الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها قول المحَدِّثين: ليس هذا الحديث بصحيح، بناء على الاستقراء.
ومنها قول النحويين: ليس في كلام العرب اسمٌ آخِرُهُ واوٌ قبْلَها ضمَّة، ونحو ذلك.
القسم الثالث، نحوُ أن زيدا ما وفَّى الدَّيْن الذي عليه، أو ما باع سلعته أو نحوُ ذلك، فإنه نفْيٌ غيرُ منضبط، وإنما يجوز في النفي المنضبط قطعا أو ظَناً، وكذلك يجوز أن زيْداً لمْ يَقتُلْ عمراً أمسِ، لأنه كان عنده في البيت، أو أنه لم يسافرْ، لأنه رآه في البلد، فهذه كلها شهادة صحيحة بالنفي، وإنما يمتنع غير المنضبط، فظهر أن إطلاق قول الفقهاء ليس بصحيح، (171) والله أعلم.
القاعدة السادسة عشرة:
في الفرق بين الفتوى والحكم
. (172)
وفائدة معرفة هذا الفرق أنه ينبني عليه تمكين غيره من الحكم بغير ما قال في الفتوى في مواضعِ الخلاف، بخلاف الحكْم.
ثم لِتَعْلَمْ أن العباداتِ كلَّها على الاطلاق، لا يدخلها الحكم، بل الفُتْيا فقط، فكلُّ ما وُجدَ فيها من الإِخبارات فهي فُتْيا فقط، إذ ليْسَ للحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاةَ صحيحة أو باطلة فَيَحْرُمُ بعدَ حكمه مُخَالَفَتُهُ (173)، ويُلْحَقُ
(171) عبارة القرافي: وانما يمتنع غير المنضبط، فاعْلَم ذلك، وبه يظهر أن قولهم: الشهادة على النفي غير مقبولة، ليسَ على عمومه، ويحصل الفرق بين قاعدة ما يجوز أن يشهد به من النفي وقاعدة ما لا يجوز أن يشهدَ به منه.
(172)
هي موضوع الفرق الرابع والعشرين والمائتين بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم. جـ 4. ص 48. وقد أفرد القرافي رحمه الله لهذا الموضوع كتابا صغير الحجم كبير الفائدة، سماه: "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الاحكام، وتصرفات القاضي والإِمام، وهو مطبوع طبعا حديثا بتحقيق الاستاذ أبو بكر عبد الرزاق، ومتداول بين العلماء والفقهاء.
(173)
زاد القراقي قوله: ولا أن هذا الماء دون القلتين فيكون نجسا، فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله، بل ما يقال في ذلك إنما هو فتْيا، إن كانت مذهبَ السامع عِمل بها، وِإلَّا فله تركها والعمل بمذهبه.
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في اول هذا الفرق إلى قوله: فله تركها والعمل، بمذهبه، فقال: ما قاله في ذلك صحيح.
بالعباداتِ أسبابُهَا، فإذا شهد بهلال رمضان شاهدٌ واحدٌ، فأثبتَه حامك شافعي، ونادَى في المدينة بالصوم، لَا يلزَم ذلك المالكيّ، لأن ذلك فتوى، ليس بحكْم. (174)، وكذلك الأمر في جميع الاسباب للعبادات والعادات، ولا في موانعها ولا في شروطها، فتصح المخالفة بعد ذلك للمخالِفِ. (175)
وبهذا يظهر أن الإِمام إو قال: لا تقيموا الجمعة إلا بإذني لم يكن ذلك حكماً، وإن كانت المسألة قد اختُلِف فيها، هل تفتقر الجمعة إلى إذن السلطان أم لا؟ وللناس أن يقيموها بغير إذن الإِمام، إلا أن يكون في ذلك صورةُ المُشَاقَّة، فيمتنع إقامتها إلا باذنه، لأجْل أنه موطن خلاف اتصل به حكْمُ حاكمٍ، وقد قاله بعض الفقهاء، وإيس بصحيح، (176) بل حكم الحاكم إنما يؤثر إذا أنشأه في مسألةِ اجتهادٍ تتقاربُ فيها المَدارك لأجل مصلحة دنيوية. فاشتراطُ قيد الانشاء، احترازٌ من حكمه في مواضع الإجماع، فإن ذلك إخبارٌ وتنفيذٌ مَحْضٌ، (177) وفي مواضع الخلاف ينشئ حكما، وهو إلزام أحد القولين اللذين قيل بهما في المسألة، (178) ويكون إنشاؤه إخباراً خاصا عن الله تعالى في تلك الصورة ومن ذلك الباب، (179)،
(174) قال ابن الشاط هنا: فيما قاله القرافي في ذلك نظرٌ، إذْ لقائل أن يقول: إنه حكْمٌ يلزم جميع أهل البلد.
