الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة العاشرة:
أقرر فيها ما يدخله ربا الفضل وما لا يدخله
، (47) فأقول:
قيل: يُضبط بالاقتيات والادخار في الجِنس الواحد، فهذا لا يجوز فيه ربا الفضل. وعن مالك في الموطأ: الأكْلُ والادخار مع اتحاد الجنس، فيجرِي الربا على هذا في الفواكه اليابسة، وعلى القول الآخَر لا يحْرُم فيها.
وعلى هذا يُختَلَف فيما يقِل ادخاره كالخوخٍ والرُّمان، فأجْرى ابن نافع فيه الربا، نظراً لجنسِه، وأجازَهُ مالك في الكتابِ، نظراً للغالب. وعلى هذا فلا يجْرِي
(47) هي موضوع الفرق التسعين والمائة (190) بين قاعدة ما يدخله ربِا الفضل وبين قاعدة ما لا يدخله رِبَا الفضل"، جـ 3. ص 259، لم يعلق عليه بشيء، الشيخ ابن الشاط رحمه الله، رغم طوله الذي استغرق أربع صفحات ونصفاً في كتاب الفروق.
قال في أوله القرافي رحمه الله: "والضابط عندنا له هو الفرق بين القاعدتين: الاقتيات والادخار في الجنس الواحد، هذا هو مذهَبُ مالكٍ رحمه الله. وقصَرَهُ أرباُب الظاهر على الاشياء الستة التي جآت في الحديث المتَفق عليه في الصحيحين، وهو "لا تبيعُوا الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرَّ بالبُرِ، والشعيرَ بالشعير، والتمر، بالتمر، والملح بالملح إلَّا مثْلاً بمثل، سواءً بسواء، يدا بيد، وإذا اختلفت الاجناس فبيعوا كيف شئتم إِذا كان يداً بيد"، فقالوا: يحرم ربا الفضل في هذه الستة، ويجوز في غيرها، لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .
وجوابهم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} . والربا الزيادة، وهذه زيادة.
وقال ابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين كزيد بن أرقم وغيره: "لا يحرم رِبَا الفضل، لقوله عليه السلام: "وإنما الربا في النسيئة"، وهذه صيغة حصر تقتضي انحصار الربا في النسيئة فلا يحرم الفضل. وهذا الحديث أخرجهُ الإِمام مسلم بلفظ "إن الربا في النسيئة"، والإِمام البخاري في باب ما يُستدَل به على رجوع من قال من الصدر الأول: (لَا رِبا إلَّا في النسيئة) عن قوله، ونَزَوعِهِ عنه".
وجوابهم القول بالموجب (اي موجب قول الحديث وسبب وروده"، لما روِي أَنه عليه السلام سئِل عن مبادلة الذهب بالفضة، والقمح بالشعير، فقال: "إنما الربَا في النسيئة"، ولا يحرم ما ذكرتم. إلا أن يتأخر، فسيمعَ (الراوي) الجوابَ دون السؤال. ولو لم يثبت هذا فالقاعدة في أصول الفقه أَن العامَّ في الاشخاص مطلَقٌ في الازمنة والأحوالِ والبقاع والمتعلَّقات، وهذا النص عامٌّ في أفراد الربا، مطلقٌ فيما يقع فيه، فَيُحْمَلُ على اختلافٍ الجِنس، جمعاً بين الأدلة. والمطلق إذا عُمل به في صورة سقط به الاستدلال فيما عداها.
وقد سبق لنا في أول القاعدة التاسعة قبل هذه من هذا الباب الإشارةُ إلى معنى الربوي، وإلى قول الشيخ خليل:"علة طعام الربا اقْتِيَاتٌ وادخار".
الربا في الرَّطْب مِن هذه الفواكه، وإنما يجْرِي في اليابسة منها. وقيل: العلةُ الاقتيات فقط، فيمتنع الربا في البيض دون الفواكه اليابسة، وأبو حنيفة جعل العِلَّة الأكلَ اتحاد الجنس، والشافعي جعَل العِلةَ الكيل والوزن اتحاد الجِنْس.
وقال ربيعة: الضابط لِرِبَا الفضل أن يكون مما تَجب فيه الزكاة.
وقال ابن سِيرِينَ: الجنس الواحد هو الضابط في علة منع الربا، فلا يجوزُ التفاضُلُ في جنس واحد، كان طعاما أو غيره، وأصحابُ الظاهر قصَرُوا ذلك على الأجناس المذكورة في الحديث، ولا يكون في غيرها. هذا من منع ربا الفضل.
