الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الحادية والعشرون:
أقرر فيها ما معنى المِلْكِ وما معْنَى التصرف
، (121) ويَظْهَرُ الفرق أيضًا بذلك بينهما، وهُمَا غيرانِ، لأن المحجور يَملِك ولا يتصرف، والولى يتصرف ولا يملك. وقَد يوجدانِ كالحر البالغ الرشيد يملك ويتصرف.
وحقيقة المِلْكِ أنه حُكْم شرعي مقدَّر في العَيْن أو المنفَعةِ يقتضي تمكينَ من يضاف إليه مِن انتفاعه بالمملوك، والعِوَض عَنْه من حيث هذا كذلك. (122).
أما قولنا: هو حكم شرعي فبالاجماع، ولأنه يتبع الأسباب الشرعية (123). وأما أنه مقدرَّ فلأنه يرجع إلي تعلُّقِ إذنِ الشرع، والمُعَلَّقُ عَدَمِيٌّ ليس وصفًا حقيقيا بل يقدَّر في العين أو المنفعة عند تحقيق الاسباب المفيدة للمِلْك. (124).
(121) هي موضوع الفرق الثمانين والمائة بين قاعدة المِلك وقاعدة التصرف جـ 3. ص 208. وهو من الفروق الطويلة عند القرافي رحمه الله، قال في أوله: إعْلَمْ أن المِلْكَ أشكَلَ ضبطُه على كثير من الفقهاء، فإنه عامٌّ يترتب على أسباب مختلفة: البيع، والهِبةِ، والصدقةِ، والارث وغيرِ ذلك، فهو غيْرُها، ولا يمكن أن يقال: هو التصرف، لأن المحجور عليه يملِكُ ولا يتصرف، فهو حينئذ غير التصرف، فالمِلك والتصرفُ، كل واحد منهما أعمُّ من الآخر من وجهٍ وأخصُّ من وجه .. الخ.
وقد علق الشيخ ابن الشاط رحمه الله على هذا الكلام، فقال: ما قاله في ذلك صحيح.
(122)
قال ابن الشاط: هذا الحد فاسد من وجوه: أحدُها أن المِلك من أوصاف المالِكِ لا المملوك، لكنه وصفٌ متعلق، والمملوك متعَلِّقُهُ. وثانيها أنه ليس مقتضيا للتمكين من الانتفاع، بل المقتضي لذلك كلامُ الشارع، ثالثها أنه لا يقتضي الانتفاع بالمملوك، وبالعَرَض، بل بأحدهما. رابعها أن المملوك مشتق من الملك فلا يُعْرف إلا بعد معرفته، فليزم الدَّورُ.
والصحيحُ في حد الملك أنه تمكُّن الانسان شرعا بنفسه أو بنيابةٍ من الانتفاع بالعيْن أو المنفعة، ومنْ أخذِ العِوض عن العين أو المنفعة. وإن قلنا: إن الضيافة يملكها من سُوِّغَتْ له، زدنا في هذا الحد والتعريفِ للملك: أو تمكُّن الانسان من الانتفاع خاصة، ولا حاجة بنا إلى بيان صحة هذا الحد فإنه لا يخفى ذلك على المتأمل المنصف". اهـ.
(123)
قال ابن الشاط: ما قاله من أن الملك حكم شرعي، إنْ أراد أنه أحدُ الاحكام الخمسة ففيه نظر، وإن أراد أنه أمر شرعي على الجملة فذلك صحيح.
(124)
قال ابن الشاط: قوله إنهُ عدَمي، بناءً على أن النِّسَبَ أمورٌ عدمية، وفيه نظر، وأما قوله إنه مقدَّر في العيْن أو المنفعة فقد سبق أنه وصفٌ للمالك، متعلق بالعين أو المنفعة.
وقولنا: في العين أو المنفعة فإن الأعيان تُمْلَكُ كالبيع، والمنافع كالإجارة. (125)
وقولنا: يقتضي انتفاعه بالمملوك، ليخرج التصرف بالوصيةِ. والوكالة، وتَصَرُّفُ. القضاةِ في أموال الغائبين والمجانينِ (126).
