الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثانية:
في الفرق بين ما هو من الدعاء كُفْرٌ وبين ما ليس بكفر
. (11)
إعْلَمْ أن الدعاء الذي هو الطلب من الله تعالى، لهُ حكْمٌ باعتبار ذاته من حيث هو طلَبٌ من الله تعالى، وهو الندْبُ، (12) لخضوعه لرَبه وإظهارِ ذُله وافتقارِه
= الأقوال أو الأعمال الخيرة، الفردية أو الجماعية، وأن يحترم رأي الغير المخالِف، ومُستندَهُ في ذلك، دون إنكار بتجهيل ولا تبديع، خاصة إذا لم يكن المرء المتحدث في هذا الموضوع من العلماء المتضلعين والفقهاء المتمكنين والمتخصصين، المستوعبين لنصوص الشريعة السمحة، ومقاصدها الحكيمة، وقواعدها الكلية.
هذا ما ظهر لي واستخلصته مما جاء عند القرافي والبقوري وغيرهم، رحمهم الله، رأيت الإشارة إليه بهذا التعليق في هذا الموضوع العلمي الدقيق، استنادا إلى أقوال هؤلاء الأئمة الأعلام، واستنارة برأيهم وفهمهم للنصوص والمقاصد، واهتداءً بفقههم في الدين، إن أصبتُ فيما استخلصته واستعرضْتُهُ وذكرته فمِن الله ومن حسن توفيقه، وإن أخطأت فمنى ومن قصوري. والخطأ والقصور في العلم والفهم كالنسيانِ، من شأن الإنسان، والعفوُ عند الله تعالى مرجو ومأمُولُ، واللهُ سبحانه من وراء القصد، وهو يهدِي السبيل، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
(11)
هي موضوع الفرق الثاني والسبعين والمائتين بين القاعدتين المذكورتين: جـ 4. ص 259. وقد علق عليه الشيخ بن الشاط رحمه الله بقوله: ما قاله القرافي من أن الدعاء طلبٌ، صحيح. وها هنا قاعدة، وهي أن الصحيح أن طلب المستحيل ليس بمستحيل عقلا ولا ممتنع، فإن مَنَعَه الشرعُ امتنع وإلا فلا.
وما قاله من أن الدعاء بترك تعذيب الكافر، وذلك مما يُعلَم وقوعُه سمعاً، طلبٌ لتكذيب الله تعالى فيما أخبر به، وطلبُ ذَلك كفرٌ، ليس بصحيح، من جهة أن طلب التكذيب ليس بتكذيب، بل هو مستلزِم لتجويز التكذيب عند من لا يُجَوز طلب المستحيل، وأما عند من يُجَوز طلب المستحيل فليس بمستلزم لذلك.
ثم على رأي من لا يُجَوز طلب المستحيل، إنما يكون تكفيرُ مَن يَلزم من دعائه ذلك تكفيراً بالمآلِ، وقد حكى هو وغيرُه من أهل السنة الخلافَ في ذلك، واختار هو عدم التكفير، فجزْمُهُ بتكفير الداعي بذلك ليس بصحيح، إلا على رأي من يكفّر بالمآلِ، وليس ذلك مذهبَه. اهـ.
(12)
وقد أمر الله به عباده في قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].
وفي قوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
إليه سبحانه. ثم قد يَعْرِضُ له من مُتَعَلّقاته ما يُوجبه أوَ يُحَرِّمه، والمحرَّم قد ينتهى إلِى الكفْر وقد لا ينتهى إليه، والذي ينتهي إلى الكفر أربعةُ أقسام:
الأول نَفْيُ ما دَلَّ السمعُ القاطع من الكتاب والسُّنَّة على ثبوته، وله أمثلة:
الأول أن يقول: اللهمَّ لا تُعَذِّبْ من كَفَرَ بك، أو إغْفِرْ له. وقد دَلَّتْ القواطع على تعْذيب كل واحد ممّن مات كافراً بالله تعالى، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (13)، فيكون ذلك كُفْراً، لأنه طلبٌ لتكذيب الله تعالى ممَّا أخْبَرَ به، وطلبُ ذلك كفْرٌ، فهَذا الدُّعاء كُفْرٌ.