(175)
قال ابن الشاط: لقائل أن يقول: إنه يَلزَمُ غيرَ ذلك الحاكم ممن يخالف مذهبه مذهبه ما بُنى على ذلك الثبوت، كما إذا ثبت عنده أن الدَّين لا يُسقط الزكاة، وأراد أخذها ممن يخالف مذهبُه مذهبه، فإنه لا يسوغ له الامتناع من دفعها له، وكذلك ما أشبه ذلك.
(176)
قال ابن الشاط: بل هو صحيح كما قال ذلك الفقيه، لأنه حكمُ حاكم اتصلَ بأمرٍ مختلَف فيه، فيتعين الوقوف عند حكمه، والله أعلم. قلت: وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في الجزء الاول من هذا الكتاب (ترتيب الفروق).
(177)
عقب ابن الشاط على هذا بقوله: قلت: ما قاله من أنه إخبار، ليس بصحيح، بل هو تنفيذ محضٌ، وهو الحكمُ بعينه، إذ لا معنى للحكم إلا التنفيذ. وممّا يوضِح ذلك أنه لو أن حاكما ثبت عنده بوجه الثبوت أن لزيد عند عمرو مائةَ دينار، فأمره أن يعطيه إياها، أن ذلك الامر لا يصح بوجهٍ أن يكون إخبارا، وهذا الموضع وما اشبهه، هو من مواقع الإجماع، فلا يصح قوله:"إن مواقع الاجماع لا يدخلها الحكم، بل الإخبار" بوجه أصلا.
(178)
قال ابن الشاط: إلزامه أَحَد القولين هو تنفيذ الحكم، وإمضاؤه بعينه.
(179)
قال ابن الشاط: كيف يكون إنشاء ومع ذلك يكون خبرا، وقد تقدَّمَ له الفرق بين الانشاء والخبر، هذا ما لا يصح بوجه.
فيكون أخصَّ من الدليل العام المخالف لذلك الحكم، فيرجع إليه، ويخصص ذلك العام به، ويبقى ذلك العام معمولا به في تلك الصورة التي حُكِم بها، وهذا هو معنى الإِنشاء. (180)
وقُلْنا في مسألة اجتهادية: احترازاً من مواضع الإِجماع، فإن الحكْم هنالك ثابت بالاجماع، فيتعذر فيه الإِنشاء، لتعينه وثبوتِهِ إجماعا. (181)
وقولنا: تتفاوت مداركها، احترازاً من الخلاف الشاذ الصادر عن المُدْرَك الضعيف، فإنه لا يرفع الخلاف، بل يُنقَض في نفسِهِ إذا حَكم بالفتوى المبْنيَّة على الضعيف. (182)
(180) عقب ابن الشاط على كلام القرافي هنا، بأن الله جعل انشاء الحاكم في مواطن الخلاف نصاً ورَدَ من قِبَلِهِ في خصوص تلك الصورة، إِلى قوله: فهذا هو معنى الانشاء"، فقال (اى ابن الشاط): لا كلام أشدُّ فسادا من كلامه في هذا الفصل، كيف يكون إنشاءُ الحاكم الحكمَ نصا خاصا من قِبَل الله تعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد أحدكم فاصاب، فله أجَران، وإن اجتهد فأخطأ فله اجر واحد"، كيف يصح الخطأ فيما فيه النص من قبل الله تعالى؟ ! هذا كلامَ بيّن الخطأ بلا شك فيه، وما تَخيل هو أَو غيره لا يصح، ولا حاجة اليه، وإنما هو يُعَيِّن في القَضية المعيَّنة أَحد القولين أو الاقوال إذا اتصل به حكم الحاكم، لما في ذلك من المصلحة في نفوذ الحُكم وثباته، ولما فيه من المفسدة لو لم ينفذ، لا لما قاله منْ انه إنشاء من الحاكم، موضوع كنص من قِبَل الله تعالى، والله أعلم.