وجاء عن ابن عباس أنه أجازه، لِقوله عليه السلام:"إنما الربَا في النسيئة". (47 م)
قال شهاب الدين: وجوابُ هذا أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن مبادلة الذهب بالفضة، والقمحِ بالشعير، قال: لا يحْرُمُ ما ذُكر، إنما الربا في النسيئه فسمع الراوي الجوابَ دون السؤال.
ولأصحابنا في المِلح ثلاثة أقوال: منهم من علّله بالاقتياتِ وإصلاح القوتِ، فألْحَقُوه بالتوابل، وقيل: بالأكل والادِّخار، وقيل: بِكونه إداماً فلا يُلحق به الفُلْفلُ ونحوُه.
وألْزَمَنَا الشافعية على تعليل المِلْح بإصلاح الأقوات جَرَيانَ الربا في الأفاويه (التوابل) والأحطاب، لأنها مُصلحة الأقواتِ. وجوابهْ أنا لا نقتصر على مطلق الاصلاح، بل نقول: هو قوتٌ مصلح، وهذه ليستْ قُوتاً.
واختلَف الأصحاب هل اتحاد الجنس جُزْءُ عِلة أو شرْطٌ في اعتبار العِلة لعُرُوِّه عن المناسبة، وهو الصحيحُ، لَنَا أنه عليه الصلاة والسلام، اشترَط المماثلة، وليست في الجنس، لاختلاف صفاته، فتعيَّنَ المقدارُ، وهذه الأربعة هي أقواتُهم بالحجاز.
(47 م) حديث أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله.
وأيضا فَذَكَرَ البُرَّ، فنبَّه به على ما فيه الرفاهية، وذكر الشعير، فنبه به على الأدنى الكائن عند الشدة، وذكر التمر فنبهَ به على ما فيه التفكه مع الاقتيات، وذكر المِلح، فنبه به على ما فيه إصلاح الطعام، واشتركت كلها في الاقتيات والادخار والطعْم، وهي صفاتُ شرفٍ، تُناسب أن لا يبدَّل الكثير منها بالقليل منها، صوْنا للشريف عن الغبْن فيذهب الزائد هدَراً، ولأن الشرف يقتضي كثرة الشروط، كما أن الملوك لا تُكْثِر الحُرَّاسَ إلَّا على الخزائن النفيسة، فكُلَّمَا عظُمَ شرَفُ الشيء عَظُم خطَرُهُ عقلا وشرعاً وعادة، وجاز التفاضل في الجنسيْنِ (48) وإهدار الزائد، لمكانِ الحاجة في تحصيل المقصُود (49) وامتَنع النَّسَاءُ، إظهاراً لِشَرَفِ الطعام والنقود التي هي حاكمة على جميع الأشياء، وبذلك كان شرفها أيضا، (50) وعِلة مالِكٍ أرجحُ من علة أبي حنيفة بالكيل، لسبعة أوْجُه:
(48) قال القرافي هنا رحمه الله في تلخيص تعليل منع ربا التفاضل والنَّساء: "فهذه اثنا عشر مذهبا، منها عشرة في علة الربا: منعُ الربا مطلقا إلا في النَّساء، منعُهُ في النَّساءِ مع المنصوص عليه. فهذان لا تعليل فيهما. والعشرة في التعليل هي: تعليله بالجنس، تعليله بكونه زكُويا. تعليله بكونه مكيلا أو موزونا. تعليله بكونه مكيلا. تعليله بكونه مطعوما. تعليله بكونه مقتاتا تعليله بكونه مقتاتا مدخراً. تعليله بالاكل والادخار مع اتحاد الجنس. تعليله بالمالية. تعليله بالاقتيات والادخار مع الغلبة. ومن الاصحاب من علل البُرّ بالقُوتِ غالبا، والشعيرَ بالقوت عند الضرورة، والتمر بالتفكه غالبا، والملح بإصلاح القُوتِ، فيحصُلُ في المذهب قولان. هل العلة في الجميع واحدة أو متَعَدِّدة؟
(48 م) في نسخة ع، وح: في الجنس، وفي نسخة ت: في الجنسين، وهي ما عند القرافي، وهي أظهر وأصْوب فلْيُتَأمَّل ولْيُحَقَّقْ.
