الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الحدود وما في معناها
وفيه ستُّ قواعد:
القاعدة الأولى:
في تقرير (*) ما هو شُبْهةٌ يُدْرَأُ بهَا الحدُّ ممَّا لا
(1).
واعْلَمْ أن الشبهاتِ ثلاث: شهة في الواطيء، وشبْهَةٌ في الموطوءةِ، وشبْهة في الطريق.
فالشبهة الأولى كاعتقاده أن هذه الأجنبيَّةَ امرأتُهُ، أو مَمْلوكتهُ ونحوُ ذلك، وشبهة الموطوءة كالأمةِ المشتَرَكة إذا وطئها أحد الشريكَيْن (2)، والشبهة الثالثة كاختلاف العلماء في إباحة الموطوءة بنكاح المتعة، (3) ثم أمْرُ الكفارات فيما بسقطها كسائر الحدود.
(1) هي موضوع الفرق الرابع والأربعين والمائتين بين قاعدة ما هو شبهة تُدْرأ بها الحدود والكفارات، وقاعدة ما ليس كذلك". جـ 4. ص 172.
ولم يعلق الشيخ ابن الشاط بشيء على ما جاء فيه من كلام شهاب الدين القرافي رحمهما الله. كذا في نسخة ع: في تقرير، وفي نسخة ح، وت. نُقَرِّرُ.
(2)
أيْ، فما فيها من نصيبهِ يقتضِى عدمَ الحد، وما فيها من مِلْك غيره يقتضي الحد، فيحصُل الاشتِباه وهو عينُ الشبهة، كما أن اعتقاد امرأته هو جهلٌ مركَّب وغيرُ مطابِق يقتضي عدم الحدّ من حيثُ إنه معْتقِد الإِباحة، وعدمُ المطابقة في اعتقاده يقتضي الحدّ، فحصلتْ الشبهة من الشبهتين.
(3)
أيَ فإن قول المُحَرم يقتضي الحدّ، وقوْل المبيح يقتضي عدم الحد، فهذه الثلاثة هي ضابط الشبهة المعتبرة في إسقاط الحدود، والكفاراتِ في شهر رمضان.
قلت: من المعلوم المسَلَم به شرعاً وإجماعاً أن نكاح المتعة محرم في الإِسلام، وهو النكاح الموقَتُ بأمَد معلوم أو مجهول، حيث ينتهى عقد الزواج وتنفصم عُرْوته عند حلول ذلك الأجل، فهو نكاح أبطلَه دين الإِسلام، ولم يعُدْ له وجودٌ ولا مكان ولا اعتبارٌ في شرعه الحكيم. لأنَّ عقد الزواج يقوم ويتأسس على نية التأييد، وينبني على العزم على استمرار العلاقة ودوام الزوجية بين الزوجين إلى حين التفريق بينهما بالأجل المحتوم على كل إنسان، وهو لقاء الله تعالى. =
ثم إن إسقاطَ الحدودِ وإسقاط الكفارات بما ذُكر يكون مشروطا بشرط هو اعتقاد مقارنة السبب المبيح.
قال مالك في كتاب الصيامِ من المدونة: إذا جامع في رمضان ناسيا فظن أن ذلك ييطل صومَه، فتعَمَّدَ الفطر ثانيةً، أو امرأةٌ رأتْ الطُّهْر ليلاً في رمضان فلم تغتسل حتى أصبحتْ، فظنَّتْ أنه لا صوم لمن لم يغتسل قبل الفجر فأكلت، أوْ مسَافرٌ قدِمَ إلى أهله ليْلا، فظن أن من لم يدخل نهارا قبل أن يمسي أن صومه لا يُجْزئه، وأن له أن يفطر فأفطر، أوْ عَبْدٌ بعثَهُ سيده في رمضان، يرعى غنما له على مسيرة يوميْن أو ثلاثة، فظن أن ذلك سفرٌ فأفطر، فليس على هؤلاء إلا القضاءُ بِلا كفارةٍ.
