الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
إذا قال: أنتِ طالق أو طلقتك ونوَى عددًا لَزِمَهُ، ووافقَنَا الشافعي.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا نَوَى الثلاث لزمه واحدة رجعية، لأن اسْمَ الفاعلِ لا يقيد إلا أصْل المعنى، فالزائد يكون بمجرد النية، والنية لا توجب طلاقا.
وجوابه أن لفظ "ثلاثًا" إذا لفظ به تميز المراد باللفظ، نحو قوله: قبضت عشرين درهما، فقوله: درهما يفيد اختصاص العدد بالدراهم وإن كان لا يدل عليه لغة، فكذلك ثلالا يخصص اللفظ بالبينونة، وكل ما كان يحصل مع المفسِّر وجب أن يحصل قبله، لأن كل ما كان بيانا لمجمل يعدُّ منطوقا به في ذلك المُجْمَل، فكذلك ها هنا (113 م) والله أعْلمُ.
القاعدة العشرون:
في الفرق بين قاعدة التصرفِ في المعدوم الذي يمكن أن يتقرر في الذمة وبين ما لا يمكن أن يتقرر في الذمة
. (114)
(113 م) عبارة القرافي: تزيد المسألة وضوحا أكثر، حيث جاء فيها قوله:"لأن المفَسِّر إنما جُعِل لفهم الساى، لا لثبوت ذلك الحكم في نفس الأمر، كقوله تعالى: "أقيموا الصلاة". (الشرعية) لكن لما وردَ البيانُ من السِّنة في خصوصياتها وهيآتها وأحْوالها عُدَّ ذلك ثابتًا بلفظ القرآن، وأجمع المسلمون على أن الصلاة والزكاة مشروعة بالقرآن، والقاعدة أن كل بيان لمجْمَلٍ يُعَدُّ متطوقا به في ذلك المجمَل، كذلك هاهنا، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله وافقنا على قوله (أي المطَلِّق): أنتِ بائن، وأنت طالق طلاقا، وطلقتكِ وطلّقتك نفسك، أنه إذا نوى بها الثلاث لزمه، فذلك هنا.
واختصر البقوري رحمه الله المسألة الرابعة هنا. فليرجع إليها في الأصل من أراد ذلك.
(114)
موضوع الفرق الخامس والستين والماثة بين قاعدة التصرف في المعدوم الذي يمكن أن يتقرر في الذمة، وبين قاعدة التصرف في العدوم الذي لا يمكن أن يتقرر في الذمة جـ 3، ص 169. لم يعلق عليه الشيخ ابن الشاط بشيء.
إعْلَمْ أن مالكًا وَأَبَا حنيفة رضي الله عنهما اتفقا على جواز التعليق في الطلاق والعتاق قبل النكاح وقْلَ الملك، كأنْ يقولَ: إن تزوجتكِ فأنتِ طالق، وإن مَلَكْتُك فأَنتَ حُرٌّ. وقال الشافعي: لا يلزمه شيء من ذلك، وقال: وكذا (115) إن قال: إن ملكتُ دينارا فهو صدقة، وهكذا في برع ما يمكن أن يتعلق به التسليم في الذمة في باب المعاملات فيلزم، فَتمَسَّكَ الأصحاب بوجوه:
أحدُها القياس على النذر في غير المملوك، بجامع الالتزام بالمعدوم.
وثانيها قوله تعالى: "أوفوا بالعقود"(116)، والطلاق والعتاق عَقدانِ عقدهما على نفسه يجب الوفاء بهما.
وثالثها قوله عليه السلام: "المؤمنون عند شروطهم"، (117) وهذان شرطان، فوجب الوقوف عندهما.
وأجاب الشافعية (عن الأول) بأن النقدين والعروض يمكن أن تثبت في الذم، فوقع الإلتزَامُ بناء على ما في الذمة، والطلاق والعتاق لا يثبتان في الذمم،
(115) وكذا. ناقصة في نسختى ع، وح، موجودة وثابتة في نسخة ت، وهي كلمة ضرورية لاستكمال المعنى بالشرط وما يدل على جوابه، ولذلك جاء عند القرافي في هذه العبارة ما يوضح ذلك حيث قال: ووافقَنَا (اي الشافعى) على جواز التصرف بالنذْر قبل المِلك، فيقول: إن ملكتُ دينارا فهو صدقة، وكذلك جميع ما يمكن أن يتصدق به المسلم في الذمة في باب المعاملات، فتمسك الأصحاب بوجوه
…
الخ.