الثاني أن يقول: اللَّهمّ لا تُخلّد فلانا الكافرَ في النار، وقد دلت الأدلة القاطعة على تخليده.
الثالث أن يسأل الداعى اللهَ تعالى أن يُريحَهُ من التَّعب حتى يستريح من أهوال يوم القيامة، وقد أخبرَ اللهُ عن تعَب كلِّ أحدٍ من الثَّقَلَيْن، (14)، فيكون هذا الدُّعاء كفراً، لأنه طلبٌ لتكذيب الله تعالى في خبره.
القسم الثاني أن يطلب الداعى من الله تعالى ثبوتَ ما دلَّ القاطع السمعي على نفيه، وله أمثلة:
الأول أن يقول: اللهم خلِّد فلانا المسلمَ عَدُوِّي في النار ولَمْ يُرِدْ سُوءَ الخاتمة، وقد أخْبر اللهُ أنه لا يُخلِّد مؤمنا في النار، ولابُدَّ له من الجنة، فيكون مستلِزما للتكذيب، وذلك كفْرٌ.
(13) سورة النساء الآية 48.
(14)
الثَّقلان: بفتح الثاء المعجمة والقاف تثنية ثَقَل بفتحهما، والمراد بهما: الجن والإنس، لكونهما موجوديْن على ظهر الأرض، ويثقلانها بوجودهما عليها. وقد ورد ذكرهما بهذه الكلمة في الآية الواحدة والثلاثين من سورة الرحمان، وهي قوله تعالى في معرض التهديد بالوعيد والحساب يوم القيامة لهذه المخلوقات:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ} ، كما جآء ذكرها في عِدة أحاديث نبوية.
الثاني أن يقول: اللهم أحْيِنِي أبداً حتى أسْلَمَ من سَكَرات الموت، والله أخبر بأن كل نفسِ ذائقةُ الموت.
الثالث أن يقول: اللَّهُمَّ اجعل إبليس مُحِباً لي ناصحا ولبنى آدم أبدَ الدهِر حتى يَقِل الفساد، والله قد قال:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} (15).
قلت: لِقائل أن يقول: بل هذانِ القسمان من طلبِ ما لا فائدة في طلبه من حيث العلم بعدم حصول ذلك، ولا كفرَ يلزمُ منهما، ولازمٌ لهما أحدُ المعنيَيْنِ، وليس إلزامُ الكفْرِ بأولى من إِلزام الإِلزام الآخَر، بل إلزام ما قلناه أوْلى، استصحابا للإيمان المعلوم منه بأشياء كثيرة وبالصريح.
القسم الثالث أن يطلب الداعي من الله تعالى نفْيَ ما دل القطع العقلي على ثبوته ممّا يُخِلّ بإجْلال الرُّبوبية، وله أمثلة:
منها أن يسأل اللهَ سلبَ قدرته العظيمة حتى يأمَن المؤاخَذَة، (16). ومنها أن يَسأل اللهَ تعالى ارتفاع قضائه وقدَرِه. (17)
القسْمُ الرابع أن يطلب من الله تعالى ثبوتَ ما دلَّ القاطع العمَلي على نفيه ممَّا يخِل بجلال الربوبية، ولهُ مُثُلٌ:
(15) وتمامها {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [فاطر: 6 - 7].
وقال ابن الشاط معلِقا على كلام القرافي في هذا القسم الثاني: الكلام على هذا القسم كالكلام على القسم الاول، (أي تعليقه عليه كتعليقه على الأول بما أبداه من ملاحظات وتصحيحات وتصويبات فيه لكلام القرافي).
