الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثامنة والعشرون
في تمييز حقوق الوالدين عن الأجانب
. (314)
عن البعض ويظهر من مخالفة ذلك، فهو نادر في كل عصر وجيل، والنادر لا حكم له كما يقال، والله أعلم بالحق والصواب فيما يكون بين العلماء من اختلاف في وجهات النظر حول بعض المسائل والمفاهيم العلمية، وفوق كل ذي علم عليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وهذا الحديث أخرجه الشيخان والترمذي رحمهم الله عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنتُ رِدف الله قوله صلى الله عليه وسلم (أقوله راكباً خلفه) على حمار يقال له عُفَيْر (بالتصغير)، فقال: يا معاذ، هل تدرى ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟ قلت: اللهُ ورسولُه أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. قلت: يا رسولَ الله، أفَلَا أبشّرُ الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتَّكلوا"، أي إذا بشَّرتَهم بذلك اتكَلوا على العقيدة والشهادة والتوحيد بالقلب والفؤاد، وبالقول والألسنة، وتركوا الطاعة بالعبادة والأعمالِ الصالحة، وأداءَها بالاعضاء والجوارح.
وفي معناه ما رواه معاذ أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما مِن أحدٍ شهِدَ أن لا إلاه إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه الله علي النار، قال: يارسول الله، أفلا أخبِرُ به الناس فيستبشروا، قال: إذَنْ يتكلوا، وأخبر بها معاذ عند موته تأثما". أي تَجنباً للاثم، وخروجا من الوقوع في ذنب كتمان العلم، لأن الله سبحانه، وكذا رسولُهُ صلى الله عليه وسلم، أمر بتبلغيه وتعليمه للناس، للانتفاع في دينهم ودنياهم. فرضي الله عن كافة الصحابة ورحم سائر العلماء والمسلمين.
(314)
هي موضوع الفرق الثالث والعشرين بين قاعدة الواجب للآدميين على الآدميين، وبين قاعدة الواجب للوالدين على الأولاد خاصة، جـ 1. ص 142.
وقد بدأه شهاب الدين القرافي رحمه الله بقوله: وهذا الموضع مشكل، بسبب أن كل ما وجب للأجانب (وهُم غير الاقارب) وجب للوالدين، وقد يجب للوالدين ما لا يجب للاجانب، فما ضابط ذلك الحق الواجب للوالدين الذي امتازوا به عن الأجانب؟ هذا موضع الإشكال، وأنا أقرب ذلك وألخِصُهُ بأيهر مسائل وفتاوي منقولة عن العلماء تختص بالوالدين، فيظهر بعد ذلك تقريب هذا الموضع إن شاء الله تعالى، وذلك بثمان مسائل: وقد أوردها البقوري كذلك هنا.
وقد علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على هذا الكلام عند القرافي إلى تمام المسألة الخامسة بقوله: أكثْرُ ذلك نقل لا كلامَ فيه، وما فيه من كلام فهو صحيح، غير قوله: قال الشيخ أبو الوليد الطرطوشي، فإنه ليستْ كنيته (أبو الوليد). وإنما كنيته أبو بكر.
قلت: وهو كذلك، واسمه محمد بن الوليد بن محمد بن خلَف بن سليمان بن ايوب الفهري، وينسب إلى طرطوشة بضم الطاءيْن: بلد بالاندلس، وكنيته أبو بكر كما ذكره الفقيه العلامة ابراهيم بن فرحون في كتابه الشهير:"الديباج المذهب في أعيان علماء المذهب"، ويُعرف بابْن أبي رُنْدقة، وكما أورده وذكره الفقيه العلامة محمد بن الحسن الحجوى الثعالِبي في كتابه القيم:"الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي"، نقلا له عن كتب التراجم، كالديباج، =
قال شهاب الدين: الحق الواجب للوالدين الذي امتازوا به عن الاجانب يظهر تقريبه بذكر ثمان مسائل:
المسألة الأولى: جاء رجل إلى مالك وقال له: يا أبا عبد الله، لي والدة وأختٌ وزوجة، فكلما رأت لي الوالدة شيئا قالت: أعطِ هذا لأختِك، فإنْ منعتُها سبَّتْتي ودَعتْ عليَّ، فقال له مالك: ما أرى أن تغايِظها. تخلَّصْ منها بما قدَرت عليه، وتخلَّصْ من سخطها بوُسعك.
المسألة الثانية: جاَء رجل إلى مالك فقال له: والدي في بلاد السودان كتب إليَّ أقْدَمَ أن أقْدَمَ عليه، وأمّي تمنعني من ذلك، فقال: . أطِع أباك ولا تعص أمّك. ورُوي أن الليث أمَره بطاعة الأمّ، لأن لها ثلُثي قوله البِر كما حكاه الباجي قوله، أن امرأة كان لها حقّ على زوجها، فأفتى بعض الفقهاء ابنَبها بأن يتوكل لها على أبيه وكان يخاصمه، وبعضهم قال له: هو عقوق، والحديث إنما دل على أن بِرَّه أقلّ من بِرّ الأم لا أنه يُعْصَى. (315)
= ووفيات الاعيان لابن خلكان، ونفح الطب للمقري، وغيرهم من المؤلفين في تراجم العلماء والتعريف بمؤلفاتهم واعمالهم العلمية، فرحمهم الله جميعا، وأسكنهم فسيح جناته، واثابهم على ما قدموا من خدمة علمية للاسلام والمسلمين، ورحم كافة العباد المومنين.
(315)
قلت: البرور بالولدين مطوب شرعا وطبعا، ويعتبرُ أعظمَ أنواع البِر والخير، التي ينال بها العبد المسلم رضي الله ورضي العباد، ويكفى للدلالة على ذلك أن الله تعالى أمر بالإحسان اليهما في غير ما آية، وقرنَهُ بالأمر بتوحيده وعبادته، فقال تعالى في سورة النساء الآية 36:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} .
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن رضَى الله في رضَى الوالدين، وأن سخطه في سخطهما، وقدَّم الرعاية لهما والعناية بهما في حَالة كبرهما ضعفهما وعجزهما على الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، وجعل ذلك البرورَ بمنزلة الجهاد، فقال لأحد الصحابة رضوان الله عليهم وهو يريد الخروج إلى الجهاد: ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهِدْ (أي جاهد في سبيلهما =
المسألة الثالثة: قال في "الموازية (316) ": إذا منعه أبواه من الحج فلا يحجُّ إلا بإذنهما إلا الفريضةَ، فنصَّ على وجوب طاعتهما في النافلة، وقال في المجموعة:
= ومن اجل رعايتهما والبرور بهما، يكنْ لك ثواب الجهاد وفضله عند الله تعالى.
والحديث المشار إليه هنا عند الشيخ البقوري رحمه الله هو الحديث الصحيحِ المروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ أمك، قال: ثم من؟ قال أبوك". رواه الشيخان رحمهما الله.