قلت: يظهر أن ما جاء في آخر كلام ابن الشاط من هذا التعقيب هو الذي قصده القرافي وهدف إليه، من حيث إن حكم الحاكم يرفع الخلاف ويحقق المصلحة ويدفع المفسدة، فيكون كنص لا يبقى معه اجتهاد للمخالف، وبذلك يكون لكلام القرافي وجه من الصواب وحظ من النظر، ولا يكون أشد فساداً كما جاء عند ابن الشاط، والله أعلم، فلْيتأمَّل في ذلك ولْيُحَقِّقْ.
(181)
قال ابن الشاط هنا: هذا كلام ساقط أيضا. وكما أن الحكم في مواقع الاجماع ثابت بالإجماع فالحكم في مواقع الخلاف ثابت بالخلاف، فعلى القول بالتصويب كلاهما حق وحكمُ الله تعالى، وعلى القول بعدم التصويب أحدهما حق وحكمُ الله تعالى، ولكن ثبت العذر للمكلف في ذلك. وما أوقعه فيما وقع فيه إلا الاشتراك الذي في لفظ الحكم فإنه يقال: الحكم في الطلاق المعلق على النكاح، اللزومُ للمقلد المالكي، ويقال: الحكم الذي حكم به الحاكم الفلاني على فلان معلِّق الطلاق، لزوم الطلاق، والمراد بالحكم الاول لزوم الطلاق لكل معلق للطلاق، من مالكي أو مقلِّدٍ لمالكي، والمراد بالحكم الثاني لزوم الطلاق بالزام الحاكم المحكوم عليه مِنْ مالكي وغير مالكي، والله أعلم:
(182)
عقب ابن الشاط قائلا: للكلام في القول الشاذ والمدْرَك الضعيف مجال ليس هذا موضعه".
وقولنا: لأجْل مصالح الدنيا، احترازا من العبادات كالفتوى بتحريم السباع وطَهارة الأواني، وغير ذلك مما يكون اختلافُ المجتهدين فيه لا للدنيا بل للآخرة، بخلاف المنازَعة في العقود: الإِيلاء، والرهون، والاوقاف ونحوها، التي هي لمصالح الدنيا. (183).
قال صاحب الجواهر: ما قُضِيَ به من نقل الأملاك وفسْخ العقود هو حُكمٌ، فإن لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة لَمَّا رُفعَتْ إليه، كالمرأة زوَّجتْ نفسها بغير إذن وإيها، فأقرَّه وأجازه ثم عُزل، وجاء قاضٍ بعده. قال عبد الملك:
(183) زاد القرافي هنا كلاما مهما ومفيدا فقال: "وبهذا يظهرْ أن الاحكام الشرعية قسمان: منها ما يقبل حكم الحاكم الفتيا فيجتمع الحكّمان، ومنها مالا يقبل الفتوى.
ويظهر لك بهذا أيضًا أن تصرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع، هل هو من باب الفتوى، أو من باب القضاء والانشاء.
وأيضا يظهر أن إخبار الحاكم عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة، فتوى، وأمّا أَخْذه الزكاةَ في مواطن الخلاف فحكمٌ وفتوى من جهة أنه تَنازُعٌ بين الفقراء والأَغنياء في المال الذي هو مصلحة دنيوية، ولذلك إن تصرف السعاة والجباة (وهم الذين يَجْمعون اموال الزكاة من الناس) أحكام لا ننقضها وإن كانت الفتوى عندنا على خلافها، ويصير حينئذ مذهبنا.