قال ابن القاسمِ: وما رأيتُ مالكا يجعل الكفارة في شيء من هذه الوجوه على التأويل، إلا امرأةَ قالت: اليومَ أحيض، وكان يوم حيضها، فأفطرتْ أوَّل نهارها، وحاضتْ في آخره، والذي يقول: اليومُ يومُ حُمّايَ فياكل في رمضان متعمدا أولَ النهارِ، ثم يَمرض في آخره مرضا لا يقدر على الصوم معه، فقال: عليهما القضاء والكفارة.
= فعن سلَمة بن الأكْوع رضي الله عنه قال: رخَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أو طاسِ في المتعة ثلاثةَ أيام، ثم نهى عنها". ثم خرجه الإِمام مسلم رحمه الله .. وأوطاس وادٍ بدِيار هوزان وقعت فيه غزوة بعد فتح مكة.
وأخرج الإِمام البخاري رحمه الله عن علي رضي الله عنه قال: نَهى رسول الله ظلاسد عن المتعة (أي عن زواج المتعة) وعن الحمُرِ الأهلية عامَ خيبر، أي عام غزوة خيبر وفتْحها، وذلك في السنة السابعة من الهجرة حين غزا النبي عام مدينة خيبر، وانتصر فيها مع صحابته المجاهدين على اليهود المتواجدين آنذاك بخيبر، وأخرجهم منها ومن حصونها لتصبح بلداً إسلاميا ولتبقى كذلك إلى يوم الدين.
وعن سَبْرة رضي الله عنه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب (أي بين ركن الحجر الأسود وباب الكعبة، في حجة الوداع)، وهو يقول:"يا أيها الناس إني قد كنت أذِنَتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرَّم ذلك، فمن كان عنده مهنَّ شيء فلْيُخَلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آيتموهن شيئا"، أي لا تاخذوا شيئا مما أعطيتموه لهن صداقا" رواه الأئمة: مسلم، وأبو داود، وابن ماجة رحهم الله، ورحم كافة أهل الحديث والعلم والفقه في الدين، ورحم كافة المسلمين.
ووجه الفرق بين الصورتين (4) وسائرِ الصور التي لا كفارة فيها أن تلك المسائلَ اعتقدَ فيها المُقْدِمُ عليها اقترانَ السبب البيح، وفي هاتين اعتقدَ بأنه سيقع، فأوقعت الاباحةً قبل سببها (5) بِعذر من كان يعتقد مقارنة السبب (6) وإن كان مخطئا، ولم يُعذَر من لم يعتقد مقارنة السبب، وهذا لأن تقديم الحكم على سببه، بُطْلانه بيِّن، غير ملتبِس في الشريعة، فلا صلاة قبل الزوال، ولا صوم لرمضان قبل الهلال، ولا عقوبة قبل الجناية، وهذا كتير لا يعدُّ، وبيّنٌ لا يخفى، بخلاف اشتباه صور الأسباب المبيحة وتحقّقِ شروطها ومقاديرها لا يعلمه إلا الفقهاء، فكان اللبْسُ فيه عذْراً. (7)
ونظير الحائض والمريض المذكورين في الكفارات في الحدود أن يشرب خمراً يعتقدُ أنه (8) يصير خَلاً، أو يَطأ امرأة يعْتَقِدُ أنه سيتزوجها فإن الحدّ لا يَسقط،
(4) أيْ صورة المرض، والحيض من جهة، وبقية الصور الأخرى من جهة ثانية.
(5)
كذا في ع. و. ت. وعبارة القرافي: فأوقعا الإباحة قبل سببه، فهما مصيبان من حيث ان الرض والحيض مبيحان، مُخْطِئانِ في التقديم للحَكم على سببه. والأوَلُ مخطؤون في حصول السبب، مصيبون في اعتقاد المقارنة. ولم يقصدوا تقديم الحكم على سببه، فَعُذروا بالتأويل الفاسد، وله يُعْذَر الآخران بالتاويل الفاسد.
وسرّ الفرق في ذلك وأضح، وهو أن تقديم الحكم على سَبَبه، بطلانه مشهورٌ غيرُ مُلْتبس في الشريعِة.
(6)
كذا في ع، وفي ت: بعُذْر من كان سببه مقارنا.