(316)
الموازية أو كتاب الموارية بفتح الميم، هو للففيه الجليل والعلامة الكبير محمد بن ابراهيم بن زياد الاسكندري المعروف بابن المواز، المتوفَّى سنة تسع وستين ومائتين هجرية (629 هـ)، وهو من أبرز وجوه المدرسة المالكية، وفي أشهر رجالها وعلمائها الذين تفتخر بهم هذه المدرسة. وكتابه هذا (الموازية) يعتَبَرُ من أجَل كتب المالكية في الفقه، ومن أصحها وأوعبها مسائلَ، وأبْسطها كلاما وتعبيرا. وقد ظل هذا الكتاب عُمدة المالكية زمنا طويلا، واختفَى عن أنظار الدارسين في هذا العصر، ومنذ قرون سلفتْ. حيث لم يبِق منه إلا قطعة رَقية صغيرة من خمس وثلاثين ورقة في خزانة المرحوم الطاهر ابن عاشور، حسب إفادة صاحب كتاب تاريخ التراث (فؤاد سيزكين)، غير أن الجزء الأعظم منه ما زال محفوظا في كتاب النوادر والزيادات لمؤْلفه الشيخ ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، فقد احتفظ هذا الكتاب بنصوص كثيرة من الموازية لعلها تُشَكِل جُلَّ الكتاب.
وكان الذي أدخلَهُ إلى بلاد الغرب الاسلامي هو الفقيه العلامة درَّاس بن اسماعيل الفاسي، المتوفى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة (337 هـ)، أدخلَهُ أولا إلى تونس ثم أدخلهُ الي المغرب. وعن هذا الكتاب (الموازية) يقول أخونا وصديقنا العزيز الاستاذ الجليل، الدكتور الفاضل عمر الجيدى الذي افتقدناه رحمه الله، وهو في أوج نضجه وعطائه العلمي واستيعابه للمذهب المالكي ومؤلفاته المخطوطة منها والمطبوعة، وفي دماثة اخلاقه ولطف معاشرته، وكريم تواضعه. قال رحمه الله عن كتاب الموازية في كتابه القيم المفيد:"مباحث في المذهب المالكي بالمغرب": "وهو أحد الكتب الاربعة التي درج العلماء والفقهاء المالكية على تسميتها بالأمهات، وهي: المدونة، والواضحة، والعتبية أو المستخرجة، والموازية، وهي الكتب الفقهية التي شكلت الاسس التي قام عيها المذهب المالكي. ولقد وصَلَنَا ين هذه الأمهات كتابان هما: المدونة والعتبية، أما الواضحة والموازية، فلم يصلنا مهما إلا نُتَف يسيرَة موزعة في بعض المكتبات، وبحضها مبثوث في كتب الفروع، وبقدر ما نعتز بوجود المدونة والعتبية بقدر ما نأسف لضياع الواضحة والموازية". فليرجع إلى تلك المباحث ومَصَادرها من أراد التوسع في الموضوع.
يوافقهما في حجَّة الفريضة العامَ والعامين، وقال الأصحاب: لا يعصيهما في الخروج للغزو إلَّا أن يتَعيَّن بمفاجأة العدُوِّ. (317)
المسألة الرابعة: قال الغزالي في الإِحياء: (318) أكثرُ العلماءِ على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبُهاتِ دون الحرام، وإن كرِها انفراده عنهما في الطعام وجب عليه موافقتهما وياكلُ معهما، لأن ترك الشبهة مندوب، وتركَ طاعتهما حرام، والحرام مقدَّم على المندوب، ولا يسافِرُ في نافلة ومباح إلّا بإذنهما، ولا يبادرُ لحج الاسلام إلا بإذنهما، (319) ولا يخرجُ لطلب العلم إلا بإذنهما، إلا عِلْمٍ هو فرض عليه متعيَن ولم يكن في بلده من يُعَلِّمه، لأنه لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق.
وقال الحسن: إذا منعَتْه أمه عن صلاة العِشاء في الجماعة شفقةً عليه فليعصها. قال الشيخ أبو الوليد الطرطوشي في كتاب بِرّ الوالدَيْن: لا طاعة لهما
(317) فالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة ونصره دينه الحنيف فرض كفاية على المكلف القادر، إذا دعا داعِيه، ونادَى مناديه لتلك الغاية، وأمر به من تجب طاعته من خليفة المسلمين وإمامهم الاعظم في أي عصر أو مكان كان، وحينئذ إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
ويكون فرض عين حالة فَجءِ العدو لبلد من بلاد المسلمين. قال الشيخ خليل رحمه الله. في ذلك: "وتعيَّنَ بِفَجْء العدو وإن على امرأة وصبي، وعلى مَن بقربِهِم إن عجزوا".
(318)
المراد به كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي رحمه إليه، وهو من ابرز كتبه القيمة، وأشهر مؤلفاته العلمية الذائعة الصيت، اشتمل على علم غزيز متنوع، من فقه وتصوف وآداب وأخلاق
…
الخ، وهو كتاب مبارك نفع الله به المسلمين، ولا يكاد كتاب في العلوم الفقهية والإسلامية بصفة عامة، يخلو من ذكر كتاب الإحياء والإشارة اِليه، كما لا تكاد مكتبة عالمٍ فقيه أو متصوفٍ تخلوٍ من وجود كتاب الاحياء بينها لغزارة مادته وعلمه، ووفرة منفعته وفوائده، وخير وبركته، فقهاً وتصَوفاً، وفكراً وتوسّعاً، كما لا تكاد مكتبة عالم فقيه او متصوف تخلو من كتاب الشفا في التعريف بحقوق المصطفى للقاضي عياض وغيره من
المؤلفات القيمة لعلماء الاسلام رحمهم الله.
(319)
حجُّ الإسلام أو حَجةُ الإسلام، ويسميها الفقهاء، حجة الصَّرورة (بالصاد) هي الحجة الفريضة الواجبة مرَّة واحدة في العمر علي من توفرت له الاستطاعة المالية من المسلمين، باعتبار الحج ركنا من أركان الدين، وقاعدة من قواعده الخمسة المعلومة من الدين بالضرورة لدى كل مسلم ومسلمة، مصداقا لقول الله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . سورة آل عمران، الآية 97.
في ترك سُنةٍ راتبة (320) وتركِ ركعتي الفجر والوتْر ونحوِ ذلك إذا سألاهُ ترك ذلك على الدوام، بخلاف ما لو دعواه لترْك أول وقت الصلاة، فإنه تجِبُ طاعتهما وإن فاتته فضيلة أول الوقت. (321)
المسألة الخامسة: في صحيح مسلم، حديث جُريج الراهبِ مع أمّه يدل على قطع النافلة لأجْلِ الأم، ويلزم من ذلك أن لا تكون واجبةً بالشروع، أو يقال: ما وجب بالشروع يُقْطَعُ للأبوين، بخلاف الواجب بالأصالة. (322)،
(320) السنن الراتبة أو الرواتب كما ذكرها علماء الحديث والفقه وعرفوها في كتبهم الفقهية هي: نوافل الصلاة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب ويداوم على صلاتها، إما قبل أداء الفريضة أو بعدها، ونجد ذكرها وتوضيحها في حديث أم حبيية رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتى عَشْرةَ ركعة تطوعاً غيرَ فريضة إلا بَنَى الله له بيتا في الجنة، قالت أم حبيبة: فما برحْتُ أصليهن". رواه الائمة: مسلم وأكثر أصحاب السنن. وفي رواية الترمذي: يُصَلِّي أرْبعاً قبل الظهر وركعتين بعْدَها، وركعتيْن بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر. وهناك روايات أخرى مقاربة لهذه في موضوع النوافل الرواتب من حيث اللفظ والمعنى، فليرجع إليها من يرغَبُ في استيعابها.