ويظهر بِهذا التقرير ايضا سِرُّ قول الفقهاء: إن حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد لا يُنقَضُ، وأنَّه يَرجع إلى القاعدة الأصولية، وتصير هذه الصورة مستثناة من تلك الادلة العامة، كاستثناء المصَرَّاة (الشاة والبقرة أو الناقة التي يُترك في ضرعها اللبن من طرف البائع ليُظَنَّ عند الشراء انها كثيرة الدَّرّ واللبن)، وكاستثناء العرايا والمساقاة، وغيرها من المستثنيات.
ويظهر بهذا أيضًا أن التقريرات من الحكام ليست أحكاما، فتبقى الصورة قابلة لحكم جميع تلك الاقوال المنقولة منها.
وقد عقب الشيخ ابن الشاط على هذا الكلام عند القرافي مسأَلة مسأَلة، فقال:
1) ما قاله في ذلك صحيح.
2) لا يصير تصرف السعاة أو أحكامُهم مذهبنا، ولكننا لا ننقضه، لمصلحة الأحكام. أي لِلابقاء عليها.
3) قال ابن الشاط: لا رجوع هنا للقاعدة الاصولية، إن كان (القرافي) يعني قاعدة الخاص والعام، ولكن يرجع إلى قاعدة فقهية وهي أن الحكم إذا نفذ على مذهب مَّا، لا يُنقَض ولا يُرَدُّ، وذإك لمصلحة الاحكام ورفع التشاجر والخصام.
4) ثم قال ابن الشاط في تقريرات الحكام وأنها ليست احكاما الخ: ذلك صحيح، وأكثره أو كلّه نقل لا كلام فيه.
ليسَ بحكم، ولغيره فسْخه. "قال ابن القاسم:(184) هُوَ حكْمٌ، لِأنه أمضاه، والإِقرار عليه كالحكْم بإجازته فلا يُنْقَضُ. واختاره ابن محرز، وقال: إنه حُكْمٌ في حادثة باجتهاه، ولا فرق بين أن يكون حكمه فيه بإمضائه أو فسخه، أما لو رُفع إليه هذا النكاح، فقال: أنا لا أجيز هذا النكاح بغير وليٍّ، من غير أن يحكم بفسخ هذا النكاح بِعَينه، فذلك فتوى وليس بحكم. قال: ولا أعْلمُ في هذا الوجه خلافا.
قال: وإن حكمَ بالاجتهاد فيما طريقُهُ التحريم والتحليل، وليس نقلَ مِلْك لأحد الخصمين إلى الآخر، مثل رضاع كبير يحكم بأنه رضاعُ تحريمٍ، ويَفسَخ النكاح من أَجْله .. فالفسخ والتحريم في المستقبل لا يثبت بحكمه. وهذه القاعدة تظهر أن الثبوت غير الحكم، وأن الثبوت أعمّ من الحكم، فقد يثبت الشيء ولا يكون حُكْماً، والأعَمُّ غيرُ الأخص ولا بد، وهذا كما قلنا في الامور التعبدية كالصلاة والطهارة تثبت فيها أحكام، ويقال: إنها ثبوت، ولا يقال: إنها حُكم، (185) واللهُ أعلم.
(184) قال ابن الشاط: كلام ابن القاسم هو الصحيح عندي، والله أعلم.
(185)
قال القرافي هنا: فظهر، أيضا من هذه الفتاوى والمباحث أن الفتوى والحكم، كلاهما إخبار عن الله تعالى، ويجب على السامع اعتقادهما، وكلاهما يَلزَم المكلفَ من حيث الجملة، لكن الفتوى إخبار عن الله تعالى في إلزام أو إباحة، والحكم إخبار، معناه الانشاء والالزام من قِبَل الله تعالى.
وبيان ذلك بالتمثيل أن المفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي، ينقل ما وجده عن القاضي واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل أو تقرير أو ترك. والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكِم ينشئ الاحكام والإِلزامَ بين الخصوم، وليس بناقِلٍ ذلك عن مستنيبه، بل مستنبيه قال له: أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلتُهُ حكمى، فكلاهما موافق للقاضي ومطيع له وساع في تنفيذ مواده، غير أَن أَحدهما ينشئ والآخَر ينقل نقلا محضا من غير اجتهاد له في الانشاء، كذلك المفتى والحاكم كلاهما مطيع لله تعالى، قابُلُ لحكمه، غير أن الحاكمَ منشئ، والمفتى مخبرٌ محْض.