(49)
كذا في جميع نسخ الترتيب ع، وح، وت. وعند القرافي: في تحصيل المفقود، فليتأمل.
(50)
قال القرافي هنا رحمه الله: وتعليل أبي حنيفة بالكيل طردي فيقدَّم عليه المناسب، وتعليل الشافعي بالطعم داخل فيما ذكرناه، فهو مُهَمِل لبعض المناسِب، بخلافنا، بل أهمل أفضل الاوصاف، وهو الاقتيات، ولم يعتبره إلا مالكٌ رضي الله عنه.
وهذه القاعدة تُعرَف بتخريج المَنَاط، وهيَ أن الحكم إذا ورد مقرونا بأوصاف، فإن كانت كلها مناسِبةً كان الجميع علة، أو بعضُهَا، كان علة واحدة، فأسعدُ الناسِ أرجحهم تخريجا، وعِلْمُ مالك أرجح لسبعة أوجه: الخ
…
"، وهذا ما اعتمده الشيخ خليل رحمه الله في هذا الباب حيث قال - كما اشرت إليه سابقا: "فَصْلٌ: "علة طعام الربا اقتيات وادخار، وهل لغلبة العيش (اي هل يشترط كون ادخاره لذلك)؟ تاويلان".
أحدها أنها صفة ثابتة والكَيْلُ عارض، وأنها صفة مختتصة، والطعم وغيرهُ غيرُ مختص، وأنها المقصودة عادَةَ من هذه الأعيان، وغيرُها ليس كذلك، وأنها جامعة للأوصاف المتناسِبة كلها، وأنها سابقة على الحكم، والكيل لاحِقٌ، وأنها جامعة للقبيل والكثير كما في النقديْن، والكيلُ يمنع في التمرة والتمرتين، وأنها تختص بحاليةِ الربا دون حالة كون الحبوب حشيشا ابتداء، ورماداً انتهاء، والكَيْلُ غيرُ مختص.
تنبيه:
القياس في الرِّبويات، اختُلف فيه، هل هو قياسُ شَبَهٍ (51) أو قياسُ عِلّة، والأظهرُ أنه قياسُ عِلّةِ، لأن قياس العِلّة ما كان الجاح فيه وصفا مناسبا. وضابطُ المناسِب ما يُتَوَقع من ترتيب الحكم عليه حصولُ مصلحة، أو درْءُ مَفْسدة. كترتيب تحريم الخمر على الإِسكار، لِدَرْءِ مفسدة ذهاب العقل. والمناسَبَةُ هنا من كون هذه الأعْيان شريفة، لأنها يُقتات بها، أو لأنها رووس الأموال وقِيَمُ المُتْلَفات.
تنبيه:
قال أبو الوليد بن رشد في كتاب القواعد: الذين قصَروا الربا على النسيئة، إمّا أنهم ينكرون القياس، وهُم الظاهرية، وإمّا أنهم منكرون لقياس الشبَه خاصةً،
(51) قياس العلة: هو: (القياس المشتمِل على المناسِبِ بالذات، أو هو الذي يكون فيه الوصف الجامع بين الاصل والفرع؛ والشَّبَهُ بفتح الشين والباءِ مَسْلَكٌ من مسالك العلة.
وقياس الشبه هو إلحاق فرع متردد بين أصْليْن بأحدهما، الغالبُ شَبَهُهُ به في الحكم والصفة على شبهه بالآخَر فيهما.
لذلكم جاء عند القرافي توْضيحٌ أكْثَرُ له حيث قال: وقياسُ الشبَه إمَّا في شَبَه الحكم كقياس الوضوءِ على التيمم في وجوب النية لأنهما طهارتان، والطهارة حكم شرعي، أو الشبه في الصورة كقياس الخل على الدُّهن في منع إزالة النجاسة به، أو في المقاصد، كقياس الأرز على البُر بجامع اتحادهما في المقصود منهما عادة، وهل المناسبة حاصلة من كون هذه الأعيان شريفةً بالقُوت أوْ رُؤوس الأموال وقِيَم المتَلفات، فناسَبَ ألَّا يُيَدَّل واحدٌ منهما باثنين ويناسِبُ أيضا تكثير الشروط. الأظهر أنه (أي القياس في الربويات) من باب قياس العِلة لا من باب قياس الشبَه، كما قال القرافي رحمه الله.