الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة العشرون:
في تقرير ما يباح من عِشْرة الناس من المكارمة وما يُنهَى عنه مِنْ ذلك
(239)
إعلَمْ أن الذي فيهاحُ من إكرام الناس قسمان:
القسم الأول: ما وردت فيه نصوص الشريعة من إفشاء السلام وإطعام الطعام، وتشميت العاطس، والمصافحة عند اللقاء، والاستئذان عند الدخول،
= المعِينة على تقريب الفيب أو تحققه، كما قيل في ابن عباس رضي الله عنهما: إنه كان ينظر إلى الغيب من وراء سِتْر رقيق، إشارةً إلى قوة أودعَهُ الله إيَّاها، فرأى بما أودعه الله تعالى في نفسه من الصفاء والشفوف والرقة واللطافة".
قلت: ويمكن القول بأن ذلك من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، ومنٍ ثمرته وسرِّه حين دعا له بقوله:"اللهم فقهه في الدين وعلِّمْهُ التَّأويلَ"، فأظهر الله عليه سراً وفتحا ربانياً، أنارَ بصيرته وفتح الله قلبه، فهو ينظر ويدرك بنور الله ما قد لا يدركه غيره من الصحابة، والله أعلم. ثم قال القرافي: "فمن الناس من هو كذلك، وقد يكون عاما في جميع الانواع، وقد يهبه الله تعالى ذلك باعتبار المنامات فقط، أو بحساب علم الرمل. فقط، أو الكتِف الذي للغنم فقط، أو غير ذلك، فلا ينفتح له بصحة القول والنطق في غيره. ومن ليس له قوة نفس في هذا النوع، صالحةٌ لعلم تعبير الرؤيا لا يصح منه تفسيرها. ومن كانت له قوة نفس فهو الذي ينتفع بتفسره
…
الخ.
قلت: أمّا بحساب علم الرمْل والكتف فهو: محل توقف ونظر، كيفما كان الامر، إذْ الاعتماد على ذلك في تعبير الرؤيا يدخل في نظري في باب العِرافة والكهانةِ والرجْم بالغيب، وقد نهى الشرع عن إتيانها وتَعاطيها، وعن التصديق بها كما سبق ذكره وبيانه، فليتأمل في كلام القرافي رحمه الله، وفي المراد منه، ولْيُحَقَّق ذلك، وليصحَّح، والله أعلم بالصواب.
(239)
هي موضوع الفرق التاسع والستين والمائتين بين القاعدتين المذكورتين: جـ 4. ص 250. ولم يعلق عليه ابن الشاط بشيء، فيكون مشمولًا بقوله في بعض الفروق: ما قاله القرافي فيها صحيح أو نقلٌ لا كلام فيه.
وأنْ لَّا يجلسَ على تكرمته إلا بإذنه أيْ على فراشه، ولَا يؤمُّ منزلَه إلا بإذنه، ونحْو ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه (240).
(240) فمن ذلك قول الله تعالى في التحية والسلام: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} سورة النساء. الآية 86.
وردُّ التحية أن تَرُدَّ بمثلها، وأن تقف عند الكلمة التي سلم عليك بها، بأن تقول له: وعليكم السلام. أمَا الرد بأحسنَ منها، فهو أن تزيد عليها كلمات طيبة، بأن تقول لِمَن بدأك بالتحية والسلام: وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، وذلك يريدك ثوابا وأجرا عند الله سبحانه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسى بيده وهو الله تعالى، الذي بيده نفوس العباد، وأرواحُ الخلائق كلها)، لا تدخلوا الجنة حتى تومنوا، ولا تومنُوا حتَّى تَحابُّوا، أفَلا أدلكم على أمْرٍ إذا فعلتموه تحابَبْتُمْ، أفشُوا السلام بينكم". رواه ائمة الحديث: مسلم، وأبو داود والترمذي رحمهم الله. وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أُعبُدوا الرحمان، وأطعموا الطعام، وأفشُوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام"، رواه الترمذي بسند حسن.
وقال تعالى في وصف عباده المومنين الأبرار: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} . سورة الانسان. الآيتان: 8، 9.
وفي مشروعية الاستئذان عند الدخول إلى منزل الخير، وآداب ذلك، يقول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . سورة النور. الآية 27.
وروى أصحاب السُّنن: أبو داود، والترمذى، والنسائي، وابن ماجة رحمهم الله، أن رجلا استاذَنَ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فقال: أألجُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان حاضِرًا معه: أخْرُجْ إلى هذا، فعلِّمه الاستئذانَ، فقل له: قل السلام عليكم، أأدخل؟ فسمعه الرجل، فقال: السلام عليكم، أأدخل، فأذِن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إستأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا (اي ثلاث مرات)، فأذِنَ لي". رواه الترمذي.