(321)
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الوقت الأول (أي لأداء الصلاة فيه) رضوان الله، والوقت الآخِرُ عفو الله"، أي إن الصلاة في آخره تقصير، يرجو معه المصلى عفو الله وفضله، وقبوله بالجود والكرم، والاحسان منه سبحانه.
(322)
الحديث أورده الامام مسلم رحمه الله في باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، من كتاب البرِّ والصلة والادب: قال: حدثنا شيْبان ابن فروخ، حدثنا سليمان بن المغيرة، وحدثنا أحمد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان جُرَيْجٌ يتعبد في صومعة، فجاءت أمه قال حُميد: فوصف لنا أبو رافع صفةَ أبي هريرة لصفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّهُ (أي أمَّ جريج) حين دعتْه كيف جعلت كفها فوق حاجها ثم رفعتْ رأسها إليه تدعوه، فقالت: يَا جُريجُ، أنا أمك كلِّمْني، فصادفتهُ يصلي، فقالَ: اللهم أمي وصلاتي، قال: فاختار صلاتَه، فرجعَتْ ثم عادت في الثانية، فقالت: يا جريحُ أنا أمك فكلمني، قال: اللهم أمي وصلاتي، فاختارَ صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني، وإني كلمته فأبَى أن يكلمني، اللهم فلا تُمِتْه حتي تُريهُ المومسات، قال: ولو دعَت عليه أن يفُتَنَ لفُتِنَ. قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): وكان راعي ضأن يأوي إلي دِيرهِ (أي مكان تعبُّدِ جُريح)، قال: فخرجت امرأة من القرية، فوقع عيها الراعي، فحملت، فولدت غلاما، فقيل لها: ما هذا؟ قالت من صاحب هذا الدير، قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم، فنادوْه، فصادفوه يصلى فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون دِيره، فلما رأى ذلك نزل اليهم، فقالوا له: سل هذه، فتبسم ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن.
قال الإِمام النووي رحمه الله: قال العلماء: فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني ما هدَمنَا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا، لكن أعيدوه ترابا كما كان" اهـ.
غيرَ أن الاستدلال بالحديث فيه نظر، إذ ليس فيه إلا إجابةُ دعائِهِما، وذلك لا يلزم منه وجوبُ حقٌ الداعي وأنه مظلوم، فإن الظالم قد يجاب دعاؤه على المدعو عليه المظلوم، ويكون ذلك بسبب ذنب يسبقُ للمظلوم فعله فيعاقبه الله بهذا.
وهذا لقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
ومما يدل على تقديم طاعتهما على المندوبات ما في مسلم، أن رجلا قال: يارسول الله، أبايِعُك على الهجرة والجهاد، فقال له: هل من والديك أحد؟ قال: نَعَم، كِلَاهما، قال: فتبتغى الأجْرَ من الله؟ قال: نعم، قال: فارجع إلى والديك فأحسِنْ صحتهما" (323). فجعل عليه السلام الكونَ مع أبويه أفضلَ من الكون معه ومِنْ الجهاد في أول الاسلام. وَمع. أنه لم يقل في الحديث: إنهما منعاه، بل هما موجودان فقط، فأمَرَهُ عليه السلام بالأفضلِ. وهذا الحديث أحسنُ شيء في حَق الوالدين، وإذا قَدَّم عليه السلام حقَّهما على فروض الكفايات فأنْ يُقدَّمَ على النفلِ أوْلى وأحق. (324) وحديث جُريج يروَى في بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان جُريج فقيها لَعَلم أن إجابة أمّه أفضل من صلاته". وعلى التقدير يكون ذلك دليلا صحيحا.
ومما يدل على تحريم أصل العقوق قولُهُ تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} (325). وإذا حرُمَ هذا حرم ما فوقه بطريق الأولى. ويدل على مخالفتهما (232) أخرجه الإِمام مسلم رحمه الله في باب البر بالوالدين وأنهما أحق به، (من كتاب البر والصلة والأدب
(324) وقد علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على ما جاء في هذه المسألة الخامسة بقوله:
جميع ما قاله القرافي في ذلك من نقل وغيره صحيح، غير قوله:"وإذا قَدَّم خدمتها على فروض الكفايات فعلى النفل بطريق الأولى"، فإنه لقائل أن يقول: ليس ذلك في النفل أولى، لأن تركه فرضَ الكفاية مع قيام غيره به لا تفُوتُ يه مصلحة، وترك النفل تفوت به مصلحة نك النفل، قال ابن الشاط: ويمكن الجوب بأن مصلحة النفل إنما هي مجرد الثواب، وكذلك مصلحة فرض الكفاية في حق من هو زائد في العدد على ما يحصل به المقصود من ذلك الفرض، لكن ثواب فرض الكفاية أعظم. فتتحققت الأولويَّةُ.
(325)
سورة الإسراء، الآية 23، وقد سبق ذكرها والإِشارة إليها.
في الواجبات قولُه تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} . (326).
وفي الآية فائدتان:
الفائدة الأولى: أن الأبوين يجب بِرُّهما ويَحرُمُ عقوقهما وإن كانا كافريْن، فإنه لا يامر بالشرك إلا كافرٌ، ومع ذلك فقد صرَّحَتْ الآية بوجوب برهما.
الفائدة الثانية: أن مخالفتهما واجبة في أمرهما بالمعاصي، ويؤكد ذلك قولُهُ عليه الصلاة والسلام:"لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق". (327)
المسألة السادسة: قال الطرطوشي رضي الله عنه: أمّا مخالفتهما في طلب العلم، فإن كان في بلده يجد ذلك ثم أراد أن يسافر إلى بلد آخر هو مثل بلده، لَمْ يجُزْ له السفر إلا باذنهما، لأن إذنهما لا يجوز إلا لضرورة، ولا ضرورة هنا، وإن أراد الخروج لمعرفة الكتاب والسُّنة والأدلة والنصوص إلى الاجتهاد، وإن لم يكن ذلك في بلده وكان ذلك في البلد الذي أراد السفر إليه خرج، ولا طاعة لهما إذا منعاه، لأن تحصيل درجات المجتهدين فرضُ على الكفاية، قال سحنون: من كان أهْلا للإِمامة ففرضٌ عليه أن يطلبها، لقوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ} . (328)
(326) وتمامها قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . سورة لقمان الآية 15.
