الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة التاسعة والعشرون
فيما يُترَكُ من الجهل ولا يواخذُ عليه ممَّا لا
(348)
إعلم أن الله تعالى عذَرَ الانسان بالنسيان، ولم يَعذُره بالجهل مطلقا، بَلْ سمحَ في بعض الجهالات ولم يسْمح في بعضها.
وضابط ما يُعفَى عنه مما لا يُعفى عنه هو أن مَا يتعذر الاحتِراز عنه عادة فهو معفو عنه، وما لا يَتعذر الاحتراز عنه عادةً ولا يَشُقُّ فهو غيرُ معفو عنه.
وللأول صُوَر: أحدها (349) مَنْ وطِئ أجنبيةً بالليل فظنَّها امرأتَه أو جاريَتَه، عُفيَ عنه، لأن الفحص عن ذلك مما يشق على الناس،
= واكثرهم تواضعا وتقديرا لمقام النبوة والرسالة، ولصاحبها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد يكون مستند القرافي في اطلاقه تلك العبارة - والله اعلم - قول الله تعالى في سورة الانعام: 33، خطابا بالنبيه الكريم، وتخفيفا عنه وتسلية له من إذاية الكافرين، ومن إعراضهم وإصرارهم على العنادِ والضلال المبين:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} إلى قوله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
على أنه، وكما يقال: لكل جواد كبوة، ولكل فرس عثرة، وسُبْحان الله، فالكمال المطلق إنما هو لله وحده، ومن هو الإِنسان الذي ما ساء وما أخطأ قط، ومن ذا الذي له الحسنى والصواب فقط، إلا من اكرمه الله بالنبوة وختم به الرسالة، وآتاه الوسيلة والدرجة الرفيعة، وخصه بالمقام المحمود يوم البعث والقيامة وهو سيدنا ونبينا ورسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القائل في حديثه الصحيح:"أقيلوا ذوي الهيآت او المروآت عثراتهم"، والموصوف بالعفو والصفح عن امته، مما جعل كعب بن زهير رضي الله عنه وقد شرح الله صدرَه للاسلام، ورجا العفو من الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في قصيدته ولاميتة بانت سعاد:"والعفو عند رسول الله مامول. والاعمال والاقوال بالنيات، والله اعلم بالحق والصواب".
(348)
هي موضوع الفرق الرابع والتسعين بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرا فيه وبين قاعدة ما يكون الجهل عذراً فيه"، جـ 2. ص 149.
قال في أوله الإِمام شهاب الدين احمد بن ادريس القرافي رحمه الله:
"إعلمْ أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة، فعفا عن مرتكبها، وواخَذَ بجهالات فلم يعْفُ عن مرتكبها"، ثم عرض لضابط ذلك وبيانِه كما ذكره هنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري رحمه الله، ورحم كافة العلماء وسائر المسلمين.
(349)
كذا في نسخة الخزانة العامة بالرباط، ونسخة الخزانة الحسنية بالرباط، وكذا في كتاب الفروق للقرافي، والأظهر - وهو الصواب - أن يقال: إحداها، بصيغة التانيث، للتناسب مع الموصوف بذلك في التانيث وهو الصورة.
2) كمن أكل طعاما نجِساً يظنه طاهراً.
3) كمن قتل مسلما في صفّ الكفار يظنه حربياً فإنه لا إثم عليه في جَهْلِهِ بذلك، لتعَذّر الاحتراز عن ذلك، (وما يمكن الاحتراز عنه ويقدم على الشيء معه فهو آثم خصوصا في الاعتقاد). (350) وإنما كان آثما بالجهل دون النسيان، لما بينهما من الفرق، من حيث إن النسيان لا يُتصَوَّرُ الاحتراز منه، والجهل يُتصوَّرُ الاحتراز منه، (351) فالنسيان كالجهل الذي يتعذر الاحتراز منه. (352)
(350) ما بين قوسين ناقصٌ في النسخة التونسية، موجود في غيرها من نسخة ع، وحـ.
