الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون أصْل المُدْرَك عِلْماً فقط، فإنهُ يشهَد بالدّين على مَن عليه الدَّين، ولعلهُ قد دفعه إليه، فما شهد إلا أنه استصْحب الحال الأول، والاستصحابُ لا يفيد إلا الظن الضعيف، وله نظائر كثيرة. (76).
القاعدة الحادية عشرة: في تقرير ما هو حُجَّةٌ عند الحكام
. (77)
قد تقدم الفرق بين الأدِلة والأسباب والحِجَاج. (78) ثم هي سبع عشرة: الشاهدان، والشاهدان واليمين، والأربعة في الزنى، والشاهد واليمين، والمرأتان، واليمين،
(76) قال القرافي ممثلا لتلك النظائر: "وكذلك الثمَنُ في البيع احتمال دفعه، ويَشهَدُ بالمِلك الموروث لوارثه مع جواز بيعه بعد أن وَرِثه، ويشهد بالاجارة ولزوم الأجرة مع جواز الإقالة، بناء على الاستصحاب، والحاصل في هذه الصوَر كلها إنما هو الظن الضعيف، ولا يكاد يبقى ما يوجَدُ فيه العلم إلا القليل من الصور، مثل النَّسَب والولاء، فإنه لا يقبل النقلَ، فيبقى العلم على حاله، وكالشهادة بالإِقرار فإنه إخبار عن وقوع النطق في الزمان الماضي، وذلك لا يرتفع، ومثل الوقف إذا حكم به حاكم، فإذا لم يحكم به حاكم فإن الشهادة إنما يحصل فيها الظن فقط، إذا شهد بأن هذه الدار وقفٌ، لاحتمال أن يكون حاكم حنفي حكم بنقضه. فتأمل هذه المواطن، فأكثرها إنما فيها الظنُّ فقط، وإنما العلم في أصل المدرك لا في دوامه، فقد تلخص الفرق بين ما هو مُدْرَك للتحمل وما ليس بمدرَك مع مسبِّبَاته، والتنبيه على عدده، وأنه لا يُقتصَر فيه على الحواس فقط كما يعتقده كثير من الفقهاء، بل لو أفادت القرائنُ القطعَ جازت الشهادة بها في جميع الصور.
وقد عقب الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في هذا التنبيه إلى آخر الفرق تعقيبا هاما ودقيقا، فقال رحمه الله: ما قاله من أن الشاهد في أكثرِ الشهادات لا يشهدُ إلا بالظن الضعيف غيرُ صحيح، وإنما يشهد بأن زيدا ورث الموضع الفلاني مثلا أو اشتراه، جازما بذلك لا ظانا، واحتمالُ كونه باع ذلك الموضع لا تتعرض له شهادة الشاهد بالجزم، لا في نفيه ولا في إثباته، ولكن تتعرض له بنفي العلم ببيعه أو خروجه عن ملكه على الجملة، فما توهم أنه مضَمَّنُ الشهادة ليس كما توهم، فهذا التنبيه غير صحيح. والله أعلم. فلْيتأمل ذلك وليُصَحِحْ وليُحَققْ في مظانه من أمهات كتب القواعد والفقه الطولة والتوسعة في الموضوع، فإنه مبحث هام وتعقيب دقيق يدعو إلى التأمل والنظر العميق.
(77)
هي موضوع الفرق الثامن والثلاثين والمائتين بين قاعدة ما هو حجة عند الحكام وقاعدة ما ليس بحجة عندهم. جـ 4. ص 82. وهو من الفروق الطويلة عند شهاب الدين القرافي رحمه الله. ولَمْ يعلق عليه بشيء الشيخ ابن الشاط رحمه الله. مِمّا يدل على انه سلّمَهُ.
(78)
هذا السطر يحتاج إلى تبيان ليتضح مرجع الضمير فيما بعدُ، وذلك بقول القرافي: "وأن الأدلة شأن المجتهدين، والحجاج شأن القضاة والمتحاكمين، والأسباب تعتمدُ المكلَّفين، والمقصود هنا إنما هو الحجاج، فنقول وبالله نستعين: الحجاج التي يقضي بها الحاكم سبعَ عشرةَ حجة
…
" إلى آخر ما قاله القرافي، وأورده البقوري رحمه الله.
والشاهد والنكول، والمرأتان والنكول، واليمين والنكول، وأربعة أيمان في اللعان، وخمسون يمينا في القَسامة، والمرأتان فقط في العيوب المتعلقة بالنساء، واليمين وحدها وإن تحالفا، وتُقسم بينهما فَيقضَى لكل واحد منهما بيمينه، والإِقرار، وشهادة الصبْيان، والقافةُ، وقُمُطُ الحيطان، وشواهدها، واليد. فهذه هي الحجاج التي يقضي بها الحكام، وما عداها لا يُقضَى به عندنا، وفيه خلاف أُنَبِهُ عليه،
فأذْكُرُ ذلك حجةَ حُجّة بانفرادها:
الحجة الأولى: الشاهدانِ، والعدالة فيهما شرط عندنا وعند الشافعي وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: العدالة حق للخصم، فإن طلبها فحص الحاكم عنها وإلا فلا. وعندنا، هي لله تعالى يجب على الحمام ألّا يحكم حتى يحققها. وقال متأخرو الحنَفِية: إنما كان قول المجهول مقبولا في أول الإِسلام، حيث كان الغالب العدالة، فحُكِمَ بالغالب وتُرِك النادر، وأمّا اليومَ فالغالب الفِسق، فلا يحْكُمُ إِلّا بعْدَ البحث عن العدالة. والمعروفُ عن الحنفية القولُ الأول، واستثنُوْا الحدود، فلا يُكْتَفَى فيها بمجرد الإِسلام، بل لابُدَّ من العدالة، لأنها حقٌّ لله (78 م)
لَنَا إجماع الصحابة على ما قلناه، من حيث إنَّ عُمَرَ طَلَب التعويف برجَليْن مُسْلِميْن، فقال رضي الله عنه، لا أعرفكما، ولا يضرُّكما أن لا أعرفكما، وسأل المعروفَ عن سفَره معهما، وعن مجاورته لهما، وعن معاملته لهما، (79) والظاهر أنه ما سأل عن تلك الأسباب إلا بعدَ علمه بإسلامهما، لأنه لم يَسأل عن إسلامهما. ولنا قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (80)، إذْ لوْ كان الإِسلام كافِياً لمْ يَبقَ في تَقييده بِالعدْل فائدة.
(78 م) أي فهو ثابت فَتُطْلَبُ العدالة، وإذا كان المحكوم به حقا لآدمي يجْرَحُهَا وجب البحث عنها.
(79)
أوضح القرافي المسألة فقال: "فجاء رجل، فقال له عمر: أتعرفهما؟ قال: نَعَم، قال له: أكنْتَ معهما في سفَر يتبيَّنُ عن جواهر الناس؟ قال: لا، قال: فأنت جارهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ ، قال: لا، قال: أعاملتَهُما بالدراهم والدنانير التي تُقطعُ بينهما الأرحام؟ قال: لا، فقال عمر: يا ابن أخي، ما تعرفهما، إئتياني بمن يعرفكما، وهذا بحضرة الصحابة، لأنه لم يكن يحكم إلا بحضرتهم، ولم يخالفه أحدٌ، فكان إجماعا".