ومثلها قوله تعالى تأكيدا على البرور بالوالدين: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8]
(327)
أورده الإِمام السيوطي رحمه الله في كتابة الجامع الصغير، رواية ونقلا عن الإِمام أحمد بن حنبل في المسند، والحاكم في كتابه المستدرك، ورمز له بالصحة. وأوردَ له نصا آخر بمعناه عن علي رضي الله عنه وهو "لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" متفق عليه. وفي معناه الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السمعُ والطاعة على المرء المسلم فيما أحبَّ أو كَرِه، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أَمِرَ بمعصية فلا سمعَ ولا طاعة" رواه الشيخان، أكثرُ أصحاب السنن رحمهم الله.
(328)
ونصُّ الآية بتمامها: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]
قال شهاب الدين: قد تقدم أن مخالفتهما في الجهاد الذي هو فرض كفاية لا تجوز، لما تبين في الحديث، وهذه الفتوى من أبي الوليد وسحنون بخلاف ذلك، فقال في الجواب: العِلْمُ وضَبْطُ الشريعة وإن كان فرضَ كفايةٍ، غير أنه يتعيَّن له طائفة من الناس، وهم الذينٍ جَادَ حِفْظُهُم، ورَاقَ فهمُهُم، وحسُنَتْ سيرتهُم. وإذا كانت هذه الطائفةُ متعينة بهذه الصفات فطلَبُ العلم عليها فرض عين، فلعل هذا هو معنى كلام سحنون وأبي الوليد. (329)
قلت: هذا تكَلَّفٌ بعيد، فالتصريح قد وقع من أبي الوليد في مخالفتهما في فروض الكفاية، وأيضا فكيف يصيرُ متَعَيّنا على من كانت فيه تلك الصفات التي ذكَر، بل لا يزال فرض كفاية إلا أن يُفرَضَ أنه ليس على وجه الارض أحدٌ هو على ذلك الوصف من التهيؤ غيرُهُ، وهذا لا يتأتى ولا يُتصوَّرُ صحة فرضه، والله أعلم.
المسألة السابعة: إن أرادَ سفراً للتجارة يرجو به ما يستعين به على الاقامة (330) فلا يخرج إلا بإذنهما، كان رجا أكثر من ذلك وهو في كفاف، وإنما
(329) المراد بأبي الوليد هنا هو العلامة الطرطوشي، كما ذكره القرافي، وقد سبق أشرت في تعليق سابق أن ابن الشاط نبه قبل هذه المسألة وعندها، هنا إلى أن الصواب في كنيته هو أبو بكر، وأنه بذلك ذكرته كتب التراجم، وكما صححه ابن الشاط فيما سبق وفي التعليق الآتي:330. ثم قال القرافي، في نهاية هذه الفقرة: والجهادُ يَصلح له عموم الناس فأمرُهُ سهْلٌ، وليس الرَّمْي بالحجَر، والضربُ بالسيف كضبط العلوم، فكل بليد أو ذكي يصلح للاول، ولا يصلح للثاني إلا من تقدم ذكرُه، فافهم ذلك.
وكلام سحنون كما ذكره القرافي هو قوله: من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم ففرض عليه أن يطلها، لقول الله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، ومن لا يعرف المعروف كيْفَ يامرُ به، أو لا يعرف المنكر كيف ينهي عنه" اهـ كلام سحنون كما ذكرِه القرافي رحمهم الله جميعا
قلت: ومن ذلك قول إلله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122].
(330)
كذا في جميع النسخ الثلاث المعتمد في هذا الترتيب والاختصار عند البقوري. وعبارة القرافي: قال أبو الوليد: إن أراد سفرا للتجارة يرجو به ما يحصل له في الاقامة فلا يخرج إلا بإذنهما". وعقب الشيخ إبن الشاط على ما جاء في هذه المسألة السابعة بقوله: ما قاله القرافي في ذلك صحيح، غير قوله. قال أبو الوليد، فإنه أبو بكر، كما سبق ذكره قربيا التعليق 314 ص 525.
يخرج تكاثراً، فهذا لو أذِنَا لهُ نهينَاه، وإن كان المقصود منه دفع حاجات نفسه أوْ أهلِه، بحيث لو تركَه تأذَّى بتركه، كان له: مخالفتهما، لقوله عليه السلام:"لا ضرَر ولا ضرار"(331). وكما نمنعه من أذيتهما نمنعهما من أذيته، بل ضرورته
(331) رواه الإِمام مالك رحمه الله في الموطأ مرسَلا في ترجمة القضاء في المرفق من كتاب الأقضية عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه يحيى بن عُمَارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا ضرر ولا ضِرار"، أيْ لا يضُرُّ الانسان أخاه فينْقصُه شيئا من حقه، ولا يجازى من ضَرَّه يإدخال الضرر عليه، بل يعفو. فالضرر فعلُ واحد، والضِرَار فعل اثنين. فالاول إلَحاق مفسدة بالغير مطلقا، والثاني الحاقها به على وجه المقابلة، أيْ كل منهما يقصد ضرر صاحبه بغير جهة الاعتداء بالمثل.
ثم زاد الشيخ الزرقاني رحمه الله في شرحه على الموطأ قائلا: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث كما في التمهيد، ورواه الداروري عن عمرو بن يحيى عن أبيه في أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه، موصُولا، بزيادة:"من ضارَّ أضَرَّ اللهُ به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه". أخرجه الدارقطني والبيهقي وابن عبد البر والحاكم. ورواه الإِمام احمد رحمه الله برجال ثِقَاتٍ، وابن ماجةُ رحمه الله من حديث ابن عباس وعُبادةَ بن الصامت رضي الله عنهما. وأخرجه ابن أبي شبية وغيره رحمهم الله، من وجه آخر أقوى منه. وقال فيه الامام النووي رحمه الله: حديث حسن، وله طرق يُقوي بعضها بعضا، وقال العلائي رحمه الله: لَهُ شواهد وطُرق يرتقى بمجموعها إلى درجة الصحة، وذكره الامام النووي في أحاديثه المعروفة بالأربعين النووية، وذكر أبو الفتوح الطائي رحمه الله في الاربعين أن الفقه يدور على خمسة أحاديث، هذا أحدها.
قلت: ومن جلتها ما نقله الامام السيوطي رحمه الله في أول كتابه: "الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية" عن أبي داود رضي الله عنه، وهي أحاديث:"الأعمال بالنيات""والحلال بيين والحرام بين"، و "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه".
وقال الإِمام احمد: أصول الإسلام تقوم على ثلاثة أحاديث: "الأعمال بالنية"، و"ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" أي مردود عليه، وغير مقبول منه، و "الحلال بين والحرام بين"، وقال أبو داود: مدار السنة على أربعة أحاديث: "الأعمال بالنيات" و "مِن حُسْن اسلام المرء تركه مالا يَعنيه"، و "الحلال بين، والحرام بيين"، "وإن الله تعالى طيب لا يقبَلُ إلا طيبا"وفي لفظ آخر له:"لا يكون المومن مومنا حتى يرضى لأخيه ما يَرْضى لنفسه".