وقولُنَا: والعوض عنه، يخرج عنه الإباحات في الضيافات، فإن الضيافة مأذونٌ فيها وليست مملوكة على الصحيح.
وكذلك يخرج الاختصاصات بالمساجد والاوقاف وما أشبه ذلك، فإنه لا مِلك فيها لأحَدٍ، مع المُكْنة الشرعية من التصرف في هذه الامور (127).
وقولنا: من حيث هو كذلك، هو إشارة إلي أنه قد يتعذر ذلك لعارض كالمحجور عليه، ولا تَنَافىَ بين القَبول الذاتي والاستحالةِ من خارج، فالمِلْكُ يقتضِى التصرفَ، والحِجْر يقتضي المنع منه. (128)
(125) قال ابن الشاط: ما قاله في ذلك صحيح، على ما في قوله:"فإن الاعيان تُمْلكُ" من المسامحة على ما ذكره هو بعد هذا عن المازري.
(126)
قال ابن الشاط: هذا التحرز صحيح على تقدير صحة حده.
(127)
قال ابن الشاط: جعَلَ القرافي التصرف بَدَل الانتفاع وهو: أعمُّ منه، بدليل ما ذكره هو قبل هذا من تصرف الأوصياء والحاكم، حيث لهم التصرف دون الانتفاع، وكلَّ ما ذكره هنا من ضيف وشبهه ليس له مطلق التصرف، بل له التصرف بالانتفاع خاصة".
(128)
قال ابن الشاط هنا: "كلامه يُشعِرُ بأن التصرف هو موجِب المِلْك، وليس الامر كذلك، بل موجبه الانتفاع.
ثم الانتفَاع يكون بوجهيْن: انتفاعِ يتولاه المالك بنفسه، واننفاع يتولاه النائبُ عنه. ثم النائب قد يكون باستنابة المالك، وقد يكون بغير استنابته، فغيْرُ المحجْور عليه يتوصل إِلى الانتفاع بملكه بنفسه ونيابته، والمحجور عليه لا يتوصل الي الانتفاع بملكه إلا بنيابته، ونائبُه لا يكون إلا باستنابته".
ثم المِلْك، الظاهرُ أنه من خطاب التكليف، فإنه، إباحةٌ خاصةٌ في تصرُّفات خاصة، وأخذُ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص، (129) وخطاب الوضع هو نَصْبُ الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية.
(129) عبارة القراقي هنا هي قوله: "فإن قلت: إذا اتضح حَدُّ الملك، فهل هو من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف الذي هو الأحكام الخمسة؟ قلت: الذي يظهر لي أنه من أحد الاحكام، وهو إباحةٌ خاصة في تصرفات خاصة، وأخْذُ العوض عن ذلك المملوك على وجه خاص، كما تقررت قواعدُ المعاوضات في الشريعة، وشروطها وأركانها، وخصوصيات هذه الإباحة هي الموجبة للفرق بين المالك وغيره من جميع الحقائق، فلذلك قلنا: إنه معنى شرعي مقدر، نريد أنه متعَلّق الإباحة، والتعلُّق عَدَمي من باب النِّسَبِ والاضافات التي لا وجود لها في الأعيان بل في الأذهان، فهي أمرٌ يفرضه العقل كسائر النِسَب والاضافات كالأبوة والبنوة، والتقدم والتأخر.
ولأجل ذلك لنا أن نغير عبارة الحد فنغول: إن المِلك إباحة شرعيةٌ في عيْن أو منفعة، تقتضي تمكن صاحبها من الانتفاع بتلك العين أو المنفعة أوْ أخْذِ العوض عنهما من حيث هي كذلك، ويستقيم الحدُّ بهذا اللفظ أيضا، ويكون المِلْك من خطاب التكليف، لأن الاصطلاح أن خطاب التكليف هو الأحكام الخمسة المشهورة، وخطاب الوضع هو نصْبُ الأسباب والشروطِ والموانع والتقادير الشرعية، وليس هذا منها، بل هو إباحة خاصة، ومنهم من قال: إنه من خطاب الوضع وهو بعيد
…
"
ثم قال القرافي: فإن قلت: المِلك سببُ الانتفاع فيكون سببا، فيكون من خطاب الوضع، قلت: وكذلك كل حكم شرعِي سببٌ لمسبِّباتٍ تترتب عليه من مثوبات وتعزيراتٍ ومواخَذَات وكفارات وغيرها، وليس المراد بخطاب الوضع مطلقَ الترتب، بل نقول: الزوال سبب لوجوب الظهر، ووجوب الظهر سبب لأن يكون فعله سببَ الثواب، وترْكُه سببَ العقابِ، ووجوبُهُ سببٌ لتقديمه على غيْره من المندوبات مما ترتب على الوجوب مع أنَّهُ لا يسمَّى سببا، ولا يقال إنه من خطاب الوضع".