(80)
سورة الطلاق، الآية: 2، بَعْدَها:{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
ولنا قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، (81) ورِضَى الحاكِم بهم فرعُ معرفتِهِ بهم، وبالقياس على الحدود، وبالقياس على طلب الخصم للعدالة.
احتجوا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، ولم تُشترَط العدالة.
وقَبِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي بعْدَ أن قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فلم يَعتبر غيْرَ الإِسلام، (82)، ولأنه لَوْ أسلمَ كافر بحضرتنا جاز قَبُوله، مع أنه لا يتحقق منه إلا الإِسلام، ولأن البحث لا يؤدي إلى تيقُّن العدالة، وإذا كان المقصودُ الظاهرَ فالإِسلام كافٍ في ذلك لأنه أتَمُّ وازِعٍ.
(81) سورة البقرة: الآية 282 وهي من أطول الآيات القرآنية، منها قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} .
(82)
إشارة إلى حديث ثبوت شهر الصيام برؤية المسلم الواحد، وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:"جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: يا بلال: "أذِن في الناس فليصوموا". رواه أصحاب السنن والحاكم وابن حبان.
وهو حديث أخذ به واعتمدَه بعض الصحابة والتابعين وبَعْضُ الائمةِ المجتهدين. وأخذ الإِمام مالك وبعضُ الائمة الأعلام المجتهدين كالليث والثَّورى والاوزاعي باعماد حديث الشاهديْنِ في ثبوتِ الهلال، وهو ما رواه أبو داود، والدارقطني وصححه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَنسُكَ للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدَا عدلٍ نسكْنا بشهادتهما (أي تَعَبَّدْنَا الله وعَبَدْنَاه بالشروع في العبادة عند ثبوت الرؤية بهما) في شهر الصيام والجج، وغيرهما. وكذلك حديث أبي داود، وأحمد بسند صحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: اختلَف الناس في آخر يوم من رمضان، فقدِمَ أعربيان، فشهِدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لَأهَلَّا الهلال أمسِ عشيَّة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا ويَرُوحُوا إلى مُصَلَّاهم. فثُبُوتُ الشهر بالشاهدين عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو خليفته الصحابي بعده، أو الإِمام السلطان بعده، يوجب بداية الصيام في رمضان، والإِفطارَ في العيد، وهذا مُعْتَمد الإِمام مالك، ومذهبه في الرؤية، وهو ما عبَّرَ عنه الشيخ أبو الضياء. خليل بن اسحاق المالكي رحمه الله حيث قال في مختَصره:"بابٌ، يثْبتُ رمضانُ بكمالِ شعبانَ أو برؤية عدلين ولَوْ بصَحْوٍ، أو جماعةٍ مستفيضة"
…
الخ. والجماعة المستفيضة هي التي لا يتواطأ أفرادها على الكذب عادة، كل واحد منهم يقول: رأيت الهلال بنفسي
…
الخ".
والجواب عن الأول أنَّهُ مُطْلق، فيُحمَل على قوله تعالى {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ويتقيد به.
وعن الثاني أن السؤال عن الإِسلام لا يدل على أنه لم يسأل عن غيره، فلعله سأل، أو كان غيرُ هذا الوصف معلوما عنده.
وعن الثالث أنَّا لا نَقبَله حتى نعلَمَ سَجَاياه.
وعن الرابع أنّا نكتفي بما ظاهره العدالة.
مسألة.
لا تُقْبَلُ عندنا شهادة الكافر على المسلم، ولا في وصيةِ ميتٍ مات في السفر ولم يحضره المسلمون، ولا على غير المسلمين، وتُمْنع شهادةُ نسائهم في الاستِهلال والولادة، ووافقَنَا الشافعي، وقال أحمد بن حنبل: تجوز شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرُهم، وهُم ذِمّة. ويحلفان بعد العصر ما خَلَطَا ولا كَتَما ولا اشتريا به ثمناً ولو كان ذا قُربَى، ولا نكنم شهادة الله، إنَّا إذنْ لمِن الآثمين، وهذا عملٌ بالآية عنده، ولا يُقبل في غير هذا عند أحمد. (83) وقد اخْتُلِف في فهْم الآية. وقال أبو حنيفة: يُقبَل اليهودي على النصراني، والنصراني على اليهودي مطلقا، لأن الكفر ملة واحدة. وعن قتادة وغيرِهِ، يُقبل على ملته دون غيرها.
(83) والآية المشار اليها هي قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} . سورة المائدة الآية 106.
والاستهلال: بكاء المولود حين خروجه من رحم أمه، وهو دليل على اكتماله وحياته، فيقال: استهلَّ الصبي صارخاً، إذا بكَى عند الولادة. واستهلال الكلام: افتتاحه وبدايته، ومنه براعة الاستهلال في الخطبة أو حديث الكلام، وهي أن ياتي المتكلم أو الكاتب أو الخطيب في أول كلامه بما يُشعر بالمقصود، ويفيد بالموضوع الذي يستَحدثُ عنه أو فيه.
لنا قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (84).
وقال عليه السلام: لا تُقْبَلُ شهادةُ عدُوٍ على عدُوِّه، (85) وقياسا على الفاسق، بل بطريق الأولى، ولقوله تعالى:{وأشهِدوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، ولأنه جاء في الحديث "لا تُقبلُ شهادة أهل دِين على غير أهْل دينه إلا المسلمون، فإنهم عدولٌ عليهم وعلى غيرهم".
إحتجوا بقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} . الآية، وإذا جازت على المسلم جازتْ على الكافر بطريق الأولى، وبأنه رُوي عن الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن شهد منكم أربعة رجَمْتُهُما"، وخطابه لأهل الكتاب. (86)
والجواب أن الحسَن قال: "مِن غيْر عَشِيرتكم"، وأيْضاً فالآيةُ تدل على التخيير بَيْن المسلمين وغيرهم، ولم يَقُلْ به أحَدٌ، فدل على نسخ ذلك.
وعن الثاني أن الصحيح منهما اعترفا بالزنى، فكان الرجم بالاعتراف، ولمْ يصِحَّ أَمْرُ الشهادة في ذلك.
(84) وأولها قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} . سورة المائدة، الآية 14.
(85)
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولاذي غِمْرٍ على أخيه السلم، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت" والقانع هو الذي ينفق عليه أهل البيت. والغمرُ بكَسْر الغين: الحاقد، رواه كل من الامامين: احمد بن حنبل، وأبُوداد، وأورد له السيد سابق في كتابه فقه السَّنة صيغة أخرى في هذا المعتى، وهي "لا تُقَبَل شهادةُ خصم على خصمه".
(86)
في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود أتَوْا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قد زنيَا، فقال: ما نخِدون في كتابكم؟ (أيْ هل يوجد حكم الرجم في كتابكم التوارة)، فَلَّما وجَدُوا حَدَّ الرجم في كتابهم التوراة أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرُجما"، وذلك بناء على شهادتهم هُمْ أهل الكتاب على بعضهم.
"فرع"
قال ابْنُ أبي زيد: لو رضى الخصم بحكم الكافر أو المسخوط لمْ يحْكَمْ له به، لأنه حق لله تعالى.
الحجة الثانية، الشاهدان واليمين، ما علمتُ عندنا ولا عند غيرنا خلافاً في قبول شاهديْن مسلميْن عدْلين في الدماء والديون.