وذكر الإِمام الدارقطني أن الحديث الرابع هو: "إزهَدْ في الدنيا يحبَّك الله".
وذكر الخفافُ من علماء الشافعية أن مدار الأحاديث على أربعة: "الأعمال بالنيات"، و "لا يحِل دم امرئ مسلم إلا باحدى ثلاث"، و "بُني الاسلام على خمس" و "البينةُ على المدعى واليمين على من أنكر"، إلى غير ذلك مما قاله العلماء في هذا الموضوع من أن حديث "الأعمال بالنيات" يدخل في ثلاثين بابا من العلم، وقيل في سبعين بابا من العلم والعمل، فلْتُحفَط هذه الأحاديث، ليكن العيلُ بها كلها، فإنها أصول الدين والفقهِ الذي نتَعَبدُ الله به، ونرجو منه القبول بمنه وفضله سبحانه، فهو الجواد الكلام، ذو الفضل العظيم.
تُقَدَّم عليهما. (332)
قال: فإن قلتَ: قد قال مالك: إذا بلغَ الغلامُ ذهبَ حيث شاء، قال: قلتُ: هذا في الحضانة، لأنه قبل البلوغ كان تصرفه بإذن كافله، فإذا بلغ ذهب حِجْر الحضانة ويحَجَّر حَجْر البِّر، (333) ويؤكدُ ذلك قولُ مالك في الذي دعاه أبوه من بلاد السودان ومنعتْهُ أمُّه، فمنعه مالك من الخروج بغير إذن الأم، (334) فهو بعدَ البلوغ يمشى في البلد حيث شاء دون السَّفَرِ، فإن لحقتْهُما إذايةٌ في تصرفه في البلد منعاه مطلقا. (335)
(332) عبارة القرافي هنا تبدو أظهر وأوضح، حيث مثل لذلك بقوله:"فإنه لو كان معه طعام إن لم ياكله هلك، وان لم ياكلاه هلكَا، قُدِّمتْ ضرورته عليهما".
قلت: ويستحضر المرء هنا ما يمكن أن يوحى بأولوية تقديم الابن للابوين على نفسه وأولاده في مثل هذه الحال ويستفاد منه ذلك، وهُوَ حديث النفَر الثلاث الذين لجأوا إلى غار ودخلوه، فانسدَ عليهم بابه بصخرة عظيمة عجزوا عن إزاحتها وتحريكها، فتوجهوا إلى الله بالدعاء، وتوسلوا إليه سبحانه بأعمالهم الصالحة، الخالصة لوجهه الكريم، وكانوا كما توسل بعضهم بذلك انفرجت فرجة في باب الغار يرون منها النور والسماء، وكان من جملة دعاء أحدهم وتَوَسُلِهِ إلى ربه العلى القدير أنه قال: اللهم إنه كان لي والدانِ شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعَى عليهم، فإذا رحتُ عليهم حلَبتُ، فبدأت بوالدَي أسقيهما قبلَ بَنيّ، وإني استاخرتُ ذاتَ يوم فلم آتِ حتى أمسيْتُ، فوجدتهما نائمين، فحلبت كما كنتُ أحلب، فقمت عند رأسهما أكْرَه أن أوقظهما، وأكرَهُ أن أسْقِي الصبْيَةَ، والمحبيَةُ يتضاغَوْن عند رِجْلي (أي يبكون من الجوع) حتى طلع الفجر، فإن كنتَ تعلم أني فعلته ابتغاءَ وجهك فافرُجْ لنا فُرجة نرى منها، ففرجَ اللهُ، فرأوا السماء
…
". وهذا الحديث صحيح أخرجه الإِمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، ويذكره العلماء والمحدثُون في فضل إخلاص النية والعبادة لله تعالى، وفي فضل البرور بالولدين.
(333)
كذا في نسخة وفي نسخة ح: يجدَّدُ. وفي نسخة ت: وتجرد، وهُوَ تصحيف في الفعل: تجدد، كما تدل عليه عبارة القرافي هنا: وهي قوله: "وتجدَّد حِجْرُ البِرِّ" بعنى دام واستمَرَّ.
(334)
تمام كلمة الإِمام مالك كما هي عند القرافي: "أطِع أباك، ولا تعْصِ أمَّك".
(335)
عبارة القرافي: فهو بَغد البلوغ يمشي في البلدِ حيث شاء دُون السفر، إلَّا أن يكون في ربيةٍ وهُما يتَأذيان، فيمنعانه مطقا.
قَلت: وقد أورد القرافي في آخر هذه المسألة السابعة سؤالا وجوابا اختصرهما الشيخ البقوري، ورأيت أن اذكرهما، نظراً لاختصارهما وتميماً للفائدة منهما فقال:
(سؤال): قوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} . [سورة البقرة الآية: 232)، والنكاح مباح، وقد نهى الأبَ عن منع ابنتِه منه، فلا تجب طاعُتُه في تركِ المباح، وفي تَرك المندوب بطريق الْأولى؟ =
المسألة الثامنة في بيان الواجب من صلة الرحم.
قال الشيخ أبو الوليد (336) الطرطوشي: قال بعض العلماء: إنما تجب صلة الرحم بين كل شخصين لو كان أحدهما ذكراً والاخَرُ أنثى لم يتناكحا، كالآباء والأمهات، والأخوات والِإخْوة، والأجْداد والجدات وإنْ عَلوْا، والأولادِ وإن سفلوا، والأعمامِ، والعمات، والأخوال والخالات، فأما أولاد هؤلاء فليست الصلة بينهم واجبة لجواز المناكحة بينهم. ويدل على صحة هذا القولِ تحريمُ الجمع بين الأختين، وبين المرأةِ وعمَّتِها، وخالتِها (337) لما فيه من قطيعة الرحم، ويجوز الجمع بين بنتي العَمّ، وبنْتي الخال، وإن كُنّ يتغايَرْن ويتقاطعْنَ، وما ذاك إلا أن صلة الرحم بينهم ليست بواجبة.
= جوابهُ ان البنتَ لها حق في الإعفاف والتصَونِ ودفع ضرر مواقعَة الشهْوة وسَد ذرائع الشيطان عنها بالتزويج، فإذا كان ذلك حقاً لها، وأداءُ الحقوق. واجبٌ على الآباء للأبناء، ولا يلزم من وجوب الحق عليهم للأبناء جوازُ إذَاية الآباء باستيفاء ذلك الحق. ألا ترى أن مالكاً في المدونة منع من تحليف الاب في حق له، وقال: إن حَلفَهُ كانَ جرحة في حق الوالد، فالآية ما دلَّتْ إلا على الوجُوب على الآباء لا على إباحة إذايتهم بالمخالفة.
(336)
سبق تنبيه ابن الشاط إلى أن الصواب هو أبو بكر. وأنه كذلك في كتب التراجم، كالديباج المذهب وكالفكر السامي، وغيْرهما.