قال القرافي: وقد وضعت في هذا المقصد كتابا سميته: (الإِحْكَام في تمييز الفتاوي والأحكام، وتصرف القاضي والامام)، وفيه اربعون مسأَلة في هذا المعنى، وذكرت فيه نحو ثلاثين نوعا من تصرفات الحكام ليس فيها حكم، ولتقتصر هنا في هذا الفرق على هذا القدر. =
القاعدة السابعة عشرة (186)
في تقرير ما ينفَّذ من تصرفات الوُلَاة والقضاة مِمَّا لا يُنَفَّذُ.
إعْلَمْ أن كل من ولي ولاية الخلافة فما دونها إلى الوصية، لا يحل له أن يتصرف إلا بِجلب مصلحة أو دَرْءٍ مفسدة، لقوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (187)، ولقوله عليه السلام:"مَن وَلي من أمْرِ أمتي شيئا ولم يجهَد لهم، ولم ينصَحْ، فالجنةُ عليه حرام"(188)، فالولاةُ معزولون عمّا ليس بأحسنَ.
= قلت: وهو كتاب صغير الحجم، عظيم النفع في بابه، مطبوع ومتداول بين الفقهاء والعلماء. وكذلك ممن كتب وألف في موضوع الفتوى والمفتين، والشروط والمواصفات المطلوبة فيها وفي اهلها وذويها، وجميع ما يتصل بموضوعها. كما هو معروف. عند العلماء إمام جليل وفقيه كبير من أعلام وائمة المسلمين، هو الفقيه العلامة ابن قيم الجوزية له رحمه الله، وذلك في كتابة الشهير الذائع الصيت:"أعلام الموقعين عن رب العالمين"، وكذلك كتابه الشهير. كما سبق ذكره. "الطرق الحكمية"، فليرجع إلى هذه الكتب والمؤلفات القيمة من اراد التوسع في هذا الوضوع واستيعابه والتدقيق فيه،
وقد علق الشيخ ابن الشاط على ما جاء عند القرافي في آخر كلامه عن هذا الفرق فقال: كيف يكون الاخبار انشاء وقد فرق هو قبل هذا في أول كتابه بينهما، (كما سبق بيانه) قريبا، كيف يكون الحكم إِلزاما من قبَلِ الله تعالى، وهو ممكن الخطأ على ما نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي تقدم ذكره، هذا لا يصح، والله أعلم.
قال ابن الشاط: وقوله: وبيان ذلك بالتمثيل إلى آخره: ما قاله صحيح، وما مثل به كذلك، إن كان يريد بالانشاء التنفيذ والامضاء لما كان قبل الحكيم فتوى، والا فلَا، واللهُ أعلم.
(186)
هي موضوع الفرق الثالث والعشرين والمائتين بين القاعدتين المذكورتين، وهو خمسة أقسام: جـ 4. ص 39. وهو من الفروق الطويلة عند الامام القرافي، ولم يعلق عليه بشيء، الشيخ ابن الشاط، رحمهما الله. على ما فيه من طول وتفصيل، مما يستفاد منه أنه سلَّمه.
وقد بدأه القرافي بقوله: القسم الاول ما لم تتناوله الولاية بالأصَالَةِ الخ. وختم هذا القسْم بقوله: وفي هذا القسم فروع في كتب الفقه.
(187)
سورة. الأنعام، الآية: 152، وسورة الإسراء. الآية 34،
(188)
دخل عُبَيد الله بن زياد رضي الله عنه على معقل بن يسار رضي الله عنه، يعوده في حالة مرض، فقال معقل: أحدثك حديثا سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموتُ وهو غاشٌّ لهم إلا حرم الله عليه الجنة"، رواه الشيخان البخاري ومسلم حمهما الله. وهذُا الحديث في معني الحديث الذي أورده القرافي والبقوري هنا رحمهما الله.