(351)
من الأمثلة التي أقى بها القرافي لهذه الصُور: من شرب خمرا يظنه جُلَاباً (وهو عسَلْ أو سُكَرٌ عُقد وخُلِطَ بماء الورب) فإنه لا إثم عليه في جهله بذلك، والحاكمُ يقْضي بشهود الزور مع جهله بحالهم لا إثْم عليه في ذلك، لتعذر الاحتراز من ذلك عليه، وقِسْ على ذلك ما ورد عليك من هذا النحو، وما عداهُ فمكَلَّف به، ومن أقْدَم الجهل فقد أثِم، خصوصا في الاعتقادات، فإن صاحب الشرع قد شددَ فيها تشديداً عظيما.
وأما الفروع دون الأصول فقد عفا صاحب الشرع من ذلك، ومن بَذل جهده في الفروع فأخطأ، فله أجر، ومن أصاب فله أجران كما جاء في الحديث، قال أبو الحسين في كتاب (المعتمَد في أصول الفقه): إن أصوِل الفقه اختَصَّ بثلاثة أحكام عن الفقه:
أن المصيبَ فيه واحِدٌ، والمخطئ فيه آثم، ولا يجوز التقليد فيه، وهذه الثلاثة التي حكاها هي في أصول الدين بعينها، فقد ظهر لك الفرق - يقول القرافي - بين قاعدة ما يكون الجهل فيه عذراً وبين قاعدة ما لا يكون الجهل فيه عذْراً". اهـ.
(352)
قلت: ومن البديهي المسلّم به أن الله تعالى أكرم عباده بخاصية العقْل ومزيته، وجعله أساس التكليف ومناطه، وأمرهم بالتعلبم والبحث عن المعرفة، وأرشدهم إلى سؤال أهل العلم والفقه في الدين، حتى يَتَأتَّى للناس رفع الجهل عنهم، ويتسَّر لهم دفعه والتحرز منه، فقال تعالى: خطابا لنبيه الكريم، وتعليما لعباده المومنين:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} . سورة طه، الآية 114، وقال سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . (سورة الأنبياء، الآية 7).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، أخرجه الحافظ جلال الدين عبد الرحمان السيوطي في كتاب "الجامع الصغير"، نقلا عن الحافظ ابن عبده البر رحمه الله، في كتابه جامع بيان العلم وفضله. ورواية عن أذكره رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم. في العذر بالنسيان:"رُفع عن امتى الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه" أورده كذلك الإِمام السيوطي في كتابه المذكور، نقلا عن الإِمام الطبراني رحمه الله، ورواية عن أنس رضي الله عنه، ورمز له السيوطي في كانابه بالصحة هكذا (صح).
وقد علق الشيخ العلامة المحقق أبو القاسم، قاسم بن عبد الله الأنصاري، المعروف بابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند الإِمام القرافي رحمه الله في هذا الفرق الذي ختم به الشيخ العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم. البقوري رحمه الله كتابه هذا (ترتيب الفروق)، وجعله آخرَ قاعدة من القواعد التي اشتمل عليها هذا الترتيب والاختصار، فقال ابن الشاط في ذلك:
قلت: وهذا هو الفارق الحقيقي، ولهذا يقال: تعلّم العلم الحقيقي الذي يُحتاج إليه في الاعتقادِ وفي الاعمال فرض عين، فمن ترك التعلم لذلك، وكان مما يُعملُ به ولم يعمَل فقد عصى معصيتين: الواحدة من حيث الجهلُ وتركُ العلم، والأخرى من حيث تركُ العمل (353)، ومن علِم ولم يعمَلْ فقد عصى معصية واحدة.