(116)
سورة المائدة: الآية الأولى (1).
(117)
رواه عن أبي هريرة كل من أئمةِ الحديث: أبي داود والترمذي والحاكم. وفي رواية، زيادة:"ما وافَق من ذلك فهم مَلزمون بإنفاذها إذا كانت مشروعة".
وممّا يزيد ذلك وضوحًا حديثُ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أرادت أن تشترىَ بَريرةَ حينما طلبت منها المساعدةَ على ما كاتَبَها عليه أهلُها، فامتنعوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: إشتريها واشتَرِطي لهم الولاءَ فإنَّمَا هو لمن اعْتَق، ففعَلَتْ عائشة، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحِمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ، ما بالُ رجالٌ يشترطون شروطا ليستْ في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائةَ شرط. قضاءُ الله أحق، وشرطه أوْثَقُ، وإنما الولاء لمن اعتق". أخرجه الشيخان، وأبو داود والترمذي والنسائي رحمهم الله.
والتصرف يعتمد موجودا معَيَّنا أو ما في الذمة، فإذا انتفيا معا بطل التصرف، ألا ترى أن البيعَ إذا لم يكن على معيَّنٍ ولا في الذمة فإنه يبطل، كذلك ها هنا.
وعن الثاني أن قوله تعالى: "أوفوا بالعقود" أمرٌ بالوفاء بالعقود، والأوامر لا تتعلق إلا بمعدوم مستقبل، والعقدُ قد وقع وصار ماضيا، فلا يصح أن يتعلق الامر بالوفاء به، فتعيَّن أن الأمر متعلق بالوفاء بمقتضاه، والتقدير أوفوا بمقتضيات العقود، ونحن نقول بموجبه. ولكن النزاع في مقتضاه ما هو، هل لزوم الطلاق أم لا؟ فلا يحصل المقصود من الآية للخصم، وهذا هو الجواب عن الحديث، فإنَّ الكون عند الشروط إنما هو ضد الوفاء بمقتضاها، وكوْن الطلاق من مقتضاها هو محل النزاع.
وللمالكية أن يجيبوا عن هذين الجوابين بأن مُقتضَى العقد ومقتضَى الشرط هو ما دلَّ اللفظ عليه لغة لا شرعا، إذ هو صورة النزاع، ونحن إنما نتمسك بالمقتضَى اللغوي. ولا شك أن المقتضَى اللغوي في العقد والشرط هو لزوم الطلاق، فوجب أن يكون متعلَّق الأمر في الآية والحديث، هو لزومَ الطلاق، فوجب أن يكون متعَلِّق الأمْر في الآية والحديث، وهو المطلوب.
ولكنه يردُ إشكال على مالِكٍ وأبي حنيفة، وذلك من حيث قاعدة مقررة، وهي أن كل سبب شرعه الله لحكمة لا يشرعه عند عدم تلك الحكمة. وهَاهُنَا من قال بشرعية الطلاق والعتاق في التعليق، فقد التزم شرعيته مع انتفاء حكْمَتِه، وكان يَلزَم ألَّا يصح العقد البتَّة، لكن العقد صحيح إجماعا، فدل ذلك على عدم لزوم الطلاق تحْصِيلا لحكمة العقد. وأما وجوب نصف الصداق وغير ذلك ممّا يتوقَف على هذا العقد فأمور تابعة لمقصود العقدَ، لا أنها مقصود العقد، فلا يُشرَعُ العقد لأجلها. وحيث أجمعْنا على شرعيته دل ذلك على بقاء حكمته، وهو بقاء النكاح المشتمل على مقاصده، وهذا موضعُ مشكل على أصحابنا (118)، (فتأمّلْه).
(118) زاد القرافي هنا قوله: وقد ظهر لك أيضا بما تقدم من البحث الفرقُ بين ما يترتب في الذمم وبين ما لا يترتب.