وقال مالك رحمه الله: إنْ شهِدَا لَهُ برِبَاع (87) في يدِ أحَدٍ لا يستحقُّها حتى يَحلف ما باع ولا وهبَ ولا خرجتْ عن يده بطريق من الطُّرُق المُزِيلَةٍ للملْك، وهذا الذي عليه الفُتْيَا والقضاءُ عندنا.
وعلَّلَهُ الأصحابُ بأنه يجوز أن يكون باعها لهذا المدّعَى عليه، أو لمن اشتراها هذا المدعَى عليه منه. ومع قيام الاحتمال لابُدَّ من اليمين، وهذا مُشْكِلٌ بالديون، فإنه يجوز أن يَكون أبْرأهُ من الديون، أو دفَعَه له وعاوضه عَليه، ومع ذلك فلا اعتبارَ بهذه الاحتمالات، وإذا قبِلْناهُما في القتْل، ويُقتَلُ بهما مع جواز العفو، فلَأنْ يُقْضَى بهما في الأموال أوْلَى.
وبالجملة، اشتراطُ اليمين مع الشاهديْن حيث ذُكر، صعبٌ (88)، لا سيما وهو يقول عليه السلام:"شاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ"(89) وكذلك {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، فالظَّاهرُ أن الشهادة كما ذكر حجَّة تامَّةٌ لا حاجة إلى اليمين مع الشاهِديْن، وكذلك قال الشافعي وغيرُهُ، سوى مالِك، وهو الصحيح.
(87) كذا في جميع النسخ ع، ح، ت. بعين، وهو ما في نسخة أخرى رابعة وما عند القرافي، وهي أنسب وأظهر، لأن العين حينئذ أعم وأشمل للرِّباع وغيرها، فلْيُتأمل.
(88)
كذا في جميع النسخ: ع، ح. ت. وعند القرافي:"وبالجملة فاشتراط اليمين مع الشاهدين ضعيف"، وهو تعبير أظهر وأوضح.
(89)
عن الأشعث بن قيس قال: "كان بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئر، فاختصمْنَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: شاهِداك أو يَمينُهُ"، فقلت: إنه يحلف ولا يبالي، فقال: من حلَف على يمين يقتطع بها مالَ امرئ مسلم لَقِىَ الله وهو عليه غضبان" اخرجه الشيخان: البخاري ومسلم رحمهما الله.
الحجة الثالثة: الأربعة في الزنى، لقوده تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} (90).
قال أبو عُمَر: يُشترط اجتماع الشهود عند الأدَاء في الزنى والسرقة، ولا يُشترط في غيرهما ذلك، ولا أعرف دليلا يدل على ذلك، (91) والمناسبات (92) بمجردها لا تكفي في اشتراط الشروط، بل لابدَّ من قياس صحيح أو نص صريح. (93)
الحجة الرابعة. الشاهدُ واليمين، قال به مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة، ليس بحجة، ويُنقَضُ الحكم إن وقع، وهُوَ بِدْعة، وأول من قضى به معاوية، وليس كما قال. (94)
لَنَا وجوه: (95)
الأول ما جاء في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد، وقال ابن عباس: ذلك في الأموال.
(90) أول الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
…
} سورة النور - الآية 4.
(91)
كذا في جميع نسخ التحقيق والتصحيح: ع. ح. ت. وعند القرافي قولهُ:
"في نظائر أبي عمران: يشترط اجتماع الشهود عند الأداء في الزنى والسرقة، ولا يشترط ذلك في غيرهما، وصعُب عليَّ دليل يدل على ذلك" الخ، ففي نسخ الترتيب نسبة القول إلى أبي عمر، وفي الفروق نسبته إلى أبي عمران في كتابه النظائر، فليصَحَّحْ ذلك، والله أعلم.
(92)
كذا في ع، وح، وعند القرافي، وفي نسخة ت: المسبَّبَات (فلْيتأمل وليحقَّقْ).
(93)
زاد القراقي هنا توضيحا في المسألة فقال: "وأما قولنا: ذالك أبْلغُ في طلب الستر على الزناة وحفظ الأعْضاءِ عن الضياع، فهذا لا يكفي في هذا الشرط، فيمكن ايضا على هذا السياق أن نشترط التبريز في العدالة أو يكون الشاهدُ من اهل العلم والولاية وغير ذلك من المناسبات، وهي على خلاف الاجتماع، فَلَمْ يبقَ إلا اتِّباع موارد النصوص والادلة الصحيحة، وغيرُ ذلك صَعْبٌ جدا" اهـ.
(94)
قال القرافي: بل أكثرُ العلماء قال به، والفقهاءُ السبعةُ وغيرهم.
(95)
ذكر القرافي أنها ثمانية، وعدَّها، وقد ذكر الشيخ البقوري ستا منها، واقتصَرَ عليها اختصارا.
الثاني إجماع الصحابة على ذلك. وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وأُبَيّ ابن كعب، وعددٍ كثير من غير مخالف، قاله النيسابوري وغيره.
الثالث: ولأن اليمين شُرِعَتْ في حق من ظهر صدقُهُ وقوِيَ جانبه، وقد ظهر ذلك في حقه بشاهده (96) ، وقياسا على اليد (97) حيث كان معها اليمين، وقياسا على المرأتين حيث كان الحلف معهما. (98).
واحتجوا بوجوه: (99)
الأول قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، وهذا يقتضي الحصر في الرجُل والمرأتين حال عدم الرجلين.
الثاني قوله عليه السلام: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، فهذا يبين لنا ألّا يَمِينَ على المدعي، وأن اليمين محصورة في المُنكِرِ.
والجواب عن الأول أنّا لا نُسَلِّمُ الحصْرَ، بل أثبَتَ الرجل والمرأتين، وسكَتَ عن غيرِ ذلك، وعن الثاني أنا لا نُسَلمُ الحصر أيضًا.
(96) الوجه الرابع اختصره البقوري ولم يذكره، وهو أن الشاهد أحد المتداعيين، فتُشرعُ اليمينُ في حقه إذا رجَعَ جانبه كالمدعى عليه.
(97)
كذا في جميع النسخ، وفي الفروق:"وقياسا للشاهد على اليد".
(98)
عبارة القرافي: الوجه السادس: "ولأن اليمين أقوى من المرأتين"، لدخولها في اللعان دون المرأتين، وقد حُكِمَ بالمرأتين مع الشاهد، فيُحْكم باليمين.
السابع: "ولقوله عليه الصلاة والسلام "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر"، وهي مشتقة من البيان، والشاهدُ واليمينُ يبين الحق.
والثامن قوله تعالى: "إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا"، وهذا ليس بفاسق، فوجب أن يُقبل قوله مع اليمين، لأنه لا قائل بالفرق".
(99)
عدَّها القرافي ستة، وأجاب عنها في الأصل، كتابه الفروق، احتج بها الحنفية، واكتفى البقوري باثنين منها، واقتصر عليهما وعلى الإِجابة عنهما.
"تنبيه".
قال بعض العلماء: يثبت بالشاهد واليمين في مذهب مالكٍ، أربعةُ: الأموالُ، والكفالة، والقِصاص في جِراح العمد، والخُلْطة التي هي شرط في التحليف في بعض الأحوال. (100) والذي لا يثبت بالشاهد واليمين: النكاح، والطلاق، والعتق، والولاء، والأحبَاس، والوصايا لغير المعَيَّن، وهلال رمضان، وذو الحجة، والموتُ، والقذف، والايصاء، ونقلُ الشهادة، وترشيد السفيه.