(7)
عبارة القرافي: "فلا يعلَمُهُ إلا الفقهاء الفحول، وتحقيقُه عسيرٌ على أكثر الناس، فكان اللبس عذْرا، وما هو مشهور لا يكون اللبس عذراً".
(8)
كذا في جميع النسخ أنه بضمير التذكير، العائد على الخمر، ولعل التأنيث أظهر وأصوب بأن يقال: يعتقد أنها تصير خلا، اذ كلمة الخمر جآءت في النصوص الشرعية مونثة بعود الضمير عليها بالتانيث كما هو واضح من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والعبارات الأدبية: النثرية منها والشعرية.
ومن ذلك قول الله تعالى في وصف نعيم الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15].
وفي الحديث النبوي الشريف، وهو ينهى عن تعاطى الخمر ويحذّر من شرها ومن سوء عاقبتها في الدنيا والآخرة. "ومن شرب الخمر في الدنيا، فمات وهو يُدمنها لم يُتب منها، لم يشرَبها في الآخرة" رواه كثير من أئمة الحديث رحمهم الله.
لعدم مقارنة السبب، بخلاف أن يعتقد أنه في الوقت الحاضر خَلٌ، وأنها امرأته أو جاريته، فهذا لَاحدّ فيه، ثم ما خرج عما ذُكِر، فيه الحدُّ والكفارة.
قال شهاب الدين رحمه الله: قلت لبعض الفضلاء:
الحديث الذي يَستدل به الفقهاء، وهو ما يرْوى:"إدْرأوا الحدودَ بالشهات"(9) لم يصحَّ، واذا لم يكن صحيحا، ما يكونُ معتمَدَنا في هذه الأحكام، ؟
فأجابني بأن قال لي: يَكفينا أن نقول: حيث أجمعنا على إقامة الحد كان سالما عن الشبهة، وما قصَر عن محل الإِجماع لا يُلحق به، عملا بالأصل، حتَّى يدُلَّ الدليل على إقامة الحد في صوَر الشبهات، وهو جوابٌ حسَن.
قلت: فيَلْزَمُ على هذا أن المسْتنَدَ في الحدودِ الإِجماعُ لا غيْرُهَ من الأدلة، وذلك باطل.
(9) رواه ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "إدْفعوا الحدود ما وجدتُم لها مَدفعا" وهو تفسير وبيان للصيغة الأولى.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إدْرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخَلوا سبيله، فإن الإِمام لأن يخطيء في العفو خيْرٌ من أن يخطئ في العقوبة". رواه الامام الترمذي رحمه الله، وذكر أنه روي موقوفا، وان الوقف أصح. وقد روي عن
غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا مثل ذلك".
قلت: وذلك مما يقوي ورود هذا الحديث، ويؤيد ثبوت لفظه ومعناه، واعتماد العلماء عليه، وأخذَهُم به في موضوعه، ويدل على أن الامام السلطان هو الذي له حق إقامة الحدود والقصاص، أو من ينوب عنه بإذن وتفويض، ويُصْدر الأحكام باسمه من ولاة وقضاة الأحكام. والحديث الموقوف كما هو معروف في مصطلح الحديث وعند أهله من العلماء هو المنسوب إلى الصحابي على أنه من قوله، ودون أن يسنده ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه سمعه منه. والموقوف يُعْتَبَر من قبيل الحديث الضعيف لكونه غيرَ متصل السند، وغيرَ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ محمد بن فتوح الدمشقي أحد علماء الشافعية صاحب المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث وألقابه، بعد أن ذكر الحديث الصحيح والحسَن، ، شروطَ كل واحد منهما:
وكُلَّ ما عن رتبة الحسْن قَصُرَّ
…
فَهْوَ الضعيف وهو أقساما كَثُر
وما أضيفَ للنبي، المرفوعُ
…
وما لتابع هو المقطوع
وما أضفتَه إلى الاصحاب مِن
…
قولِ وفعل فهو موْقوف زُكِنَ
وتحرير الكلام في قول الصحابي ومذهبه، وكونه حجة وغير حجة في الاستدلال، تناوله علماء الأصول بتوسع ونفصيل، فليرجع إِليه من رغب في ذلك ومن بينهم أصول الففه للشيخ العربي اللوه رحمه الله.