ثمّ عدم تنفيذ الحكم قد يكون لِأسْبَاب:
الأول من ذلك: أن يحكم الحاكِمُ الذي لمْ يُجعَل له ذلك، ولا ولَايَةَ له، ويلحَق بهذا، القضاءُ من القاضي بغير عَمَلِهِ، فإنه لم تتناوله الولاية. وفي الجواهر: إن شَافَهَ قاض قاضياً لم يكْفِ في ثبوت ذلك الحكم، لأن أحدهما بغير عمله، فإنه لم تتناوله الولاية، ولا يؤثر إسماعه وسَمَاعُه إلا إذا كانا قاضيَيْن ببلدة واحدة، أو تحادثا ذلك في ولايتهما، فيكون ذلك أقوى من الشهادة على كتاب القاضي، فيُعتمَدُ.
القسم الثاني: ما تتناوله الولاية، لكن حَكَم فيه بمستند باطل، فهذا يُنقَض، لفساد المُدْرَك لا لِعَدء الولاية، وهو الحكم الذي خالفَ أحَدَ أربعة أمور
إذا حَكَمَ على خلافِ الإجماع يُنقَض قضاؤه، أو خلافِ النص السالم عن المعارض، أو القياسِ الجَليّ السالَم عن المُعارِضَ، أو قاعدة من القواعد السالمة عن المعارض. ولابدَّ في الجَمع من اشتراط السلامة عن المعارض.
ونقل ابن يونسَ عن عبْد الملك أنه قال: يُنقَضُ عند مالك قضاءُ القاضي لمخالفة السُّنة، كالقضاء باستسعاء العبد لِعِتْقِ بعضه، فإن الحديث ورَدَ بأنه يستسعي، وكالشفعة للجار أوْ بعدَ القسمة، لقوله عليه السلام:"الشفعة فيما لم يُقسَمْ"(189)، أو يحكم بشهادة النصراني، لقوله تعالى:{ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، أو بميراث العمة أو الخالة أو المَوْلى الأسْفَل، لقوله عليه السلام:"ألحِقُوا الفرائضَ بأهْلِها، فما أبْقَتْ فلأوْلى عَصَبَةٍ ذكَرٍ". (190) وخالَفَ ابنُ عبد الحكم، وقالَ: لا تُنقَضُ شفعةُ الجار، وما ذُكِر معَه من الفروع، لضعف موجب النقض عنده، وجمهورُ الأصحاب على خلافه. وفي النوادر لأبي محمد، قال محمد: ممّا يُنقَض
(189) روىَ الإِمام البخاري رحمه الله، عن جابر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يُقسَم، فإذا وقعت الحدود، وصُرفت الطرق فلا شفعة".
(190)
اخرَجه الشيخان: البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ورحم كافة العلماء وجميع المسلمين.
نَقْضُ ما لا يُنقَض. فإذا قضَى قاض ثان بنقض حُكْم الأول - وهو ممّا لا يُنقَض - نَقَض الثالث حكم الثاني، لأن نقضه خطأ، ويُقِرُّ الأولَ. وكذلك لو تصرَّف الصفيه الذي تحت حِجْر القاضي بالبيع والنكاح وغيرهما فرَدّهُ، فجاء قاض ثانِ فأنفَذَهُ، نقَضَ الثالثُ هذا التنفيذَ وأقَرَّ الأول، وكذلك لو فسخ الثاني الحكم بالشاهد واليمين لَرَدَّه الثالث، لأن النقض في مواطن الاجتهاد خطأ، ونَقضُ الخطأ يتعَيَّنُ.
القسم الثالث: ما حَكَمَ به على خلاف السبب، والقسْم الذي قَبْلَهُ على خلاف الدليل، وقد تقدم الفرق بين الأسباب والأدِلة والحِجَانَ، وأن القضاة يعتمدون الحجاج، والمجتهدين يعتمدون الْأدِلة، والمكلَّفين يعتمدون الأسباب ، فاذا قضَي القاضي بالقتل على مَن لم يَقْتُلْ، أو بالبيع على من لم يبع، أو بالطلاق على من لم يُطَلِّق، فهذا قضاءُ على خلاف الأسباب، فمتى أطُّلع على ذلك وجَبَ نقضه عند الكل، إلا قِسْماً (191) منه خالَف فيه أبو حنيفة، وهو ما كان فيه عقدٌ أو فسخ، فيُجْعل (192) حكم الحاكم كالعقد فيما لا عقد فيه، أو كالفسخ فيما لا فسخ فيه، فإذا شهدَ عنده شاهدَا زُور بطلاق امرأة، فحَكَم بطلاقها، جاز لذلك الشاهِد أن يتزوجْها، مع علمه بكذب نفسِه، لأن حكم الحاكم فسْخٌ لذلك النكاح، وكذلك إذا شهِد عنده ببيع جارية فحَكَم ببيعها، وكذلك كل ما فيه عقد أو فسْخٌ.
