الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرائض
ثلاث قواعد (1)
القاعدة الأولى
في تقرير ما ينتقل إلى الأقارب من الأحكام
. (2)
رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات عن حق فلورثته"(3). وهذا اللفظ ليس على عمومه، بل من الحقوق ما ينتقل إلى الوارث، ومنها ما لا ينتقل، إذْ مِنْ حقِ الإِنسان أن يُلاعِن عند سبب اللعان، (4) وأن يفئ بعْدَ
(1) كذا في نسختي ع، وح. وفي نسخة ت: قواعد المواريث، وهي ثلاث قواعد:
(2)
هي موضوع الفرق السابع والتسعين والمائة بين قاعدة ما يَنتقِلُ إلى الاقارب من الأحكام غير الأموال، وبين قاعدة مالا ينتقل من الأحكام. جـ 3. ص 275. ولم يعلق عليه بشيء، الشيخ العلامة ابن الشاط رحمه الله.
(3)
لم يسعف البحث بالعثور على نص هذا الحديث في بعض أمهات الكتب، ووجدنا نص حديث في معناه أخرجه الإِمام ابن ماجة رحمه الله عن المقدام أبي كريمة (رجُل من أهل الشام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وزاد: وربما قال (أي النبي صلى الله عليه وسلم): فإلى الله ورسوله. وأنا وارث من لا وارث له، أعْقِلُ عنه وأرِثُهُ، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه، وحديث الإِمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كَلاًّ فإلينا". والكَلُّ بفتح الكاف هم الأهل والعيال، ويطلق الكَل على الضعيف العاجز، كما جاء في قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
(4)
لقَوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7]
الإِيلاء، (5) وأن يعُودَ بعد الظِهار، (5 م) وأن يختار أرْبَعاً من أكثرَ إذا أسلم عليهن (6)، ومن حقِّهِ ما فُوِّضَ إليه من الولايات والمناصِب. (7) وجميع هذه الحقوق لا ينتقل إلى الوارث منها شيء وإن كانتْ ثابتة.
والضابط لما ينتقل إليه ما كان متعلِّقا بالمال، أو يدْفع ضرراً عن الوارث في عِرضه أو يخفِّفَ ألَمَهُ.
فَقَوْلي: يدفع ضرراً عن الوارث في عِرضه، أو يخَفِّفَ ألمه، هاتان الصورتان منْتقلتانِ للوارث، وهُما ليستا بماِل: حَدُّ القذف، وقصاص الأطراف والجراح والمنافع في الأعضاء، (8)، وكان ذلك لأجْل شفاء الغليل للوارث بما دخل على عِرضه من قذْف موروثه أو الجناية عليه.
وأمّا قصاص النفس فإنه غير موروث، إذ لم يكن للمورِث، وما يَثْبث إلَّا بعد موته، وهو فرع زهوق النفس، وما كان متعِلقا بنفس الموروث وعقله وشهواته لا ينتقل للوارث، وإنما يرثون المتعِلّق بالمال، وهذا لأن الورثة يرثون المال فيرثون ما
(5) لقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226]
(5 م) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]
(6)
لحديث سالم عن أبيه (عبد الله بن عمر) أنَّ غيلَان بن سَلَمة، أسْلَم وعنده عشْرُ نسوة فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير منهن أربعاً". رواه أئمة الحديث: أحمد، والترمذي وابن حبان، والحاكم رحمهم الله.
(7)
مثَّل لها القرافي بقوله: كالقصاص، والِإمامة والخطابة، وغيرها، وكالأمانة والوكالة، وقال: فجميع هذه الحقوق لا ينتقل منها شيء للوارث؛ وإن كانت ثابتة للمورِث.
(8)
وعبارة القرافي هنا أوضح وأظهر حيث قال: "ولم يخرج عن حقوق الأموال إلا صورتان فيما علمتُ: حد القذف، وقصاص الأطراف والجرح والمنافع في الأعضاء، فإن هاتين الصورتين تنتقلان للوارث، وهما ليستا بمال، لأجل شِفاء غليل الوارث، كما سيأتي:
تعلَّق به تبَعاً له، ولا يرثون عقله ولا شهوته ولا نفسه، فلا يرثون ما يتعلق بذلك. (9)
فما يُورَث يورَث ما يتعلق به، وما لا يورث لا يورث ما يتعلق به.