(16)
قال ابن الشاط: ما قاله القرافي في ذلك ليس بصحيح، فإن طلب نفى العلم والقدرة ليس طلبا لضدهما، وهُمَا الجهل والعجز كما قال، لجواز غفلة الداعي وإضرابه عنهما، وعلى تقدير عدم الغفلة والإضراب إنما يكون ذلك بالتكفير بالمآلِ، والله أعلم.
(17)
قالَ ابن الشاط: سبق أن كون أمْرٍ ما كفراً إنما هو وضع شرعي، فإن ثبت أن ذلك كفْر فهو كذلك، وإلَّا فلا، هذا إن أراد أن عين الطلب هو الكفر، وإن أراد أنه يستلزم الكفر وهو الجهل، يكون سلبُ الاستيلاء مما تتعلق به القدرة أو لا تتعلق، فهو من التكفير بالمآلِ، والله أعلم.
منها أن يَعْظُمَ شوق الداعي إلى ربه، يسأله أن يَحُلَّ في بعض مخلوقاته حتى يجتمع به. (18)
ومنها أَن يسأل اللهَ تعالى أن يجعل له التصرف في العالم بما أراد. وقد وقع هذا لِجماعةٍ من جُهَّال الصوفية، ويقولون: فُلَانٌ أعْطِى كلمةَ كُنْ، ويَسألونَ أن يُعْطَوْا كَلِمة كُن، التي في قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (19). وما يعلمون معْنى هذه الكلمة في كلام الله تعالى، ولا يعلمون ما معنى أعطاها إن صَحّ أنها أعطيتْ، (20) ومُقتضى هذا طلبُ الشركة في المُلْكِ،
(18) علَّق ابن الشاط على هذا الكلام بقوله: الكلام في هذا القسم كالكلام في الذي قبله، وقولهُ هناك وهنا:"مما يخِل بجلال الربوبية"، صوابه بإجلال الربوبية، أمَّا جلال الربوبية فلا يُخل به شيء.
قلت: وهو تعليق وتصحيح دقيق وهام من ابن الشاط رحمه الله، يقال فيه وفي مِثله: نِعْمَ التصحيحِ والتصويب.
(19)
سورة يس، الآية 82.
(20)
زاد القرافي هنا قوله: "وهذه أغوار بعيدةُ الرَّوْم على العلماءِ المحصِّلين، فضلًا عن الصوفية المتخرصين، فيَهلكون من حيث لا يَشعرون، ويعتقدون أنهم إلى الله مُتَقربون، وهم عنه متباعدون، عصَمَنَا الله من الفتن وأسبابها، والجهالات وشبهْها".
وعلق ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي بدءا من قوله: "وقد وقع هذا لِجماعة من جهال الصوفية" إلى آخر هذه الفقرة فقال: إن كان أولئك القومُ (الصوفية) يعتقدون أن الله يعطى غَيْرَهُ كلمة كن، بمعنى أنه يعطيه الاقتدار، فذلك جهل شنيع إن أرادُوا أنه يعطيه الاستقلال، وإلا فهو مذْهَبُ الاعتزال، وكلاهما كفرٌ بالمآلِ. وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى يعطى كُنْ، بمعنى أن يكون لهذا الشخص الكائناتُ التي يريدها مقْرونة بإرادته، فعبروا عن ذلك بإعطائه، كلمة كن، فلا محذور في ذلك إذا اقترن بقولهم قرينةٌ تُفْهِمُ المقصود".