والمختَلَف فيه هل يَثْبُت أم لا؟ . الوكالة، ونكاح امرأة ماتت، والتجريح، والتعديل.
تنبيه:
قول مالك رحمه الله بالشاهد واليمين في القصاص في جراح العمد، اعتمادا على أنها يُصالَحُ عليها بالمال في بعض الأحوال، مشكِل جدّا، فإنه ألغَى الاصل واعتبرَ الطوارئَ البعيدة، (101) وذلك لازم له في النفس أيضًا، وهو خلاف الإِجماع. ويُشكل أيضًا من حيث إنه لم يقل بذلك في الاحباس ح أنها منافع، ولا في الولاء، ومآلهُ إلى الإِرث وغيرِ ذلك ممّا مآله إلى المالِ.
الحجة الخامسة، المرأتان واليمينُ حجّةٌ في الأموال. وقاله أبو حنيفة، ومنعه الشافعي وابن حنبل.
(100) عبارة "في بعض الأحوال"، ثابتة في ع، وح، ناقصة في ت. وعند القرافي:"في بعض الأموال"، ولعَلَّ اعتبار "بعض الأحوال" أظهر، ويراد بها بعض أحوال الاموال، وتصْدُقُ عليها. كما يأتي في التعليق الآتي بعدُ.
فيُوَفّقُ بين الكلمتين، ويُجْعل كِلاهما صحيحا وسليما، والله أعلم، فلْيحقَّق ذلك، وليصحَّحْ.
(101)
كذا في ع، وح. وفي ت: قال مالك رحمه الله تعالى: يُعمل بالشاهد واليمين في القصاص في جراح العمد، وهو مشكل جدا.
وعند القرافي رحمه الله: قَبُول مالكٍ للشاهدِ واليمين في القصاص في جراح العمد، اعتماداً على أنها يصالحُ عليها بالمال في بعض الاحوال، مشكل جدا، فإنه إلغاء الأصْل واعتبارٌ للطوارئ البعيدة
…
إلى آخره).
لَنَا أن الله تعالى أقامَ المرأتين مُقامَ الرّجل، فَيُقْضَى بهما مع اليمين كالرجل. (102) ولنا أنه يحلف مع نكول المدّعْى عليه، فمَعَ المرأتين أوْلَى (103).
إحتجوا. بأن الله تعالى إنما شَرَطَ شهادتهن مع الرجل، فإذا عُدِمَ الرجُل ألْغِيتْ.
الثاني أن شهادة النساء ضعيفة، فتقوى بالرجل، واليمين ضعيفة، فلا يصحُّ ضمُّ ضعيف إلى ضعيف. (104)
والجواب عن الأول، أنهُ تعالى أثبتَ شهادتهما مع الرجل، ولم ينْفِ شهادتهما بذلك مع اليمين، بل كان الأمر في الآية المذكورة قد سُكِتَ عنه، وقد دلَّ على شهادتهما مع اليمين الاعتبارُ الذىَ ذكرناه، فيُعْمَل بذلك.
وعن الثاني: أنا لا نُسَلِّمُ ضَعف المرأتين، بل هما كالرَّجل. سلّمناه، لكنا لا نُسلم منْعَ ضم ضعيف إلى ضعيف، بل يصِحُّ أن تحصل القوة من حيث الضم المذكور. (105)
(102) زاد القرافي هنا قوله: ولمَّا علل عليه السلام نقصان عقلهن قال: عدَلَتْ شهادةُ امراتين بشهادةِ رجل، ولم يَخُصَّ موضعا دون موضع.
(103)
ذَكر القرافي وجْها ثالثا، وهو أن المرأتين أقوى من اليمين، لأنه لا تتوجه عليه يمين معهما، وتتوجه مع الرجل، وإذا لم يعرَّجْ على اليمين إلا عند عدمهما كانتا أقوى، فتكونان كالرجل فيحلف معهما.
(104)
زاد القرافي وجْها ثالثا مما احتج به الشافعية والحنابلة لقولهم ورأيهم في الموضوع، فقال: "الوجه الثاني أن البينة في المال إذا خلتْ من رجلٍ لم تُقْبل، كما لو أشهد أربعَ نسوة، فلو أن امرأتين كالرجل لتم الحكم بأربع، ويُقبَلن في غير المال كما يُقبَل الرجل، ويُقْبَلُ في غير المال رجل وامرأتان.
(105)
جواب القرافي عن الوجه الأول وعبارته فيه أظهر مما عند البقوري حيث قال:
"والجواب عن الأول أن النصَّ دل على أنهما يقومان مقام الرجل، ولم يتعرض لكونهما لا يقومان مقامه مع اليمين، وهو مسكوت عنه، وقد دل عليه الاعتبار المتقدم، كما دل الاعتبار على اعتبار القُمُط في البنيان والجذوع وغيرها.
والجواب عن الثاني أنا قد بيَّنا أن المرأتين أقوى من اليمين، وإنما لم يستقلَّ النسوة في أحكام الابدان، لأنها لا يدخلها الشاهد واليمين، لأن تخصيص الرجال بموضع لا يدل على قوتهم، لأن النساء قد خُصِّصْنَ بعيوب الفرج وغيرها، ولم يدل ذلك على رجحانهن على الرجال، وهو الجواب عن الوجه الثالث.
الحجة السادسة، النكول والشاهد حجة عندنا، خلافا للشافعي.
لنا أن النكول سبب مُؤثّرٌ في الحكم يُحْكَم به صح الشاهد، وتاثيره أن يكون المدعَى عليه ينقل اليمين للمدَّعي. (106)
احتجُّوا بوجُوهٍ:
الأول، أن السنة إنما وردت بالشاهد واليمين، وهو تعظيم الله تعالى، والنكوُل لا تعظيم فيه.
وثانيها، أن الحِنثَ فيه يوجبُ الكفارة، ويَدَعُ الديار بَلَاقِعَ (107) إذا أقْدَمَ عليها غَمُوساً، وليس كذلك النكوُل.
(106) قال القرافي: الوجه الثاني أن الشاهد أقوى من يمين المدعي، بدليل أنه يرجع لليمين عند عدم الشاهد.
الوجه الثالث أن الشاهد يدخل في الحقوق كلها، بخلاف اليمين.