قلت: ولكنه يصعُبُ هذا من حيث أشياءُ في الشريعة تقتضي أن عذاب العالم الذي لا يعمل بعلمه أشدُّ، إذْ الحاجة إليه أقوى. (354)
= ما قاله القرافي في هذا الفرق صحيح، غيْرَ إطلاقه لفظ الظن في وطء الأجنبية وفيما معه (من باقي الأمثلة)، فإنه إن أراد حقيقة الظن الذي يخْطُرُ لصاحبه احتمالُ نقيضه فلا أرى ذلك صوابا، كان أراد بالظن الاعتقادَ الجزمي الذي لا يخطُرُ معه احتمال النقيض فذلك صواب.
وغيْرَ قوله: تكليف المرأة البلهاء المفسودة المزاج، فإنه إن أراد الفاسدة المزاج بحيث لا تفقه شيئا فلا أرى ذلك صوابا، فإن مثل هذه لا تكليف عليها، وإن أراد أنها تفقه ولكن بعد تعَب ومشقة شديدة فذلك صواب، مع أن قوله "المفسودة المزاج" فاسد، وصوابه: الفاسدة المِزاج.
وغير ما أطلق القولَ فيه من أن اصول الفقه ملحقة بأصول الدين في أن المصيب واحد، والمخطئ آثم، فإن المسألة مختلَف فيها، والمتقدمون من الأصوليين على التخطئة والتاثيم، والمتأخرون على خلاف ذلك.
ومسألة المرأة البلهاء المذكورة هنا عند ابن الشاط. قال عنها القرافي في سياق كلامه هنا: فإن تكليف المرأة البلهاء المفسودة المزاج، الناشئة في الأقاليم المنحرفة عفا يوجب استقامة العقل كأقاصى بلاد السودان، وأقاصى بلاد الأتراك، فإن هذه الأقاليم لا يكون للعقل فيها كبير رونق، ولذلك قال الله تعالى في بلاد الأتراك عند ياجوج وماجوج: وفي شأن ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} . (سورة الكهف، الآية 93). ومن لا يفهم القول وبَعُدَتْ أهليته لهذه الغاية مع أنه مكلَّفٌ بأدلة الوحدانيَّة ودقائق أصول الدين: إنّه تكليف ما لا يطاق، فتكليفُ هذا الجنس كله من هذا النوع
…
اهـ.
(353)
قلت: وحاله هذه كحال المتجاهر بالذنوب والمعاصي، يرتكب معصيتين: معصية الذنب، ومعصية التجاهر به، فيكون ذنبه أعظم ويكون إثمه أكبر، لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إنّه قال: "كل أمتي معافى إلا المُجَاهِرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد سترَه الله فيقول: يا فلانُ، عمِلتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يسترُه ربه، وبصبح يكشف ستْر الله عنه. رواه الشيخان: البخاري ومسلم، رحمهما الله.
(354)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلمَ علما لغيْر الله، أوْ أراد به غيرَ الله فلْيتبوأ مقعده من النار". رواه الامام الترمذي رحمه الله. =
ويمكن أن يقالَ: ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
"أوَّلُ الناسِ دخولاً إلى النار ثلاثة: (355) رجل آتاه الله عِلماً، فيقال له: ماذا عمِلتَ فيما عَلِمتَ؟ ، فيقول: يا ربِّ، أمَّا إني تعلمتُ وعلَّمْتُ فيك، فيقال: ولكن تعلمتَ ليقالَ، وقد قيل، فَأمُرُوا به إلى النار. (356)
= وفي معناه أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنٍ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تَعلَّم علماً ممّا يُبتغى به وجْهُ الله، لا يتعلمه إلا ليصيبَ به عَرَضاً من الدنيا (أي مالاً أو جاهاً) لِم يجد عَرف الجنة يوم القيامة" أيْ لم يجد رائحتها الطيبة، لكونه بعيدَ المسافة عنها، وإن ريحها ليوجَدُ على مسافة سبعين عاما، كما ورد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(355)
هو طرف من حديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه بعض أئمة الحديث والسنة: مسلم، والترمذي والنسائي رحمهم الله، وهو يتناول من قرأ القرآن لغير الله، ومن تعلم العلم لغير الله، ومَنْ جاهد لغير الله، لأن ذلك يُعتَبَرُ من قبيل العمل رياءً وسمعَة، وهو الشرك الخفي الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته المومنة، لأنه يذهب بثواب الاعمال الصالحة.
