعفُه، والله أعلم.
وما قاله القرافي بعد ذلك حكاية أقوال، ولا كلام فيها. وما قاله من الحمل على الخبر، فهو بناء على اصله، واما قاله فيما إذا شهد له شاهد الانشاء، صحيح، والله أعلم.