فينتقل للوارث خيارُ الشرط في البياعات، خلافا لأبى حنيفة وابنِ حنبل، وينتقل له خيار الشفعة عندنا، وخِيار التعْيين إذا اشترى موروثُهُ عَبْداً من عبدين على أن يعَيّن - باختياره - الذي يريده منهما، وخيارُ الوصية إذا مات الموصَى له بعد موت الموصى، وخيارُ الإِقالة والقَبول إذا أوجبَ البيع لزيد، فلوارثه خيار القَبول والرد، وخيارُ الهبة، وفيه خلاف، ومنع أبو حنيفة خيار الشفعة، وسلّم خيار الرد بالعيب، وخيار نقد في الصفة، (10) وحق القصاص وحقّ الرّهْن.
(9) قال القرافي هنا: فاللِّعان يرجع إلى أمْر يعتقده الملاعِن لا يشاركه فيه غيْره، والاعتقادات ليستْ من باب المال، والْفيئةُ (في الإيلاءِ) شهوتهَ، والعَوْدُ (أي في الظهار) إرادته، واختيار إحدى الأختين (إذا أسلم عليهما)، واختيار أربع نسْوة (إذا أسلم على عشر) أرَبُه ومَيْلُهُ، وقضاؤه على المتبايعيْن عقله وفكره ورأيه، ومناصبه وولاياته وآراؤه واجتهاداته وأفعاله الدينية فهو دينه، ولا ينتقل شيء من ذلك للوارث، لأنه لم يرِث مستنده وأصله.
(10)
كذا في نسخة ع، وفي ت، وخيار تعدد الصفقة، وهو ما عند القرافي. ولعل الأنسبَ تعدُّد الصفة. فليصحح.
وسلَّم الشافعي جميع ما سلّمناه، وسلم خيار الإقالة والقبول. ومدَاركُ المسألة على أن الخيار عندنا صفة للعقد فينتقل مع العقد، فإن آثار العقد انتقلت للوارث. وعند أبي حنيفة صفة للعاقد، لأنها مشيئته واختياره فتبطل بموته كما تبطل سائر صفاته، ولأن الأجل في الثَّمَن لا يورث، فكذلك في الخيارِ، ولأن البائع رضى بخيار واحد، وأنتم تثبتونه لجماعة لم يرض بهم وهم الورثة، فَوَجَب ألَّا يتعَدَّى الخِيار ما شُرِط له، كما لا يتعدى الأجلُ من اشتُرط له.
وأجاب شهاب الدين القرافي رحمه الله عن هذه الوجوه عند الحنفية في شأن عدم إرث حق الخيار في البيع للوارث، وردُّها بما يؤيد رأي المالكية في المسألة، وفي القول بأن الوارث يرث حق الخيار في البيع، وانتهى في خلاصة هذا الفرق وختامه بقوله: فهذا تلخيص مدْرَك الخلاف، ويعَضِّدُنا في موطن الخلاف قولُه تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، وهو عامٌّ في الحقوق، فيتناول صورة النزاع، ولم يخرُجْ عن حقوق الأمور إلا صورتان فيما علِمتُ: حدُّ القذْف، وقصاص الأطراف والجراح والمنافع في الأعضاء، فإن هاتين الصورتين تنتقلان للوارث، وهما ليستا بمال، لأجْل شفاء غليل الوارث بما دخل على عرضه من قذف مورثه والجناية عليه.
وأما قصاص النفس فإنه لا يورث، فإنه لم يثبتْ للمجنى عليه قبل موته، وإنما ثبت للوارث ابتداء، لأن استحقاقه فرعُ زهوق النفس، فلا يقع إلا اللوثُ بَعْدَ موت الموروث، فهذا تلخيص هذا الفرق ببيان سرّه ومداركه والخِلاف فيه.