قلت: وعلى مثل هذه الوجوه المعقولة والمقبولة يمكن وينبغى أن يُحمل مثل هذا الكلام عند الصوفية، حتى يتم التوفيق في كلامهم بين الحقيقة والشريعة، ويتأتى إيجاد مخرج سليم له، ما دام ذلك ممكنا. فكرامات الأولياء تبقى في إطارها وفي حدود الكرامات والبشرى التي أثبتها الله لأوليائه المتقين في الدنيا والآخرة، بقوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ، ولا تصل الكرامة إلى درجة المعجزة التي أعطاها الله للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وخصَّهم بها، فضلا عن أن تفُوقَها أو تفُوتها، فالكرامة تبقى كرامة في اسمها ومضمونها، والمعجزة هي خاصة بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، باعتبارها أمراً خارقا للعادة على وجه التحدي، كما يعرفها بذلك العلماءُ، وهي تتنزل وتعْتَبَرُ بمنزلة حديث قدسي ناطق بقول الحق سبحانه صدَق عبْدي في كل ما بلغ عني من الْوَحى بالدين وشرعه الرباني الحكيم كما قال العلامة عبد الواحد بن عاشر في نظمه المرشد المعين:
إذْ مُعْجزاتهم كقَوْلِهِ، وبَرَّ
…
صدَقَ هذا العبدُ في كلِّ خَبَر =
وهو كفْرٌ، والحلُوُل كفر. (21)
= وفى جوهرة التوحيد للعلامة برهان الدين إبراهيم بن هارون اللقاني (ت 1041 هـ) رحمه الله، قولهُ:
وأثبِتَنْ للأوليا الكرامَةْ
…
ومن نَفَاها فانْبِذَنْ كلامَه
وعندنا أن الدعاء ينفعُ
…
كما من القرآن وَعْداً يُسْمَعُ
وقال فيها الإِمام شرف الدين محمد بن سعيد الصنهاجي البوصيري (ت 608 - 696 هـ) رحمه الله، وذلك في قصيدته الشهيرة والذائعة الصيت قصيدة "الهمزية في مدْح خير البرية"، حيث جاء في أبيات منها، خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم:
لمْ نَخَفْ بعْدك الضلال وفينا
…
وارثُو نورِ هدْيك العلماءُ
فانقضَت آيُ الأنبياء وآيا
…
تك في الناس مالهُن انقضاء
والكراماتُ منهمو معْجزات
…
حازها من نوالِك الأولياء
وقال الإِمام النسفي في العقائدَ النسفية: "وكرامات الأولياء حق، فيظْهر الله الكرامة على طريق نقض العادة للولي من قطع المسافة البعيدة في المدة القليلة، وظهور الطعام والشراب واللباس عند الحاجة
…
الخ.
(21)
قال الشيخ محمد على ابن الشيخ حسين مفتي المالكية في عصره في كتابه تهذيب الفروق، المطبوع مع كتاب الفروق للقرافي، وهو يتحدث في القسم الثالث مما يوهم ما يستحيل في حق الله تعالى، وهو ما لم يرد هو ولا نظيره في كتاب ولا سنة صحيحة، فقال:
وإلى مثالِه وحكمه أشار العلامة الأمير في حاشيته على شرْحِ الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد بقوله:
"وذهب بعض المتصوفة والفلاسفة إلى أنه تعالى الوجُودُ المطلق، وأن غيره لا يتَصفُ بالوجود أصْلا، حتى إذا قالوا: الإنسان موجود، فمعناه أن له تعلقاً بالوجود وهو الله تعالى، وهو كفْرٌ، ولا حلولَ ولا اتحادَ، فإن وقع من أكابر الأولياء ما يُوهِم ذلك أوِّلَ بما يناسبه كما يقع منهم في وحدة الوجود، كقول بعضهم:(ما في الجُبَّةِ إلا الله)، أراد أن ما في الجبة والكونِ كله لا وجود له إلا بالله. {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} ، وذلك اللفظ، وإن كان لا يجوز شرعا لإيهامه، لكن القوم (أي المتصوفة) تارة تغلبهم الأحوال، فإن الإنسان ضعيف إلا من تمكن بإقامة المولى سبحانه.