(337)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَا يُجمعُ بين المرأة وعمتها ولا بيْن المرأة وخالتها"، رواه الإِمام مالك في الموطأ، وأخرجه الشيخان وأغلبُ أصحاب السنن رحمهم الله، وقد نقل الزرقاني في شرحه على الموطأ أن القاضي عياضا رحمه الله قال: أجْمعَ المسلمون على الأخذ بهذا النهي، إلا طائفة من الخوارج لا يُلتَفَتُ إليها، واحتجت هذه الطائفة يقول الله تعالى في المحرمات بالنسَب "وأن تَجمعُوا بين الأختين" (أي حُرم عليكم الجمع بين الأختين في عصمة النكاح)، وبقوله سبحانه:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ، وقالوا: الحديث خبَرُ واحد، والآحادُ لا تخصّصُ القرآن ولا تنسَخُهُ، وهي مسألة خلاف بين الأصوليين. والصحيح جواز الأمرين، لأن السنة تُبَيِّنُ القرآن الكريم، ولأن علة المنع من الجمع بين الأختين، وهىَ ما تحمل عليه الغيْرَة من التقاطع والتدابُرِ، موجودة في ذلك، وقاسَ بعض أهل السَّلَف عليه جُملة القرابة، فمنع الجمعَ بيْن بنتَيْ، العم وبنتَيْ العمة، والخالَة، والجمهور على خلافه، وعلي قصر التحريم على ما وردَ فيه نص، أو ما ينطلق عليه من لفظه، من العمات والخالات وإن عَلَوْن كما قال ابن شهاب في الصحيحين، فيرى عمةَ أبيها، وخالَة أبيها بتلك المنزلة، وهو صحيح، لأن كلا فهما يطلق عليه اسم عمة وخالة، لأن العمة هي كل امرأة تكون أخْتاً لرجُلٍ، له عليك ولادة، فأختُ الجد للاب عمة، وأختُ الجد للأم خالة. وقال النووى: العمة حقيقة، إنما هي أختُ الأب، وتُطلَقُ مجازاً على أختِ الجد أوْ أبي الجد وإن على، والحالة أخت الأم، وتطلق على أخت أم الأم أو أمَّ الجد، سواء كانتْ الجدة للأب أو الأم. =
"سؤال": قوله عليه الصلاة والسلام: "صِلُةُ الرحم تزيد في العمر"، وقد عليه السلام:"من سَرَّة السَّعة في الرزق والنَّماء في الأجَل فلْيصِلْ رحمه"(338)، كيف يكون هذا والأمورُ قد فُرِغ منها في الأزل (339).؟
فمن العلماء من قال: إنما ذلك بزيادة البركة. وقال شهاب الدين: هذا لا ينبغي، لأن تلك البَركة داخلة في القَدَر، وهذا الجواب يُوهِمُ أنها ليست داخلة فيه. وأيضا ففيه فساد من حيث إن القصد بالحديث التحريضُ على هذا الخير، والحثُّ على صلة الرحم، فإذا سمع أحدٌ أنه لا رزيد إلا البركةَ كَسَل عن
= والمرادُ ببنْتيْ العمة والخالة والعم، كما كره الزرقاني والقرافي هنا هو بنتا العمتين والحالتين المتعددتَيَن، أو العميْن والخاليْنِ كذلك، بحيث تكون كل ينت منْهما بنتا لعمة أخرى أو خالة أخرى، أو لعم آخر وخالٍ آخر، لأن بنتي العمة أو الخالة الواحدة، أو الخال والعم الواحد تكونان أختيْن من النسب، والإختان لا يجوز الجمع بينهما في العصمة الزوجية بحال، وهذه المسألة من البَدَاهة والوضوح بمكان لدى السادة العلماء والفقهاء، وإن المقصود من إيرادها والتنبيه لها هو دفع ما قد يتبادر إلى ذهن البعض من استشكال العبارة عند من تبدو له مشكلة أثناء قراءتها لأول وهلة، وهي في الواقع عند التأمل سليمة واضحة، والأختان من الرضاعة كذلك، حيث إنه يحرمُ من الرضاع ما يحرم من الرحِمِ والنسَب كما هو معلوم شرعا واجماعاً.
(338)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن سَرة أنْ يُبسَطَ له في رزقه، وأنْ يُنْسَأ له في أثَره (أيْ أن يُزَادَ له في أجَله) فليَصِلْ رَحِمَه" رواه الشيخان وأبو داود رحمهم الله.
(339)
عن عبد الله بن مسعود ضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، قال:"إن أحدكم يُجمعَ خَلقُهُ في بطن أمه أربعين ووما نُطفة، ثم يكون علَقة مثلَ ذلك، ثم يكون مُضغة مثلَ ذلك، ثم يرسَلُ إليه الملَكُ، فينَفخُ فيه الروحَ، ويُومَرُ بأربع كلماتِ: بكَتب رزقهِ، وأجله، وعمَله، وشقيّ أو سعيد، فوا اللهِ الذي لا إلاه غيرُه، إنّ احدَكم لَيعمَلُ بعملَ أهل الجنة حتى ما يكونَ بينه وبيْنها إلا ذِراعٌ، فيسبِقُ عليه الكتاب، فيَعملُ بعمل أهل النار فيدخلُها، وإن احدكم لَيعمَلُ بعمل اهل النارِ حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بحمل أهل الجنة فيدخلها". متَّفَقٌ عليه بين الشيخين: البخاري ومسلم رحمهما الله.
وهذا الحديث النبوي الشريف يشير إلى ما تضمنته الآية الكريمة في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12 - 16]
ذلك، وإنما الجواب - قال: أن يقال: ان الله قدَّر في الأزل أن يَعيش المرء ثلاثين سنة مرتَّبة على الأسباب العادية من الغِذاء والتنفس في الهواء، ورتَّب له عشرين سنة أخرى على هذه الأسباب، وصلةُ الرحم يجعلها الله تعالى سببا كَما الغِذاءُ سبب للعيْش، ويقال لذلك: إنها تَزيد في العُمُرِ حقيقة كما يقال: الإيمان سببُ الجنة، والكفر سبب النار. وعلى هذا التقديرِ ينبسط السامع لهذا ويسهل عليه صلة الرحم، ويبقى الحديث على ظاهره لا يُتأوَّل ويُخْرَجُ عن ظاهره. وهذا الجواب يجري في الدعاء أنه يرُدُّ القضاءَ ويزيد في العمر والرزقِ وما أشبهَ ذلك (340).