وفي مشروعية المصافحة، واستحبابها وتحبيبها للناس، لما تريده من تقوية التعارف والمؤاخاة والودة والمصافاة بين الخاس في أي وقتٍ أو حال كانت، ما أخرجه الامام البخاري والترمذي رحمهما الله عن قتادة رضي الله عنه قال: قلت: لأنَسٍ: أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نَعَمْ.
وعن البَرَاءِ بن عازب رضىِ الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ""ما من مسلميْن يلتقيان فيتصافحان إلَّا غُفِر لهما قَبْل أن يتفَرَّقا". رواه أبو داود والترمذي. وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمِدَا الله واستغفراه غُفِرَ لهما". رواه أبو داود وابن السُّنّي رحمهما الله.
القسم الثاني: ما لم يَرد في النصوص ولا كان في السلف، لأنه لم تكن أسْبابُ اعتباره موجودةً حينئذ، وتحددت في عصرنا، فتعيَّن فعله لتحدُّدِ أسبابه، لَا لأنه شَرْعْ مستأنَفٌ، بل عُلِمَ من القواعد الشرعية أن هذه الاسبابَ لو وُجدتْ في زمنِ الصحابة رضي الله عنهم لكانت هذه المسبَّباتُ من فعلهم، فتأَخَّر الحكم لتأخر سببه. (241) ولا فرقَ بيْنَ أن يُعلَم ذلك بنص أو بقواعدِ الشرع.
وهذا القِسم هو ما في زماننا من القيام للداخل من الأعيان وإحناء الرأس له، إن عَظُم قدْرُهُ جدًّا، والمخاطبةُ بجمال الدين وغير ذلك من النعوت، والإعراض عن الأعاء والكُنَى، والمكاتبات بالنعوت أيضا، كلَّ أحد على قدره، وتسطير اسم الكاتب بالمملوك ونحوه، والتعبير عن المكتوب إليه بالمجلس الناس في المجالس، والجناب، ونحو ذلك من الأوضاع الغَرِبيةِ، ومن ذلك ترتيب الناس في المجالس، فهذا لم يكن عند السلف، ونحن اليوم نفعله، وهو جائز مامور به مع كونه بدعة. وبهذا أفتى عزّ الدين بن عبد السلام، وكان لا تاخذه في الله لوْمةُ لائمِ، حيث
= وعن أبي هريرة رضي الله عنه (وهو من الصحابة المُكْثِريِن الدين رووا أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بحكم ملازمته المستمرة له) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حق المسلم على المسلم سِتٌّ: "إذا لقِيتَه فسلِّمْ عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا استنصحك فانصَحْ له، وإذا عطس فحمد الله فشِمته (أيْ ادْعُ له وقل له: يرحمُك الله)، وإذا مرضَ فعلْه، وإذا مات فاتَّبِعْهُ". رواه الشيخان وغيرهما من بعض اصحاب السُّنن رحمهم الله.
وفي مشروعية تقديم صاحب المنزل على غيم للصلاة بالناس، ما بُىوى عن أبي عطية رضي الله عنه قال: كان مالك بن الحويرث ياتِينا في مصَلَّانا يتحدث، فحضرت الصلاةُ يوما، فقلنا له: تقدَّمْ، فقال: لِيتقَدَّمْ بعضكم حتَّى أحدثكم لم لا أتقدمُ، سَمِعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من زار قوما فلا يَؤمَّهم، ولْيَؤمَّهُمْ رجلٌ منْهم". رواه أصحاب السُّنن.
(241)
زاد القرافي رحمه الله هنا قولَه: "ووقوعُهُ عند وقوع سببه لا يقتضي ذلك تجديد شَرْعٍ ولا عدمَه، كما لو أنزل الله سبحانه حُكْماً في معصية من لواط وغيره، مِنْ رجم أو غيره من العقوبات، فلم توجد تلك المعصية أو ذلك الفعل زمن الصحابة، وَوُجد في زماننا فرتَّبْنا عليه تلك العقوبة (المشروعة) لم نكن مجَدّدين لشْرع، بل تَقَرر في الشرع".
وهو مَلْحَظ وجيه وهام ومفيد جدا، لفَهْمِ ما يستجِد من مثل هذه الامور، ومعرفة حكم الشرع فها ونظره إليها، فليتأمّل ذلك، والله أعلم.