قال: ورأيت في مفاتيح الكنوز أن الحلاج قال: أنا، وفيه بقيَّة ما من شعوره بنفسه، ثم فَنِىَ بشهوده، فقال: الله، فهما كلمتان في مقامين مُختلفين.
قال: ورأيت - وأظنه في كلام ابن وفا - أن من أعظم إشارات وحدة الوجود قوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 53 - 54] وصحَّ في الحديث القدسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه "لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها
…
" إلى آخر هذا الحديث". انتهى ما نقله الشيخ علي وذكره عن هذا الموضوع في كتابه (تهذيب الفروق)، نقلا عن حاشية الأمير على شرح جوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم اللقاني، رحم الله الجميع.
ومنها أن يسأل ربَّه أن يجعل بينه وبينهُ نَسَباً يكون له به الشرف على الخلائق. وقد قام البرهان القاطع على استحالةِ ذلك عليه، وطالبُ هذا قد طلب الاستيلاد، وَهو كفر. (22)
قلت: إلزامه الكفر للصوفية من حيث قولهم: "أعطِىَ فلانٌ كلمةَ كن"، غيرُ صحيح، فإن هذا الكلام يصدق على من خَرَق الله له العادة مرَّةً أو مرتين، بأن طلب من ربه شيئا، أوْهَمَّ بشيء يُتصَوَّر (23) مطلوبه على وفْق مرادِه بغير تدريج بل دَفعةً، وهذا القدر صحيحٌ وجوده، ولا يلزم منه الشِّركة لله في المُلْك، ولا بأكثر من ذلك.
قال شهاب الدين رحمه الله: وقد قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: إِن بناء الكنائس كفر إذا بناها مسلم، ويكون رِدّةً في حقه، لاستلزامِه إرادة الكفر (23) ، ولذلك أفتى بأنَّ المسلم إذا قتَل نبياً يعتقد صحة رسالته كان كافراً، لِإرادته إماتة شريعته، وإرادةُ إماتة الشريعة كفْرٌ (24)
قلت: ولعلَ مثل هذا التوجيه والتصويب بقصد إيجاد مَخْرَج مقْبول وتأويل سليم لا يُنسَب من هذه الكلمة وغيْرها للشيخ المتصوف الحسين بن منصور الحلاج، وكذا لِبَعْض الصوفية في كلامهم من شطحات أحيانا، يبدو تأويلا وتوجيها مقبولا ومعقولا إلى حد ما، ويُعتبر مخرجا لذلك بشيء من التجاوز والتسامح، ويبقى معه التفويض بعد ذلك إلى الله في شأنهم وأمرهم، فقد أفْضَوْا إلى ما أفضوا إليه من حالهم ومآلهم الغائب عنا عند الله تعالى، وهو سبحانه، المطلع على القلوب والأحوال، العليم بالنيات والسَّرائر النفسية، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ويَعْلم المقاصِدَ، والسَّرائر النفسية، يعلم ما توسوس به نفس الإنسان وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وذلك حتى يسلم المرء من الحكم على الناس بما يظنه صوابا، ويكون عند الله وفي علمه سبحانه خطأ يتحمل الإنسان وزره وإثمه يوم لقاء الله والفصل بين العباد. تمشيا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أمِرْتُ أن أحكُمَ بالظاهِرِ، واللهُ يتولَّى السَّرائر"، والله أعلم بالحق والصواب، والهادي إليه من أطاعه وأناب.
(22)
علق الشيخ ابن الشاط على هذا المثال بقوله: قلت: الكلام في هذا كالكلام فيما قبله.
(23)
قال ابن الشاط: معنى قول أبي الحسن الأشعري (أن بناء الكنائس كُفْر) أي في الحكم الدنيوي، وأما الأخروي فحَسَبَ النية، والله تعالى أعلم.
(24)
قال ابن الشاط: ما قاله الشيخ أبو الحسن في هذه المسألة ظاهر.