فقد جاء في حديث أخرجه الامام مسلم رحمه الله عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى (أي في الحديث القدصى):"أنا أغْنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيي تركنه وشِركه" أي تركتُهُ يطلب ثوابه ممن أشركه معي في العمل التعبدي الذي يجب أن يكون خالصا لوجه الله الكريم، ولذلكم قال تعالى خطابا لنبيه الامين، وتعليما لعباده المومنين: "إنا انزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد الله مُخْلِصا له الدينَ، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (سورة الزُّمَر، الآية (2) وقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} سورة الكهف. الآية. 110.
(356)
كذا في نسخة الخزانة الحسنية بالرباط، والمرموز الها بحرف ح، وفي نسخة الخزانة العامة بالرباط كذلك، والمرموز الها بحرف ع (فأمُرْ به إلى النار)، وفي النسخة التونسية المرموز اليها بحرف ت فيومَر به إلى النار". أعاذنا الله من ذلك بفضله وجوده، وعصمنا بفضله وكرمه
حتى تكون كُلَّ الأعمال الصّالحة التي نَتعبَّدُ الله بما وتتَقرَّب بها إليه سبحانه خالصة لوجهه الكريم، ومقبولة منا بفضله وكرَمه العميم.
ومما تجدر الإشارة إليه والتذكير به في هذا التعليق -كما هو معلوم- لدى افاضل العلماء وصفوة الأساتذة الأجلاء، أن الفعل الماضي أمرَ، ومضارعه يامرُ، تحذف همزته الأصلية مع همزة الوصل في صيغة الأمر منه، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"مروا أودكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" أي فرقوا بينهم في فراش النوم عند بلوغهم السنة العاشرة من حياتهم. اللهم إلا إذا كان مسبوقا بالفاء كما هنا في هذا الحديث، أو بالواو كما في قول الله تعالى خطاباً لنبيه الكريم، وتعليما للعباد المومنين الصالحين:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وقوله خطابا بالنسبة لجميع المسلمين: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] =
ويمكن أن يقال: هذا العالم الذي برزَ وظَهرَ، كان أشدَّ الناس عذابا، لأنه بِفسقه يُضِلّ خَلْقا كثيرا، وأمَّا من لم ييرُز ولكنه علِمَ ولم يعمل، فهو دون الذي ما عَلِم ولا عمِلَ، ففي مثل هذين قيل: الواحد أتى بمعصيتين، والآخر بمعصية واحدة، والله أعلم. (357)
(357) قلت: في آخر هذه الفقرة إشارة إلى بعض ما جاء عند الإِمام القرافي رحمه الله في الفرق الثالث والتسعين بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح، وقاعدةِ الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه" جـ 2 .. صفحة 148.
وقد اختصر الشيخ البقوري رحمه الله هذا الفرق من أصله، ، ولم يأتِ به ملخصا وموجزا كما هو عنده بالنسبة للفروق والقواعد الأخرى التي اشتمل عليها كتابه هذا.
وقد رأيت أن أورد هذا الفرق عند القرافي، وأنقله كما هو، تتميما للكتاب والفائدة، وأجعله ختام التعاليق التي أتيت بها في تحقيق هذا الكتاب ومراجعتِه وتصحيحه، وأن يكون استكمالا لموضوع الفرقِ الرابع والتسعين، نظرا لأهميته كباقي الفروق الأخرى، خاصة وأنه من الفروق القصيرة الجامعة في بيان وجوب التعلم والفقه في الدين، واحتسابه لله تعالى، فقال القرافي رحمه الله في هذا الفرق 93 من كتابه الجليل (الفروق).