كُتبتْ (وقُدِّمَتْ) إليه في هذا الشأن فُتْيا، فقال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَبَاغَضُوا ولا تَحاسَدوا ولا تدَبَروا ولا تقَاطَعوا وكونوا عباد الله إخوانا" (242)، وترْكُ القيام في هذا الوقت يُفضى للمقاطعة، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيداً، هذا نصُّ ما كَتَبَ جوابا عن الفتيا، بغير زيادة ولا نقص، وهو معتى قول عمر بن عبد العزيز: "تُحْدَثُ للناس أقضيةٌ بقَدْر ما أحْدثوا من الفجور"، أي يُحْدِثون أسبابا فتُرتَّبُ أحكامٌ على نسبة ذلك، الشرعُ يجيزها، لا أنه يُحْدَثُ شرعٌ لم يكن، وهذا بشرط أن لا يستبيحَ محرَّما ولا يتركَ واجبا.
ثم القيام قد يكون محرّماً إن فُعِلَ تعظيما لمن يحبه تجبراً من غير ضرورة، ومكروها إذَا فُعِل تعظيما لمن لا يحبه، لأنه يُشبِه فعل الجبابرة ويوقع فساد قلب الذي يقام له، وهو مباح إذا فُعِلَ إجلالا لمن لا ريده، ومندوبٌ للقادم مِنْ السَّفَر. (243).
(242) حديث صحِيح، أخْرجهُ الإِمام مالك في الموطأ، والشيخان وأبو داود والترمذى رحمهم الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(243)
عن أبي سعيد رضي الله عنه "أن أهل قريظة (وهم قبيلة من اليهود، فإنهم ثلاث فرق وقبائل: بنو قنيقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل إيى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فقال: قوومو إلى سيِّدكم، أو قال: خَيْركُم، فقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال. هؤلاء نزلوا على حُكْمِكَ (اى قَبِلوهُ)، قال (أيْ مُعاذُ: فإق أحْكُم أن تُقتَلَ مُقاتِلَتُهم، وتُسبَى ذرَاريهم، فقال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): لقد حَكَمت بما حَكَم به الْمَلِكُ"، وهو الله تعالى. رواه الشيخان: وفي رواية لأبي داود: "فلما قرب (سعد بن معاذ) من مسجد قال للانصار: "قومُوا إلى سيدكم".
وبيان ذلك أن قبيلة بني النضير من يهو خيْبَرَ كانوا قريبين من المدينة وعلى مسافة ميلين منها (أي نحو ثلاث كلمترات تقريبا)، وكان بنو قريظة وقبيتهم من يهود خيبر كذلك، على مسافة خمسة أمْيال أي ما يقارب خمسَ كلمترات، خرج اليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر شهرٍ ذى الحجة من سنة خمس من الهجرة، وذلك في ثلاثة الاف رجل، وستة وثلاثين فرساً، فتحصَّنوا في حصونهم، فحاصرهم مُدة تتراوح بين 15 و 25 يوما وليلة، ثم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، أي رضُوا به واستسلَموا على أساسه، فردَّهُ إلى سَعْد، فحكم فيهم بالأسْرِ، والْقَتْلِ، لأنهم كانوا في معاهدة أمَانٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فانتهزوا فرصة غزوة الخندق ونقضوا العهد، واتفقوا مع قريش وغطفان على حرب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره جبريل بهذا وأمَرُه بالخروج إقتالهم وإجلائهم عن المدينة المنورة وكانوا غنيمة للمسلمين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت عليه بنتُه فاطمة الزهراء رضي الله عها، قام إليها فأخذ بيدها، فقبَّلها وأجْلَسَها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها فعلت معه مثل ذلك" =
وها هنا مسائلُ:
المسألة الأولى: المصافَحَة:
ففي الحديث عن رسول صلى الله عليه وسلم: "إذا تلاقَى الرجلان فتصافَحَا تحاثَّتْ ذنوبُهما، وكان أقربُهما إلى اللهِ أقربَهما بِشْراً"، وهذا يقتضي أن المصافحة إنما شُرِعت عند اللقاء لا عند الفراغ من الصلاة، وذُكر عن مالك كراهةُ المصافحة، والمشهور أنها مستَحبة، قاله أبو الوليد بن رشد (244).
= رواه اصحاب السنن. وهو دليل على جواز القيام للشخص، إجلالا له وتقديرا واحتراما. وعن أبي مجلز رضي الله عنه قال: خرج معاوية على ابن الزبير، وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابنٍ عامر: إجْلس، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: منْ أحَبَّ أن يَمْثَلَ له الرجال قِيَاما فليتبوأ مقعده من النار"، رواه أبو داود ورواه الترمذي بلفظ: "من سَرَّه أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار".