(107)
بلاقع: جمع بلْقع وبَلْقَعة، وهي الدار الخرِبَةُ والبقعة المقفرة من مكان خال. وقد وردت هذه الكلمة في البيْتِ الثالث من قصيدة شهيرة لطيفة للشاعر الاسلامي المخضرم لبيد بن ربيعة، يرثي فيها أخاه إربد، وضمنها عواطف انسانية، ومواساة لنفسه ومواعظ مؤثرة، ومما جاء فيها ويحسن ذكره وإيرادُه على سبيل الاستطراد للمناسبة والفائدة، والاستحضار والموعظة، قوله:
بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطوالعُ،
…
وتبقى الديارُ بعْدَنا والمصانع
وقدْ كنتُ في أكناف جارٍ مَضِنة،
…
ففارقَنَا جارٌ يأربدَ نافع
وما الناسُ إلا كالديارِ وأهلِها،
…
بها يوم خَلَّوْها وراحوا، بلاقِع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
…
يحورُ رماداً بعد اذ هوَ ساطع
وما المال والاهلون إلا ودائعٍ
…
ولابُدَّ يوماً أن تُردَّ الودائع
وما الناسُ إلا عامِلان فَعامل
…
يُثَبِّرُ ما بينِي وآخَرُ رافع
فمنهم سعيد آخذ بنصيبه
…
ومنهم شقى، بالمعيشة قانِعُ
لعمرك ما تدْري الضواربُ بالحصى
…
ولا زاجراتُ الطير ما الله صانع
وفي هذا البيت إثارة إلى ما جاء به الإسلام من النهي عن الكهانة، وعن الاعتماد في التفاؤل أو التشاؤم على زجر الطير وإطلاقِها لتذهب ذات اليمين أو ذات الشمال، ودَعَا إليه من وجُوب اعتقاد أن الغيب عِلمُه عند الله تعالى لا يعلمه ألا هو سبحانه، وأن التوكل يجب أن يكون عليه، وذلك من أثر الإسلام وفضله على المسلمين وهدايته في قلب هذا الشاعر ونفسه، ومن ثمرة ايمانه الذي كان يحمدُ الله عليه ويقول في البيت الوحيد الذي روى له بعد اسلامه:
الحمد لله إذ لم ياتنى أجَلى
…
حتى اكتسَيتُ من الإسلام سرِبالا
وقيل: هو قوله:
"ما عاتب الحر الكريم كنفسه
…
والمرء يصلحه الجليس الصالح. =
الثالث أن النكول لا يكون أقوى من حجة أصل الحق، وَجَحْدُهُ لا يُقضَى به مع الشاهد، فإنه يكون قضاء بالشاهد وحْدَهُ، وهو خلاف الإِجماع.
والجواب أن التعظيم لا مدخل له هاهنا، بدليل أنه لو سبَّحَ وهلل ألْفَ مرة لا يكون حجة ح الشاهد، وإِنما الحجة في إقدامه على موجِب العقوبة على تقدير الكذب، وهذا كما هو وازع دينيِ فالنكول فيه وازع طبَعى، لأنه إذا قيل له: إنْ حلفتَ بَرئت، وإن نكلتْ غرِمْتَ، فنَكَل، كان ذلك في خِلاف الطبع، والوازع الطبيعي أقوى من الوازع الشرعي، بدليل أن الإِقرار يُقْبَلُ من البَرِّ والفاجر، لكونه على خلاف الوازع الطبعي، والشهادة لا تُقْبَلُ إلا من العدل، لأن وازعها شرْعي.
وعن الثاني أن الكفارة قد تكون أوْلى من الْحق المختلَف فيه، وهو الغالب، فيُقْدِمُ على اليمين الكاذبة، فالوازع حينئذ إنما هو الوازع الشرعي، وقد تقدم أنه دون الوازع الطبعي.
= فالحمد لله على نعمة الإسلام وهداية الايمان، فهي أعظم نعمة على الانسان إذا عرف ذلك واهتدى اليه بِفضْل الله ورحمته، وتوفيقه وإسعاده لمن هداهم إلى دينه الحنيف من عباده المومنين الصالحين.
وقد عاش هذا الشاعر المسلم مائة واربعين سنة حتى شعُر بالضعف والملَل من الحياة كما سئمها زهير بن أبي سلمى، فقال في ذلك:
ولقد سئمتُ من الحياةِ وطولها
…
وسؤال هذَا الناس كيفَ لبيدُ
وقال زهيرْ بن أبي سلمى في قصيدته التي هي إحدى القصائد السبع المعروفة بالمعلقات:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعشْ
…
ثمانين حولا لا أبا لك يسْأمْ
أما الاسلامُ فقد علّمنا ان ندعو الله تعالى ونسأله سبحانه الحياة الطيبة، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا يتمنين أحدُكم الموتَ لضر أصابه، ولكن يقول: اللهمّ أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الممات خيرا لي، كما علَّمنا ان نقول: اللهمّ متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما احييتنا، واجعله الوارث منا، وقال صلى الله عليه وسلم: "خيْرُكم من طال عمرُه وحسن عمله". جعلنا الله منهم بفضله ورحمته وجوده وكرمه، وختم لنا بالإيمان والسعادة التي ختم بها لأوليائه وأصفيائه، ولكافة المومنين الصالحين من عباده. آمين.
وعن الثالث أن: سد الجحْد لا يُقْضَى به عليه، فلا يخافه، والنكول يُقضى به عليه بعدَ تقدُّم اليمين فيخافه، فظهر أن النكول أقوى من اليمين وأقوى من الجحد.
الحجة السابعة: المرأتان والنكول عندنا، خلافا للشافعي، والمُدْرَك ما تقدم سؤالا وجوابا.
الحجة الثامنة: النكول واليمين. وصُورَتُهُ أن يطالَب المطلوبُ باليمين الدافعة فينكُل، فيحلِفى الطالبُ، ويَسْتَحِقُّ بالنكول واليمين. فإن جَهِل المطلوبُ ردَّها فعلى الحاكم أن يخبره بذلك، ولا يَقضى حتى يردَّها، فإن نكل الطالب فلا شيء عليه. وقاله الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن كانت الدعوى في مالٍ، كُرِّر عليه ثلاثا، فإن لم يحلف لزمه الحق ولا يَرُدُّ اليمينَ، وإن كانتْ في قَوَدٍ، (108) ، فلا يُحْكَم بالنكول، بل يُحْبَسُ حتى يحلف أو يعترفَ، وفي النكاح والطلاق والنَّسَبِ وغيره لا مدخل لليمين فيه. وقال ابن أبي ليلَى: يُحْبَسُ في جميع ذلك حتى يحلف.
لنا قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} (109)، ولا يمينَ بعد يمين إلّا ما ذكرناه. وظاهرُه مردود بالاجماع، فَتَعَيَّنَ حمْلُهُ على يمين بَعْدَ ردِّ يمين، وهو على حذف مضاف وإقامة المضافِ إليه مُقامَه.
(108) القَود بفتح القاف والواو: القصاص، وسمِّي القصاص قوَداً، لأن الجاني يُقاد إلى أولياء المقتول، فيقتلونه به إن شاءوا، وقيل: معناه المماثلة، حيث يقع القصاص من الجاني بجناية مماثلة. ومعلوم شرعا أن القصاص لا يحكم به وينفذه إلا الإِمام السلطان، ومن ينوب عنه في تنفيذه وإصدار الحكم باسمه من الولاة والقضاة والحكام، وذلك حماية للنفوس والأعراض والأموال، ووقاية لها من الظلم والاعتداء والضياع كما هو ثابت ومنصوص عليه شرعاً.
(109)
سورة المائدة: الآية 108.
الثاني أن الأنصَار جآت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: إن اليهود قتلت عبْد الله وطرحته في نقير، فقال عليه السلام: أتحْلِفون وتستحِقُّون دَمَ صاحبكم؟ قالوا: لَا، قال: فتحْلِفُ لكم يهودٌ، قالو: كيف يحلفون وهم كفار؟ (110).
الثالث ما رُوِي أن المقداد اقترضَ من عثمانَ رضي الله عنه سبعة الآف درهم، فلَمّا كان وقتُ القضاء جآء بأربعةِ آلاف، فقال عثمان: أقرضتُكَ سبعةَ آلاف، فترافعا إلى عمر، فقال المقداد: يحلف وياخُذُ، فقال عمر لعثمان: لقد أنصَفَكَ، فَلَمْ يحلف عثمان، فنقل عمرُ اليمين إلى المدّعي، وتَوَافَقَ ثلاثتُهم على هذا، ولم يخالفهم غيرُهم، فكان إجماعا، ولَنا غيرُ هذه الوجوه، ذكرها الفقهاء (111).