وقد عقبَ الشيخ ابن الشاط على ما جاء هنا عند القرافي فقال:
ما قاله من أنه إباحة، ليس بصحيح، فإن الإباحة هي حكم الله تعالى، والحكم عند أهْل الأصول خطاب الله تعالى، وخطابُهُ كلامُه، فكيف يكون المِلك الذي هو صفة للمالك على ما ارتضيتُهُ، أو صفةٌ للمملوك على ما ارتضاه، هو كلام الله تعالى، هذا ما لا يصح بوجه أصلا. فالصحيح أن مُسَبَّبَ الاباحة هو التمكن، والاباحة هي التمكين، والله أعلم.
ثم قال في قول القرافي: "وليس المراد بخطاب الوضع مطلقَ الترتب الي آخر ما قاله المازري في كتاب التلقين": ما قالَه في ذلك صحيح، وكذلك ما قاله عن المازري، ماعدا قولَه إن المِلك هو التصرف فإنه غير صحيح على ما قرر المؤلف قبل هذا، انتهى الكلام على هذا التحقيق الطويل، النفيس الممتع بين هذين العالمين الجليلين، فلذلك نقلت كلامهما بأتَمِّهِ في هذا الموضوع، لماله من بيان وتوضيح من طرفيهما ومن جانيهما في هذا الفرق الدقيق. فرحمهما الله وجزاهما خيرا عن العلم والعلماء والمسلمين.
وقال المازري: قول الفقهاء: المِلْكُ يحصل في الأعيان وفي المنافع ليس على ظاهره، بل الأعيانُ لا يملكها إلا الله تعالى، لأن المِلك هو التصرف، ولا يَتصرف في الاعيان بالايجاد والإعدام الا اللهُ تعالى، وتصرُّفُ الخلْق إنما هو في المنافع فقط.
القاعدة الثانية والعشرون (130)
رجّحَ مالِكٌ رحمه الله مُعامَلَة المسلمين على معاملة الكفار وقال: أكْرَهُ الصرف من صيارفة أهل الذمة، وجوَّز أبو حنيفة الرِّبا الحربيِّ، لقوله عليه السلام:"لَا رِبَا إلَّا بين المسلمين"(130 م)، والحرْبِىُّ ليس بِمُسْلمٍ - وقال اللخمي وغيرُهُ: إذا ظهر الربا بين المسلمين فمعاملة الذمي أولى، لوجهين:
الأول أنهم ليسوا بمخاطَبين بالفروع على قول، ولم يَقَعْ خلاف في أن المسلِمَ مخاطَب بالفروع.
الوجه الثاني أن الكافر إذا أسلم ثبتَ مِلْكُه على ما كسب بالربا والغصب وغيره، وإذا تابَ المسلم لا يثبت مِلْكُه على شيء من ذلك، لقوله تعالى:
{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} ، (131)، وما هو بصدد الثبوت أولى مما ليس كذلك.
(130) هي موضوع الفرق التاسع والسبعين والمائة بين قاعدة معاملة أهل الكفر وقاعدة معاملة المسلمين جـ 3. ص 207، ولم يعلق عليه الشيخ ابن الشاط بشيء.
(130 م) أخرجه الامام الزيْلِعي رحمه الله في نصْب الراية بلفظ: "لا رِبا بين المسلم والحربي في دار الحرب" فليُصَحَّحْ.
(131)
وأولها قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279].