قال القرافي: وبهذا يُجْمَعُ بين قوله عليه الصلاة والسلام عن حب الانسان أن يقومَ له الناس، وبين قيامه صلى الله عليه وسلم لعكرمة بن أبي جهل لَمَّا قدِمَ من اليمين، فرحا بقدومه، وقيام طلحة بن عبدالله لكعب بن مالك ليهنئه بتوبة الله تعالى عليه بحضور النبي عليه السلام، ولم ينكر عليه ذلك، فكان كعبٌ يقول: لا أنساها لطلحة".
(244)
قال القرافي رحمه الله: حجَّة الكراهة (أيْ عند مالك) قوله تعالى حكاية عن الملائكة لما دخلوا على ابراهيم عليه السلام: "قالوا سلاما، قال: سلامٌ"، قال مالك: ولم تُذْكَر المصافحة، ولأنَّ السلام ينتَهِي فيه للبركات، ولا يرادُ فيه قول ولا فِعْلٌ ثم زاد القرافي قائلا: حجة المشهور ما في الموطأ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصافحُوا يذْهَبْ الغِلّ (أي الحِقد)، وتهادَوْا تَحَابُّوا، وتَذهَبْ الشحناء (أيْ البغضاء بينكم). أخرجه الامام مالك في الموطأ، عن عطاء بن أبي مسلم عبد الله الخراساني .. وقال الحافظ المنذِري في كتابه "الترغيب والترهيب": رواه مالك هكذا معْضَلا، وقدْ وُصِلَ من طرُق فيهاَ مقال. ومعلُومٌ أن الحديث المعْضَلَ هو الذي سقَط من سنده راويان اثنان في الموضع الواحد، سواءٌ أكان من أول السند أو وسطه او آخره، وإليه الاشارة في شطر بيت من منظومة البيقونية لناظمها الشيخ عمر بن محمد بن فتوح الدمشقي رحمه الله، حيث قال: والمعْضَلُ الساقِطُ منه اثنانِ".
وهو يُعتبر نوْعاً من انواع الحديث الضعيف كما هو مقرر في موضعه.
قلت: والظاهر من النصوص الواردة في تحبيب المصافحة، مع السلام، أنها مشروعة مطلقا عند اللقاء، أو بعد الصلاة مع الجماعة، وأنها مستحبة عند اللقاء على المشهور وهو محل اتفاق، وبعد الصلاة وغيرها من حالات التقاء المسلم والتقائه بأخيه المسلم، لأنها بعد الفراغ من الصلاة مع الجماعة اشرف حالات التقاء المسلم باخيه المسلم، ليس فيها إلا الخيرُ، وتحقيقُ ما يدعوا إليه الاسلام ويحث عليه من المودة بين المسلم وأخيه المسلم، وهو مقصدٌ شرعي حكيم، يمكن اعتباره من باب السنة الحسنة التي يكون لِمَنْ سَنَّها أجرُهَا وأجْر من عمل بها، والله أعلمُ.
المسألة الثانية: المعَانَقة، كرِهها مالك، لأنها لم تُرْوَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا مع جعفر، ولم يَجْرِ العمل بها من الصحابة بعده. قال أبو الوليد في كتاب البيان: لأن النفوسَ تنفر عنها، لأنها لا تكون إلا لوازع مِن فَرْط ألَم الشوق أو مع الأهل.
ودخل سفيان بن عُيينة على مالك رضي الله عنه فصافحهُ مالك وقال: لولا أن المعانقة بدعة لعانقتُك، فقال سفيان: عانَقَ مَن هو خيرٌ مني ومنك: عانقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جعفراً حين قدِم من الحبشة، قال مالك: ذلك خاص بجعفر، قال سفيان: بل عامٌّ، ما يسعُ جعفراً يسَعُنا إذا كنا صالحين، أفتأذنُ لي أن أحدِّث في مجلسك؟ قال: نَعم يا أبا محمد، قال: حدَّثني عبد الله بن طاوس عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لَمَّا قدِم جعفر بنُ أبي طالب من أرض الحبشة إعتنقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقبَّلَه بيْن عينيه (245). وقال: جعفر أشبهُ الناس بنا خَلْقا وخُلُقاً. يا جعفرُ، ما رأيتَ بأرض الحبشة؟ قال: يا رسولَ الله، بَيْنَا أنا أمشِي في بعض أزقتها، إذا سوداء، على رأسها مَكْتَل، فيه بُرٌّ، فصدَمها رجل على دابته، فوخ مكْتَلُها وانتشَر بُرّها، فاقبلَتْ تجمعه من التراب وهي تقول: ويْلٌ للظالم من دَيَّانِ يوم القيامة، ويلٌ للظالم من المظلوم يوم القيامة، ويل للظالم إذا وُضِعَ الكرسي للفصل يوم القيامة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يُقَدِّس الله أمّة لا تاخذ لضعيفها من قويهاحقَّه غيرَ متعتعٍ".