وهنا أيضاً سؤال صعب، وردَ في قوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ، (341) فقال بعضُ الفقهاء: هنا سؤال، وهو أنه عليه السلام إذا علِمَ الغيب، والذي في الغيب هو هذا الذي قد قدره الله تعالى من الخير، فكيف يستكثِر من الخير على تقدير الِاطلاع على الغيب.؟
والجوابُ أن الله تعالى قدّرَ الخيْر والشر في الدنيا والآخرة، وجعَل لكل مقدور سبباً يترتب عليه ويرتبط به. ومن جملة الأسباب، الأسبابُ التي جرت عادته بها من العلوم والجهالات، فالجهل سببٌ عظيم في العالم لمفاسدَ من أمور الدنيا والاخرة، والعلم سبب عظيم لتحصيل مصالِحَ ودرْء مفاسدَ في الدنيا والآخرة. فالذي دفع إليه الْسُّمُّ فأكلَه فمات إنما قدَّر الله له أن يموت لجهله بتناول السم،
(340) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن سَرة أن يستجيبَ الله له عند الشدائدِ والكُرَب، فليكثر الدعاء في الرخاء"
وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدعاء ينفعُ مما نَزَل ومما لم يَنْزِل، فعليكم عِبادَ الله، بالدعاء" هـ
وعن سلمانَ رضي الله عنه عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يَرُدُّ القضاءَ إلا الدعاءُ، ولا يزيدُ في العُمُرِ إلا البِرُّ" روى هذه الأحاديث الإمامُ الترمذي رحمه الله.
(341)
وأول الآية قولُ الله تعالى خطابا لنبيه الكيم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]
ولو علمه لم يتناوله فلم يمُتْ، فلو قَدَّر الله تعالى نجاته منه قدَّر اطلاعه فسَلِم، فيكون سببَ سلامته عِلْمُهُ، فالمقدَّر على تقدير الجهل نحن نمنع أنه مقدَّر على تقدير العلم، بل ضده، فالرزق الحقيرُ إنما قدره الله لأهله على تقدير جهلهم بالكنوز وعمَلِ الكيمياء وغير ذلك من اسباب الرزق، أما مع العلم بهذه الأسباب العظيمةِ الموجِبةِ في مَجْرَى العاداتِ سَعةَ الارزاق، فلا نُسَلّم أن الله تعالى قدَّر ضيق الرزق على هذا التقدر، كما نقول: ما قدَّر الله دخولَ الجنة إلا على تقدِير الايمان، أما مع عدمه فلا نسَلِّمُ أن الله تعالى قدَّر لهم الجنة، وما قدر للكفار النار إلا على قدر جهلهم با لله تعالى، أما على تقدير علمهم با لله تعالى فلا نسلم أنه قدَّر لهم النارَ، وعلى هذه الطريقة يتضحُ لك أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لو اطلع على الغيب كثَرُ عنده مِنْ الخير ما لم يكن عنده الآن، وما مسَّه السوء.
فائدة: إنَّ ناسا يقولون: الأب ثلثُ البرّ وللام الثلثان، وقيل: الأب الربع، والأم ثلاثة أرباعه، وهذا لقوله عليه السلام: ثم أبوك في الثالثة في رواية. وفي الرواية الاخرى: ثم أبوك في الرابعة. (342)
قال شهاب الدين: وهذا ليس بصحيح، بل أقلَّ من ذلك بكثير، وهذا من حيثُ ثُمَّ التي التراخي، فهى تُعطى أن الرتبة الثانية أخْفَض رتْبةً من التي قبلها بكثير، ثم الثالثةُ أخفضُ من الثانية كذلك بكثير، فكيف يقال: الثلث، أوْ يقال الربع، وهذا الحرف أعطَى نقصان المرتبة الأخيرة عن التي قبلها بمراتب عديدة، ولابُدَّ، أقلَّ من الثلث ومن الربع قطعاً، وإذا كان الأمر هكذا فلَيس بصحيح ما قاله مَن تقدم، من الثلث والربع.
(342) إشارة إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، مَنْ أحق الناس بحسْن صحابتي؟ (أيْ من هو أوْلاهم بحسْن معاشرتي وبُروري وإحسان) قال: أمك، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: امك، قال: ثم من؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْأ قال: أبوك" رواه الشيخان رحمهما الله.
وعنه أيضا قال رجل: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ الناس يحسْن الصحبة؟ قال أمُّك، ثمّ أمُّك، ثم امُّك، ثم أبوك، ثم أدْناك فأدناك"، أيْ الأقربُ إليك فالأقرب، رواه الإِمام مسلم رحمه الله تعالى.
ثم قالَ: فإن قلْتَ: هل يتعَيَّنُ ذلك بعد تسليم بطلانِ المقدَّر المذكور؟ فقال: قلتُ: ذلك عسير عليَّ، وإنما الذي يتيسر لي إيراد السؤال، أمَّا تحرير ذلك فلا.
قلت: بل الظاهر ما قاله مَن تقَدَّم. وهذا كقوله عليه السلام لمَّا قيل له: أكْبَرُ الكبائر يا رسولَ الله؟ قال: أن تجعلَ لله ندًّا وهو خلَقَك، قيل: ثم ماذا؟ قال: أن تَقتلَ ولدك خشيةَ أن يَطْعَمَ معك، قيل: ثم ماذا؟ قال: أن تزاني حليلة جارك". (343). فكما أن قتل النفس هنا في الرتبة الثانية والزنى في الرتبة الثالثة، ولا تَوَسُّطَ بين شيئين مما ذُكر، وإن كانت لفظةُ ثُمَّ ثابتةً، وكذا الأمر في قوله: ثمّ من؟ فيقول: أمُّك، في أنه يفيد أن الأم لها من البر التقديم برتبتين أو ثلاثِ رُتب حسبما في الحديث من اختلاف الرواية.
وأقول: أشار بالرواية الواحدة إلى ما اختصّت به الأم من الحمل والرضاع كما قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} ، (344) فزادت بهذين، واشتركت بعد ذلك مع الأب في القيام به فيما عدا الرضاع، (345) وقدَّم الأب بالذكر، وبالرواية الأخرى أشيرَ إلى المختص المذكور، وذلك شاقّ كما تقدم.
(343) أخرجه الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئِل: أيّ الذنب أعظمُ؟ فذكر الحديث.
وفي معناه حديثٌ آخَرُ صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بأكبرِ الكبائر؟ قالوا: بَلَى يا رسول الله، (أيْ أخْبِرنا بها لنتعرَّفها فنجتنِبَها). قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالديْن، وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قُلْنا: لَيْتَهُ سكتَ".
(344)
والآية من أولها هي قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15].
(345)
عدَا أداةُ من أدوات الاستثناء مثل خلا، ويكون ما بعدهما مستثنى مجرورا على اعتبار أنهما حرفان من حروف الجر، أو منصوبا على انهما فعلان، ويتعين نصبُ المستثنى بهما حينئذ، إذا كان مسبوقا بما، كما في هذه العبارة، والى ذلك يشير ابن مالك في ألفيته بقوله:
واشتثْنِ ناصباً بـ ليس وخلَا
…
وبِعَدَا وبيكونُ بَعدَ لا
واجرر بسابقَيْ يكونُ إن تُرِد
…
وبعدما انصِبْ وانجرارٌ قد يَرِدْ
وحيث جَرَّا فهُما حرْفانِ
…
كما هُما إن نَصَبا فِعْلانِ
كخلا حاشا، ولا تصحبُ، مَا
…
وقيل: حاشَ وحشا فاحفَظْهُمَا
ثم إن المشترَك، وهو إنزال الماء الذي منه تصَوَّر، كان منهما معا، واستقر الابن عندها، فكان لها التقديم أيضا بهذا المشتَرك، فذكرَ ذلك ثلاث مرات، وفي الرابعة يكون الأب، وأظن هذه الرواية هي الثابتة، ومَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ على من لم يَحْفظ، والله أعلم.