"إعلَمْ أن الغزالي رحمه الله حكى الإجماع في كتابه (إحياء علوم الدين)، والشافعي رحمه الله، في رسالته حكاه أيضا في أن المكلف لا يجوز له أن يُقْدِمَ على فِعل حتى يعلَم حكم الله فيه. فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينَّه الله وشرعه في البيع، ومن أجَرَ وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله في الإِجارة، ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله في القراض، ومن صلَّى وجبَ عليه أن يتعلم حكم الله في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة، وجميع الأقوال والأعمال. فمن تعلم وعمِل بمقتضَى ما علِمَ فقد أطاع الله تعالى طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمَلْ فقد عصَى الله معصيتين، ومن عَلِم ولم يَعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله تعالى طاعة وعصاه
معصية.
ويَدُل لهذه القاعدة أيضا من جهة القرآن قول الله تعالى حكاية عن نوح عليه الصلام والسلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} (1)، ومعناه ما ليس في بجواز سؤاله عِلم، فدل ذلك على أنه لا يجوز له أن يقدم على الدعاءِ والسؤال إلا بعدَ علمه بحكم الله تعالى في ذلك السؤال، وأنه جائز، وذلك سبب كَوْن نُوح عليه السلام عوتِب على سؤاله الله عز وجل أن يكون معه ابنُهُ في السفينة، لكونه سأل قبل العلم بحال الولد، وأنه مما ينبغي طلبه أم لا. فالعتْبُ والجواب كلاهما يدل على أنه لابد من تقديم العلم بما يريد الإنسان أن يشرع فيه.
إذا تقرر هذا، فمثله قول الله تعالى (في سورة الاسراء):{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . نهى الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام عن اتباع غيْر العلوم، فلا يجوز الشروع في شيء حتى يعلَمَ، فيكون طلب العلم فريضة على كل مسلم.
قال الشافعي رحمه الله: طلبُ العلم قِسمانِ: فرضُ عَيْنٍ، وفرضُ كفاية، ففرضُ العيْن علْمُكَ بحالتك التي أنت فيها، وفَرْضُ الكفاية ما عدا ذلك. فإذا كان العِلم بما يُقْدِم الإِنسانُ =
انتهى كمل كتاب ترتيب الفروق واختصارُها، لأبي عبد الله محمد بن ابراهيم البقوري رحمه الله.
= عليه واجبا كان الجاهل في الصلاة عاصيا بترك العلم، فهو كالمتعمد التَّرْك بعدم العلم بما وجب عليه، فهذا وجه قول الإِمام مالك رحمه الله: إن الجهل في الصلاة كالعمدِ، والجاهل كالمتعمد لا كالناسي، وأما الناسي فمعفو عنه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
"رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه". وأجمعت الأمة على أن النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة، فهذا فرق.
وفرق ثانٍ، وهو أن النسيان يهجم على العبد قهراً لا حيلة له في دفعه عنه، والجهل له حيلة في دفعه بالتعلم، وبهذين الفرقين ظهر الفرق بين قاعدة النسيان وقاعدة الجهل".
وقد عقب الشيخ ابن الشاط رحمه الله على ما جاء عند الإِمام القرافي رحمه الله في هذا الفرق فقال: وما قاله في هذا الفرق، مما وقفْتُ عليه مِنْه، صحيح، ووقع فيه في النسخة التي رأيتها منه نقص دل عليه الكلام، فلهذا قلت:"مما وقفت عليه"، والله تعالى أعلم وأحكم، وهو سبحانه ولي الهداية والتوفيق. اهـ.
قلت: كان ما جاء عند الشيخ البقوري رحمه الله في هذه القاعدة الأخير التي ختم بها كتابه هذا "ترتيب الفروق واختصارها"، وكذلك ما جاء منها مفصلاً وموسعا في هذين الفرقين: الثالث والتسعين، والرابع والتسعين عند القرافي يدعُو المسلم والمسلمة إلى حُب العلم وطلب المعرفة ويدفعه إلى الاستزادة منه، ويحمله على البحث عن الحكمة التي هي ضالة المومن وغايتُه المنشودة، ولذته وسعادته الروحية والفكرية، كما ذكر الشيخ تاج الدين ابن السبكي رحمه الله تعالى في كتابه بمح الجوامع في أصول الفقه. وحكاه عن والده الشيخ الإِمام في العلوم فقال:"وحَصَر الشيخ الإِمامُ اللذة في المعارف".