(110) أي فجعل عليه السلام اليمين في جهة الخصم، وهذا إشارة إلى الحديث الصحيح المروى عن رافع بن خديج أن محيِّصَة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قِبَل خيْبَر، أي جهتها، فتفرقا في النخل، فقُتِلَ عبد الله، فاتَّهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمان وابنا عمه حُوَيّصة ومحيِّصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم عبد الرحمان في أمر أخيه وهو أصغر منهم، فقال: كبِّرْ الكُبْر (أي عظم من هو أكبر منك واتْركه يتكلم، أدبا معه)، أو قال: لِيبدأْ الأكبر، فتكلما في أمر صاحبهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم يُقْسِمُ خمسون منكم على رجُل منهم فَيُدْفَعُ بِرمته، (أي يُسَلَّم إليكم مشدودا في الحبل الذي يربط به القاتل الجاني حين يُسلَّمُ إلى اولياء المقتول)، قالوا: أمْرٌ لمْ نَشهَدْه، كيف نحلف؟ ! قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله، قومٌ كفارٌ، فَوَداهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قِبَله" أي أدَّى ديته من عنده، وأعطاها لأولياء المقتول، درءا للفتنة والعداوة بين الأنصار واليهود في هذه النازلة وسببها.
(111)
أوصلها القرافي إلى ثمانية وجوه:
منها القياس على النكول في باب القوَد، والملاعِنة لا تُحَدُّ بنكول الزوج.
ومنها لو نكَل عن الجواب في الدعوى لم يحكم عليه، مع أنه نكول عن اليمين والجواب، فاليمين وحَدها أولىَ بعدم الحكم.
ومنها أن البينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه في النفي، ولو امتنع المدَعي من إقامة البينة لم يُحكَم عليه بشيء، فكذلك المدعى عليه إذا امتنع من اليمين لم يُحْكَمْ عليه. ومنها أن المدعي إذا امتنع من إقامة البينة كان للمدّعى عليه إقاتها، فكذلك المدعى عليه إذا امتنع من اليمين فيكون للآخَر فِعْلُها.
ومنها أن النكول إذا كان حجة تامة كالشاهدين وجبَ القضاء به في الدماء، أو ناقصةً كالشاهد والمرأتين أو يمين، وجب استغناؤه عن التكرار، أو كالاعتراف يُقبَلُ في القود بخلافه، فالاعتراف لا يفتقر إلى تكراره بخلافه.
إحتجوا بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (112)، فمَنَع تَعَالى أن يستحِقَّ بيمينه على غيره حَقًّا، فلا تُرَدُّ اليمين، لئلَّا يَستحق بيمينه مالَ غيره.
الثاني أن الملاعِنَ إذا نَكَلَ حُدَّ بمجرد النكول من غير يمين، ولهم أيضًا غيْرُ هذه (113).
والجوابُ عن الأول أن معْنى الآيةِ ألَّا يتعَمَّدَ (114) اليَمينَ الكاذِبةَ ليقطَعَ بها مال غيره، وهذه ليست كذلك (115).
وعن الثاني أن اليمين للملاعن إنما كانت مسقطة للْحد الذي ترتَّبَ عليه من القذف، فالقذف موجِبٌ لِلْحَدِّ، فاذا فُقِدَ المانِعُ، وهو اليمين، عُمِل بالمقتضِي الذي هو القذف، والنكول عندهم مقتضىً، فلا جامعَ بينهما.
وعن الثالث أنهُ لا حُجَّة في رأي أحدٍ من الصحابة. (116)
الحجة التاسعة: أيْمان اللعان، وهي متفَقٌ عليها من حيث الجملة، وإن اختلفوا من حيث التفاصيل.
الحجة العاشرة: أيْمان القَسامةِ متفَق عليها أيضًا من حيث الجملة.
الحجة الحاديةَ عشرة: المرأتان فقط، أمّا شهادةُ النساء فقد وقع الخلاف فيها في ثلاث مسائل:
(112) وتمامها: {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . سورة آل عِمران، الآية 77.
(113)
أوصلَها القرافي إلى ستة، وأجاب عنها، فانظرها في الأصل: كتابة الفروق.
(114)
كذا في ع. وفي ح، ألا ينفذ اليمين، وفي ت: لا تنفذ اليمين" وفي الفروق: ألَّا تُنَفَّذَ". ولعل ما في نسخة ع أنسب وأظهر، فليتأمل.
(115)
زاد القرافي هنا قوله: ومجرَّد الاحتمال لا يمنَع، وإلَّا مُنِع المدعى عليه من اليمين الدافعة لئلا ياخذ بها مال غيره، بل يحكم بالظاهر وهو الصدق".
(116)
عبارة القرافي: وعن الثالث أنه روي عن ابن أبي مُلَيكة أنه قال: اعترفَتْ فألزمتها ذلك، ولعله برأيه لا برأي ابن عباس، فإن ابن عباس لم يامُرْه بالحكم عليها بذلك، والتابعي لا حجة في فعله.
المسألة الأولى: قال مالك والشافعي وابن حنبل: لا يُقْبَلْنَ في أحكام الأبدان، وقال أبو حنيفة: يُقبَل في أحكام الأبدان شاهدٌ وامرأتان، إلا في الجِراح الموجبة لِلْقَوَدَ في النفس والأطراف.
لنا وجوه: الأول: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ، (117) ذلك في المدايَنَات، ومفهومه أنه لا يكون في غيرِها.
قلت: هذا ضعيف، فإنَّ القول بالمفهوم ضعيف. ثمَّ إن كان فحقّه ألَّا يقالَ بشهادتهن إلا في المداينات، ولا يقال في الأموال مطلقا. وأيضا فقد استشهد الخصم بهذه الآية من حيث إنه أقام المرأتين والرجُلَ مُقامَ الشاهدَين، وذلك إمَّا عند عدم الشاهديْن، وهو باطل، لجوازهما إجماعاً، فتعَيَّنَ أنَّهما أقيمَا مَقامَهما في التسميةِ، (118) فيكونان مُرَادَيْن بقوله:"وشاهِدَيْ عدْل".
قال شِهاب الدين: افافي قولُهُ تعالى في الطلاق والرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (119)، وهو حُكْم بَدَنِي، فالأحكام البدنية كذلك بأجمعها. وكذلك قوله عليه السلام:"لا نكاحَ إلا بوَلي وشاهدَيْ عدْل منكم"(120). وللخصم حُجج (121) وأجَلُّها ما ذكرناه في الاعتراض على حُجَّة المالكية.
المسألة الثانية: خالفَنا أبو حنيفة في قَبول النساء منْفَرداتٍ في الرَّضاع.
لنا أن معناها لا يطلع عليه الرجال غالبا، فجاز انفرادُهُنَّ فيه كالاستهلال والولادة.
المسألة الثالثة: خالفَنَا الشافعي في قَبول امرأتين فيما ينفردن فيه، وقال: لابُدَّ من أرْبعٍ.
(117) سورة البقرة: الآية 186.
(118)
كذا في ع، وت. وفي ح: في التشبيه.
(119)
سورة الطلاق: الآية: 2.
(120)
رواه الأئمة: أبو داود، والترمذي، واحمد والبيهقي رحمهم الله.
(121)
عدَّها القرافي ثمانية أوجُهٍ، وأجاب عنها رحمه الله، فليرجع اليها من اراد التوسع فيها، والتعرف على وجهة المالكية فيها.