قال شهاب الدين: فإن قلت: ثمّ حرف عطف يقتضي معطوفاً ومعطوفا عليه، وليس معَنَا قبلَها ولا بعدَها إلا الأمُّ، فيَلزَمُ أن تكون معطوفة على نفسها في الرتبة الأولى والثانية، والقاعدةُ العربية أن الشيء لا يُعْطَف على نفسه، ثم قال: قلت: هذا أيضا سؤال مشكل.
ثم إن السائل إنما سأل عن غير الأم المتراخَي عنها في الرتبة، فكيف أجيبَ بالأم، كيف يقال: إن المتراخي عن الأم في البِر هو الأم حتى يحصل الجواب به؟ (346) وهذا أيضا إشكال آخر، فقال:
= وبالمناسبة أستحضر ذكرى لي مع البيت الثاني من هذه الأبيات:
"واجْرُر بسابقي يكون إن تُرد
…
وبعد ما انصِبْ وانجرارٌ قد يَرِدْ
وهي أنه، وأنا أتابع دراستي في السنة الثانية من الطور الابتدائي بجامع ابن يوسف بمراكش، كان أحد أساتذتي وشيوخي الأفاضل الذين كنت أدرس عندهم آنذاك هو الفقيه الصوفي الورع السيد الحاج عبد الرحمان الصويري رحمه الله، كان يشرح ويقرر البيت الآتي من الخريدة البهية في العقائد التوحيدية لأبي البركات الفقيه العلامة الشيخ أحمد بن محمد الدردير رحمه الله في أبيات من صفات المعاني، وهو قوله:
كلامُه والسمع والإبصار
…
فهو الإلاه الفاعل المختار
وواجبٌ تعليق ذي الصفات
…
حتماً دواما ما عدا الحياة
وأخذ يقرر القاعدة النحوية المتعلقة بأداة الاستثناء فيه، وأن ضرورة النظم وقافيته هي التي حملت الناظم على أن يأتي بالمستثنَى مكسوراً، مع جوازه لغة وإعرابا، ويبحث عن الاستشهاد لها بالبيت السابق من الألفية، ويحاول استذكاره واستحضاره، فاستحضرته وذكرته له، بنصه: وإذا بي أسمعه يدعو لي ومعي بالخير، فرحمه الله، ورحم كافة علمائنا وشيوخنا الأبرار، وجزاهم عنا وعن المسلمين خيرا إلى يوم الدين
(346)
هكذا في جميع النُّسخ. وعبارة القرافي هي قولهُ: كيف يقال: إن التراخي عن الأم في البِر هو للأم حتى يحصل الجواب به؟ ولعل ما عند البقوري تبدو أظهرَ في المعنى باسم الفاعل، عوض المصدر:(التراخي كما هو عند القرافي)، فليتأمل ذلك للتصحيح. والله أعلم.
الجواب أن يقال: هذا عطْفٌ وكلام محمولٌ على المعنى، كأن السائل قيل له: أحقُّ الناس وأولاهم ببِرك أمُّك، قال: فلمن أتوجّهُ بالبر بعدها؟ قيل له: توجَّهْ أيضا لأمك، فقوبل ما فُهِم منه من الإعراض عن الأم بالأمر بالملازَمة، إظهارا لتاكيد حقها، فقال: إذا توجهتُ إليها وفرغت فلمن أتوجه بعد ذلك؟ فقيل له أمك، فقوبل أَيضا ما فهم منه من الإعراض عن الأم بالأمر بالبر والملازمة، إظهاراً لتاكيد حقها، فصارت الأمُّ معطوفة على نفسها بنسبتين مخلفتين إلى رُتْبتين مخلفتين، والشيء الواحد إذا أخِذ مع وصفين مختلِفين كان كشيئين متباينين. فظهرَ لك بهذا أن ضابط ما يختص به الوالدان دون الاجانب، هو اجتناب مطلَق الأذى كيف كان، إذا لم يكن فيه ضرر على الابن، ووجوبُ طاعتهما في ترك النوافل وتركِ تعجيل الفروض الموسَّعة، وتركِ فروض الكفاية إذا كان من يقوم بها، وما عدا ذلك لا تَجبُ طاعتهم فيه وإن نُدِب إلى طاعتهم وبِرّهم مطلقا. (347)
(347) هذه الفقرة عبارة عن فصل عند القرافي في هذه الخلاصة، ومن تمامه قوله: وكذا الأجانب يُندَب برهم مطلقا، والمراد بهم من لا تجمع الانسان بهم صلة رحم ولا علاقة قرابة، غير أن الندب في الأبويْن أقوى في غير القرَبِ والنوافل، ولا نَدبَ في طاعة الأجانب في ترك النوافل، بل الكراهةُ من غير تحريم.
وأمّا ما يجب لذوى الأرحام من غير الأبوين فلم أظفر فيه بتفصيل، كما وجدتُ تلك المسائل في الأبوين، بل أصل الوجوب من حيث الجملة. فهذا هو الذي قدرتُ عليه في هذا الفرق. وقد رأيت جمعا عظيما على طول الأيام يَعسُرُ عليهم تحرير ذلك.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء في هذه المسألة الثامنة، عند القرافي، وعقب على ذلك بقوله: ما قاله في ذلك كله من الأجوبة وغيرها صحيح، غيرَ قوله: "وعلى هذه الطريقة يتضح لك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اطلع على الغيب لذهبت عنه جهالات كثيرة، فإن هذا اللفظ مستنكَر مستقْبَح يجب تجنب مثله، ويمنتع إطلاقه في جانب النبي صلى الله عليه وسلم وفي جانب سائر الرسل والأنبياء صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قلت: وملاحظة الشيخ ابن الشاط، وتعقيبه على تلك العبارة بيدو تعقيباً صائباً في محله. ولعل تلك العبارة صدرت من العلامة القرافي عن سهو وعدم انتباه وتأمل، فكانتْ سبق لسان وقَلَمٍ، وعثرَةَ كلا، من عالم بارز متمكن، ذى معرفة واسعة ودراية كبيرة بعلوم الشريعة وأحكامها وآدابها المرعية، وكلا يقتضيه مقام النبوة من تادب واجلال واحترام، فيلتمس له العذر المقبول والوجه السليم لها كما يلتمس ذلك لغير من بعض اهل العلم والتصوف الذين تصدر عنهم بعض العبارات وتقع فهم بعض الشطحات، فلا يكاد يتضح المراد منها،
خاصة وأن صدورَ مثل ذلك أمر نادرٌ وقليل الوقوع جدا في اهل العلم والفضل والصلاح والتقوى، لأنهم أعرف الناس بالله، وأكثرهم خشية لله، ولأنهم أعرف بمقام رسول الله، =