كما يحمل القارئَ والمتعلم، والعالم الفقيه في الدين على أن يجعل اهتمامه بالعلم، تَلَقّيا وتلقينا، وتعلَّما وتاليفاً وتدوينا، واشتغاله به كتابة وإفتاءً، خالصاً لله رب العالمين، وابتغاء مرضاته ووجهه الكريم، ورغبة في الاستفادة من العلم ونوره، وتعليم الناس وإفادتهم به وتفقيه المسلمين، وتنوير بصائر المومنين، حتى يكون الفقيه العالم في زمرة أولئك العلماء العاملين، الصالحين المخلصين، الذين أثنى عليهم ربنا العظيم، ووزكاهم بقوله الكريم:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال فيهم سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، وقال فيهم جل علاه:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "من يردْ الله بن خيرا يفقهه في الدين"، وقال فيهم أيضا:
"العلماء ورثة الانبياء، وإن العالم لَيستغفرُ له مَن في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفضْلُ العالم على العابد كفضل القمر علي سائر الكواكب"، وقال فيهم ايضا رسولنا عليه الصلاة والسلام:"يشفعُ يومَ القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء"، رواه الإِمام ابن ماجة رحمه الله عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين، ورحم الله كافة العلماء والفقهاء وأعلام ملة الاسلام، وسائر المسلمين، فلمثل ذلك فليعمل العاملون، وفي ذلك فلْيتنافس المتنافسون.
والحمد لله الذي وفق وأعان على تحقيقه وإخراجه وإتمام ذلك، فله سبحانه وتعالى الفضل وله الشكر والمِنَّةُ على ذلك.
وصلى الله على سيدنا: محمد وَآله وصحبه أحمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ورحم الله علماء المسلمين، وجزاهم خيرا عما قدَّموه من خِدمة لِلعلم والدِين، ولأمَّتِهم الاسلامية في كل مكان وحين. وجعلنا لِهدي النبيِّ قوله صلى الله عليه وسلم
= انتهى كتاب ترتيب الفروق واختصارها وكمُلَ كما هو في نسخه الخطية، لمؤلفه الشيخ أو عبد الله محمد بن إبراهيم البقوري رحمه الله، وكمل تحقيقه، ومقابلته، وتصحيحه ومراجعتهُ، وتمت تعاليقه وتعقيباته في الهامش ليلة الجمعة 7 شعبان 1416 على يد العبد الفقير المتواضع لربه، الراجي منه سبحانه واسع مغفرته ورحمته، وكريمَ عفوه ورضاه، عمر ابن محمد، الملقب بـ (ابنُ عَبَّاد)، كان الله له في حياته وبعد مماته، وقابلَه بمحض جوده وكرمه، وجعلَ هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ونهخ به كما نفع بأصله كافة أهل العلم والفقه في الدين، وجميع المسلمين، وجعلنا ممن هداهم سبحانه ووفقهم لطاعته وطاعة رسوله بتوفيقه، وممن تكرم عليهم بالاقتداءِ بنبيه ورسوله سيدنا: محمد صلى الله عليه وسلم وجعلنَا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا. آمين، آمين، آمين.
هذا، وعملاً يقول الله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ، وعملا كذلك بما جاء في حديث االنبي صلى الله عليه وسلم من الأمر بالدعاء لمن عمل خيرا الانسان، أو أعانه وساعده على تحقيق وإنجاز عمل من الأعمال الصالحة النافِعة للمسلمين في حياتهم وشؤؤنهم الدينية والدنيوية، حين قال عليه الصلاة والسلام:"من لم يشكر الناس لم يشكر الله". وقال: "من أسدى إليكم معروفا فكافؤوه، فإن لم تجدوا ما تكافئون به فادْعوا له".