وقال أبو حنيفة إن كانت الشهادة ما بين السُّرَّة والرُّكْبَة قُبِلت فيه واحدةٌ. وقال أحمد بن حنبل: الواحدة مطلقا مما لا يطلع عليه الرجال. وعِنْدَنَا لابُدَّ من اثنتين وتكفيان.
أمَّا أن الواحدة لا تكفي، فلِأنها لوْ كفَتْ لكان الرجل وحدَه أوْلى بأن يكون كافيا، وليس كذلك باتفاق. أمَّا أن الاثنتين كافيتان فلأِن الاكتفاء بالنساء ما كان إلا لموضع الضرورة، وطلبُ أربِعِ ضد القصد من ذلك.
واحتجَّ أحمد بأن عُقْبةَ بن الحارث، شهِدتْ امرأةٌ بأنها أرضعتْهُ وأرضعت امرأةً كان قد تزوجها، وأدَّتْ الشهادةَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَبِلَها وقضَى بشهادتها، وهو عُمدة أحمد (122).
قلت: الظاهر الرجوع اليه، وترْكُ أدِلتنا في مقابلته.
الحجة الثانيةَ عشرة: اليمين الواحدة: إذا تنازعا دارا ليست في أيديهما قسمت بينهما بعد يمينهما، فيقضَى لكل واحد بمجرد يمينه، وقاله الشافعي، (123) وكذلك إذا استوت البينتان والأيْدي، أو البيناتُ من غير يدٍ بأن يكون ذلك في يد ثالثٍ فإنها تُقْسَمُ بينهما (124).
قال شهاب الدين: وإن قال الذي المتنازَعُ فيه بيده: لا أعلم أهِي لهما أو لغيرهما؟ ، فالموضىح موضىح نظرٍ وتَوَقُّفٍ، بخلافِ ما إذا قال: هي لا تَعْدُوهُما، فَهُنَا يحلفان كما مضى، وتُقسَم بينهما.
قال شهاب الدين: واليمينُ فيما ذُكِر دافعةٌ لا جالبة، قال: وكثير من الفقهاء يَعتقد أنها جالبة، وأنها يُقضَى بالمِلك بها، وليس كذلك.
(122) ومن حججه أيضا، ما روى عن على كرم الله وجهه أنه قَبِل شهادة القابلة وحْدها في الاستهلال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرضاع: شهادة امرأة واحدة تجزئ، والقياسُ على الرواية. وقد أجاب القرافي رحمه الله عن هذه الوجوه، وأبان عن وجهة نظره ونظر المالكية فيها.
(123)
وهي أقل حجة في الشريعة بسبب أنَّا لم نجدْ مرجحا عند الاستواء إلا اليمين.
(124)
بَعْدَ أيمانهما، لوجود الترجيح باليمين، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أن أحكم بالظاهر، والله يتولَّى السرائر"، وهذا قد صار ظاهرا باليمين فيُقضى به لصاحبه.
قلت: ما ذكره يصعب، كيف تكون دافعة في الصورة الْأولى وهي إنما كانت في يدِ غيرهما؟ ، بل الظاهر أنها جالبة، سواء قلنا بأن الذي كانت في يده قال: هي لا تَعْدُوهما، أو قال: لا أدْرى، وهي الصورة التي قال فيها: موضعُ نظر، واللهُ أعلم.
الحجة الثالثةَ عشْرةَ: الإِقرار. من أقرَّ لغيره بحق أو عَيْنٍ، قُصي عليه بإقراره، كان الغيْرُ بَرأْ أو فاجِراً، فإن كان الْمُقَرُّ به عيْناً قضي على المُقِرِ بتسليمها للمُقَرِّ له إن كانت في يد المُقِر، ولا يُقْضَى بالمِلك، بل بالتزام التسليم، لاحتمال أن يكون الثالثُ، وإن كان المقَرُّ به بيد الغير لَمْ يُقْضَ به، وإنَّما يؤثِّر الإِقرارُ فيما بِيَد المُقِر، أو ينتقلُ بيده يوماً من الدهر، فيُقضَى عليه حينئذ بموجِب إقراره.
الحجة الرابعةَ عشْرةَ: شهادة الصبيان بعضِهِم على بعض في القتل والجراح.
ولقبولها عشرةُ شروط: الأول العقل، ليفهموا ما رَأوْا. الثاني الذكورة، لأن الضرورة لا تحضل في اجتماع الْإِناث. وروي عن مالك: تُقبل شهادتُهُنَّ، اعتباراً لهُنَّ بالبالغات لوْثاً في القسَامة. الثالث، الحرية، لأن العبد لا يشهد. الرابع الإِسلام، لأن الكافر لا يُقبَلُ في قتل أو جراح، لأن الضرورة إنما دعت لاجتماع الصِّبْيَانِ لأجْل الكفار. وقيل: يُقبَل في الجِراح، لأنها ضعيفة، فاقتُصِرَ بها على أضعَف الأمْريْن. الخامس أن يكون ذلك بينهم، لعدم ضَرورة مخالفة الكبير لهم. السادس أن يُسَمع ذلك فهم قبل التفرق، لئلا يُلَقَّنُوا الكذِب. السابع اتفاق أقوالهم، لأن الاختلاف يُخِلُّ بالثقة. الثامن أن يكونا اثنين فصاعداً، لأنهم لا يكون حالُهم أتَّمَّ من الكبار. هذا هُو نقْل القاضي في المعُونة. (125). زاد ابن
(125) المراد به القاضي عبد الوهاب البغدادي، فهو صاحب كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة، وهو كتاب فقهى جليل مفيد، كان في عالم المخطوطات. وذَكرتْ مجلة الدعوة الاسلامية الصادرة، بالرياض، عدد 1487 أنه طبع مؤخرا، وهو بذلك سيعزز المكتبة الاسلامية في موضوع الفقه الاسلامي، إلى جانب أمهات كتب الفقه على مذهب الإِمام مالك رحمه الله، ورحم سائر الائمة الأعلام، وفقهاء الاسلام في كل عصر ومكان.
يونس: التاسع أن لا يحضر كِبَارٌ، فَمَتَى حضروا سقطت شهادة الصبيان، رجالا كانوا أو نساء، لأن شهادة النساء تجوز في الخطأ، وعَمْدُ الصبي كالخطأ.
العاشر، قال شهاب الدين: رأيت بعضَ المعتَبَرين من المالكية يقول: لابُدَّ من حضور الجسد المشهودِ بقتله، وإلا فلا تُسْمع. ونقله صاحب البيان عن جماعةٍ من الأصحاب. قالوا: لابدَّ من شهادة العدول على رؤية البدن مقتولا، تحقيقا للقتل. ومنع أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأشهب من أصحابنا، وجماعة من العلماء، شهادةَ الصبيان.
وقال بقبولهَا عليٌّ وابنُ الزبير، وعمر بن الخطاب ومعاوية، وخالفهم ابن عباس رضي الله عنهم.