(245) روى الامام أحمد بسند صالح، وأبو داود أنه قيل لأبي ذَر رضي الله عنه: هَلْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لِقيتُه قطّ إلا صافحني. وبعث إليَّ ذاتَ يوم ولم أكُن في أهلي، فلما جئْتُ أُخبِرتُ أنه أرسل إليَّ، فأتيتُه وهو على سريره، فالتزمني (أيْ عانقني، فكانت تلك أجودَ وأجْوَدَ (أي كانت معانقته له أفضلَ أكرم من المصافحة، لِمَا أفاضَه صلى الله عليه وسلم على جسد أبي ذر من بركة جسمه وروحِه وأسراره الجليلة على جسَد أبي ذَر رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: قدِم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتى، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يَجُرُّ ثوبَه (أي لبِس ثوبه وهو ذاهب لمقابلته والترحيب به شوقا إليه)، واللهِ ما رأيته عُريانا قبله ولا بعده، فاعتنقه وقبَّله" رواه الترمذي بسند حسَنٍ.
ثم قال سفيان: قد قدِمتُ لِأصَلِّيَ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبشرَك برؤيا رأيتها، فقال مالك: نامتْ عينُك (246)، خيراً إن شاء الله، قال سفيان: رأيتُ كأن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق، فأقبل الناس يهرعون من كل جانب، والنبي صلى الله عليه وسلم يَرُدّ بأحسنِ ردّ، قال سفيان: فإني بِكَ، واللهِ، أعرفك في منامِي كما أعْرفك في يقظِتي، فسَلَّمْتَ عليه فردَّ عليك السلام، ثم رمَى في حِجْرك بخاتم نزعه منْ أصبعه، فاتقِ الله فيما أعطاك عليه السلام، فبهي مالك بكاء شديدا. قال سفيان: السلام عليكم، قال (247): خارجٌ الساعةَ؟ قال: نعم، فودّعه مالك، وخرج.
المسألة الثالثة: تقبِيلُ اليد. قال مالك: إذا قَدِمَ الرجلُ مِنْ سفرِه فلا باس أن يُقَبل بنتَه وأخته في خدها. (248)
قال شهاب الدين: وقول مالك انه يقبل خدَّا بنتِهِ، محمول على ما إذا كان هو وغيره عنده سواء، أمّا متَى حصل الفرق في النفْس صار استمتاعا حراما، والانسان يطالع قلبه ويحَكِّمه في ذلك (249).
(246) عبارة القرافي: رأتْ عيناك خيْراً إن شاء الله.
(247)
عبارة القرافي: قالوا له أخارجٌ الساعة؟ قال: نعَمْ؟
ثم قال القرافي: فيوخَذُ من مجموع هذه النقول أن المعانَقة وردتْ بها السنة، وأن سفيان كان يعتقد عموم مشروعيتها، وأن مالكا كان يَكْرَهُها.
ومن ذلكَ ما أخرجه الحافظ المنذري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: "كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا تَلاقَوْا تصافَحُوا، وإذا قَدِموا من سفر تعانقوا، قال المنذرى: رواه الطبراني، ورواتُه محتَجٌّ بهم في الصحيح.
(248)
عبارهَ القرافي هنا، قال مالك: إذا قدِمَ الرجل من سفره، فلا باسَ أن تقبله ابنته وأخته، ولَا باسَ أن يقبِل خَدَّ ابنته، وكرِهَ أن تقبله ختَنَتُهُ ومعْتَقَتُه وإن كانت متجالَّة، (أي كبيرة السّن).
ولا بأس أن يقبل رأس أبيه، ولا يُقبِلُ خدَّ أبيه أوْ عمه، لأنه لم يكن من فعل الماضين.
(249)
ومن الأدلة على جواز تقبيل اليد والرِجْل، ومشروعية ذلك، ما نقله القرافي عن ابن رشد، ورواه الترمذي وأبو داود من حديث صفوان بن عَسَّال أن بعض اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التسع آيات بينات، الواردة في القران (أي في قوله تعالى من أواخر سورة الإسراء):{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تتركوا بالله شيئا، ولا تَسْرقوا، ولا تزْنُوا، ولا تقتلوا