فإني أدعو الله تعالى، وأسأله سبحانه بالسبع المثاني والقرآن العظيم أن يثيب ويجزى خيرا كل من أعان على تحقيق هذا الكتاب وساعد على إخراجه للانتفاع به وشجع على ذلك بفائدة علمية أو كلمة طيبة من إخواني أصحاب الفضيلة العلماء، والأساتذة الأجلاء، وأخص بالذكر فضيلة الأستاذ الكبير والعالم الجليل، والفقيه المتضلع، والأديب البارع، معالي وزير الأوقاف والشؤون الإِسلامية الدكتور عبد الكبير المدغري، الذي يرجع إليه الفضل - بعد الله تعالى وعونه وتوفيقه - في تحقيق ونشْر هذا الكتاب الهام في أصله ومحتواه، المتواضح فيما قمت به من تحقيق لفظه ومبناه، وبذلته من مجهود علمي في انجازه وإخراجه للوجود، خدمة للعلم والعلماء، وللدين والمسلمين، آمِلاً، أن ينال القبول والرضى عند إخواني العلماء والأساتذة المحترمين، فما كان من نقص كملوه، ومن خطأ أصلحوه وصوبوه.
كما أدعوه سبحانه وأسأله أن يرحم المحسنين، وأن يجزل لهم الثواب الكبير والأجر العظيم، وأنْ يغفر لوالدينا ولمشايخنا ولكافة الائمَّة والعلماء والفقهاء المسلمين، ويتغمدهم برحمته الواسعة، ويجزيهم عنا أحسن الجزاء، ويسكنهم فسيح جناته، ويجعلهم في أعلى عليين، مع الذين أنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين.
متَّبعين، وعلى سنَنِهم ونهْجهم القويم سائرين، وختم لنا بالسعادة والحسْنى يوم لقاء وجهه الكريم، ونفع بهذا الَكتاب وأصله كافة أهل العلم، والفقه في الدين، وسائر الدارسين من شباب المسلمين آمين، آمين، آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المحقق: عبد ربه، المفتقر إلى رحمة الله وفضله وعفوه،
ذ. عمر بن محمد (بَنْعَبَّاد) كُنْيةً
ومسك الختام أنني أحمد الله تعالى وأشكره على فضله ونِعَمِهِ التي لا تعد ولا تحصى. كما أسأل الله تعالى في ختام هذا الكتاب أن يبارك في حياة امير المومنين جلالة الحسن الثاني، الذي يشجع العلم والعلماء، وتطبع هذه الكتب العلمية والتراث الاسلامي بأمره المطاع، وأن يديم اللَه له النصر والفتح والتمكين، ويحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، وأن يقر الله عين جلالته بولي عهده صاحب السمو الملكي الامير الجليل سيدي محمد، وصنوه صاحب السمو الملكي الامير المجيد مولاي رشيد، ويحفظه في كافة اسرته الملكية الشريفة، إنه سبحانه سميع مجيب.
والحمد لله أولا أخيرا، والشكر له سبحانه ظاهرا وباطنا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الرسول المصطفى الأمين، وعلى آله وأزواجه وذريته الطبين الطاهرين وصحابته الكرام الأبرار المجاهدين، ومن تبعهم باحسان إلى يوم الدين. صلاة ترضيه وترْضى بها عنا يا رب العالمين، وبجعلنا متشبثين بالقول الثابت في الدنيا وفي الآخرة يوم لقاء وجهك الكريم، ولا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم. فاللهم استجب لنا الدعاء، وحقق لنا فيك الامل والرجاء، وتكرم علينا بحسن العاقبة والخاتمة بمنك وففلك، وجودك وكرمك يا اكرم الاكرمين، واغفر لنا ولولدينا ولمشايخنا ولكل من الحق علينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمومنين والمومنات الاحياء منهم والاموات، انه سميع قريب مجيب الدعوات، يا ارحم الراحمين، يا رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.