لَنَا أن اجتماع الصغار، (126) واللعبَ بينهم بآلات الحرب، وصُنْع كل ما يكون فيه تدريب واستعداد لقتال الكفَرة الأعداء، مندوب ومامور به في الشرع، وقد يُتصور بينَهم قتلٌ أو جرح، فتركُهم دون أن يُقضَى بشهادتهم يؤدِّي إلى هدْر دمائهم، إذ ليس محل لعبهم خلاً يحضُر فيه كبير، فتقبل شهادة بعضهم على بعض بشروط، الغالب مع اعتبار تلك الشروط الصدق في الشهادة، فتُغَلَّبُ المصلحة الغالبةُ على المفسدة النادرة، لأنه دأبُ صاحب الشرع، كما جوَّزَ الشرع شهادة النساء منفرداتٍ حيث لا يكون الرجال بذلك الموضع. (127)
ثمَّ إن الصحابة رضي الله عنهم قضَوا بذلك.
ومن منَعَ احتج بأن العدالة اشتُرطتْ في الشهادة وهي غير موجودة، والنهي قد توجه قِبَلَ الشهود بقوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، وذلك
(126) عبارة القرافي لنا قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، واجماع الصبيان للتدريب في الحرب من أعظم الاستعداد ليكونوا كبارا أهلا لذلك، ويحتاجون في ذلك لحمل السلاح حيث لا يكون معهم كبير، فلا يجوز هَدْرُ دمائهم، فتدْعوا الضرورة لقُبول شهادتهم على الشروط المتقدمة، والغالب مع تلك الشروط الصدق ونُدْرة الكذب، فتقدَّم المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة.
(127)
عبارة القرافي: "في الموضح الذي لا يطلع عليه الرجال، للضرورة".
لا يتوجه إلا على مكلف. قالوا: وأيضا فَهُو لا يُعْتَبَر إقراره، فكذلك شهادته، بل شهادته أحْرى، لأن البَرَّ والفاجر يُقْبَلُ إقراره، بخلاف الشهادة. (128)
قلت: الدليلان الأولان يرجعان إلى الاستدلال بالمفهوم، وفيه ما فيه وأمَّا النهي فلا نُسَلِّمُ أن الصغير لا يؤمَر ولا يُنهَى، بل يؤمر ويُنهى. غايةُ ما يقال: أن الأولياءَ يامرونهم وينهَوْنهم، فنقول: هَبْ أن الأمْرَ كذلك فقد أمِرُوا ونُهُوا.
وأمّا الحمل على الإِقرار، فقد قلنا: إن شهادتهم كانت للضرورة مخافةَ هدْرِ الدّماءِ، والإِقرارُ بقي على أصله، فلا يُحمَل عليه الموضع الذي لحقت الضرورةُ فيه.
الحجة الخامسة عشرة: القَافة (129) حُجَّة شرْعية عندنا في القضاء بثبوتِ الأنساب. ووافقَنَا الشافعي، وخالفَنَا أبو حنيفة وقال: الحكْم بها باطل.
(128) كما احتج بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وهو يَمْنَعُ شهادة غير البالغ، وبقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، والصَّبي ليس بعدل، وبالقياس على غير الجراح، وبأنَّ الصبَّي لو قُبلت شهادتُه لقُبلت شهادة الصبيَان إذا افترقوا، كالكبار، وليس كذلك، أو لَقبلت في تخريق ثيابهم في الخلوات، أَو لجازت شهادة النساء بعضهن على بعضٍ في الجراحٍ، وهذه الوجوه في احتجاجات منع قبول شهادة الصبيان أجاب عنها القرافي رحمه الله واحداً واحدا، فليرجع إليها من رغب في التوسع فيها في كتاب الأصل. "الفروق".
(129)
القافة والقيافة تتُّبع الأثَرِ، والقائف هو من يتتبع الآثار ويعرفها، ويعْرف شه الرجل بأبيه وجَدِّه وأخيه مثلا.
وأصل مشروعيتها واعتمادها ما في الصحيحين وغيرِهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا تبْرُق أسارير وجهه، فقال: يا عائشة: ألمْ تَرَى، أن مجززا المدلجي دخل عليَّ فرأى أسامةَ وزيدا، وعليهما قطيفة قد غطَّيَا رؤوسهما وبدَتْ أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض".
وسبب ذلك كما ذكره القرافي وشراح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تبنَّى زيد بن حارثة، وكان أبيض، وابنه أسامة أسود، فكان المشركون يطعنون في نسبه، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لمكانته منه، فلما قال المدلجي ما قال، سُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو يَدُل من وجهين:
أحدهما أنه لو كان الحدْسُ باطلا شرعاً لما سُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يُسَرُّ بالباطل.
وثانيها أن إقراره عليه السلام على الشيء من جملة الأدلة على المشروعية، وقد أقر مجززا على ذلك، فيكون حقا مشروعا .. الخ. وقد سبق هذا في الجزء الأول، اثناء الكلام على قاعدة الفرق بين الرواية والشهادة (من قاعدتَيْ الخبر)، ص 267.
قال ابن القصَّار: وإنما يجيزها مالِكٌ في ولد الْأمَةِ، يطؤها رجلانِ في طَهْرٍ، وتاتي بولدٍ يُشبِه أن يكون منهما.
والمشهورُ عدم قبوله (130) في وَلَدِ الزوجة، وعَنْهُ قَبولُه. وأجازه الشافعي فيهما، وقد تقدَّم وجْهُ الدليل لمالك والشافعي وذكْرُ الأدلة على ذلك، وتقدم أيضًا ما لأبي حنيقة في ذلك، والجوابُ عنه، فلا نعيده، وفيما تقدَّم كفاية.
الحجة السادسةَ عشرة: القُمُطُ وما أشْبَهَهَا، قال بها مالك والشافعي وجماعة من العلماء، وفيها مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن أبي زيد في النوادر: قال أشهب: إذا تداعيَا جدارا متصلا ببناء أحدهما وعليه جذوع الآخَر فهو لمن اتصل ببنائه، (131) ولصاحب الجذوع موضع جذوعه، فلو كان لأحدهما عليه عَشْرُ خشبات وللآخَر مِثْلُهَا (132)، ولا شاهد لأحدهما، أو لا علاقة غيرُ ما ذكر قُضيَ لهما به نصفين.
ولا يحصل لكل واحد منهما من الجدار ما تحت خشبه، بل النصف كما قلنا.
قال القرافي: ولو كان عقده لأحدهما في ثلاثة مواضع وللآخر في موضع واحد، قُسِم بينهما على عدد العقود. وقال ابن عبد الحكم: إذا لم يكن لأحدهما عقد وللآخر عليه خشب ولو واحدة، فهو له، وإن لم يكن إلَّا كُوىً (133) غير
(130) كذا في جميع النسخ، وعند القرافي، وكان مقتضى السياق أن يقال: عدم قَبولها (اى القافة). ولعله أعاد الضمير بالمذكر على القائف المفهوم من القافة والقيافة، فليتأمل وليصحح ذلك، وقد توسع القرافي في الكلام هنا على القافة والاستدلال لحجيها في المذهب المالكي والشافعي، فليرجع إليه من رغب في ذلك.
(131)
علَّل القرافي ذلك بأنه حَوْزُهُ.
(132)
في ع: مثله، وفي ت: مثلها، وفي ح: ثلثها، وعند القرافي "وللآخر خمس خشبات، ولا ربْط ولا غير ذلك، فهو بينهما نصفان لا على عدد الخشب، وبقيت خشباتهما بحالها
…
الخ.
(133)
كوىً بضم الكاف وفتح الواو، جمعا لكُوة بضم الكاف وهي الخرق في الحائط، نافذا كان أو غير نافذ، وهو جمع قياسي كما قال ابن مالك رحمه الله: وفعَل، جمعاً لفعلةٍ عُرف".