(191) في ع: إلا قسمٌ منه، وكذاء عند القرافي. وفي ح، وت: إلا قسماَ منه بالنصب، وهو الصواب، تمشيا مع قاعدة الاستثناء بأن المستثنى يكون منصوباً إذا كان الكلام موِجَباً، وتاما بأن ذُكِر فيه المستثنى منه، وذلك معنى قول ابن مالك في ألفيته في باب الاستثناء:
ما استثنتْ إلّا مع تمام ينتصبْ
…
وبَعد نفي أو كَنَفي انتُخبْ
إتباعُ ما اتصل وانصِبْ ما انقطع
…
وعن تمتم فيه إبدالٌ وقع.
(192)
كذا في ع، وت، وعند القرافي: وفي نسخة ح. فجعل بصيغة الماضي، فيكون الضمير حينئذ عائدا على أبي حنيفة رحمه الله. فليحقق ذلك.
وأمّا الدُّيون وما يجري مجراها ممّا لا عقد فيه ولا فسخ، فيوافقنا فيه، وأنه باق على ما كان عليه قبل الحكم، وهذا معنى قول المالكية والشافعية والحنابلة: حكْم الحاكم لا يُحِلُّ حراما ولا يُحِلُّ حلالا في نفس الأمْر، خلافا لأبي حنيفة، ووافقَنا ايو حنيفة - أيضا - فيما إذا قضى بنكاح الأختِ أو ذاتِ مَحْرَمٍ، بأنها لا تَحِلُّ له، لأن المقْضِي له، لو تزوجها لمْ تحِلَّ له، لفوات قَبول المحل. وكذلك وافقنا إذا تبيَّن أن أحد الشهود عبْدٌ، والحُكْم في عقد نكاح (193).
لنا قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا بَشرٌ مثلُكُمْ، وإنكم لتختصمون إلىَّ، ولعل بعضكم أنَ يكون ألْحنَ بحجته من بعص، فأقضىَ له على نحو ما أسْمع، فمن قضَيت له بشيء من حق اخيه فلا يأخذَه، فإنما أقطع له قطعة من نارٍ"(194)، وهو عامٌّ في جميع الحقوق. (195)
احتجوا بقضية هِلال بن أمية في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينه وبين امرأته في اللعان، قال: إن جآت به على صفةِ كذا فَهُوَ لشَريك، فجاءت به على تلك الصفة (196)، وبقي الامر على ما قال هلال، وأن الفُرْقَة لم تكن موجودةً، ومع
(193) عبارة القرافي: وكذلك وافقَنا إذا تبين أن الشهود عبيد، والحكم في عقد النكاح، وفرق بأن الشهادة شرط ولم توجَد في الاموال ولم يحكم الحاكم بالمِلك بل بالتسليم، وهو لا يوجب الملك
…
إلى آخر كلامه.
(194)
حديث صحيح متفق عليه بين الشيخين البخاري ومسلم، واخرجه كذلك أصحاب السنن عن أمّ سَلَمة رضي الله عنها. ورحم كافة أهل الحديث والفقه في الدين، وجميع المسلمين.
(195)
زاد القرافي تعليلا آخر بقوله: وقياسا على الأموال بِطريق الأولى، لأن الأموال اضعف، فإذا لم يؤثر فيها فأولى الفروج والأبضاع.
(196)
أخرج الإِمام البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال ابن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال الله صلى الله عليه وسلم: البينة أوحَدُّ في ظهرك، فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدُنا على امرأته رجلا، ينطلق يلتمس البينة؟ ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أوحَد في ظهرك، فأنزل الله في ذلك قولَه تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فجاء هلال فشهد، والنبي يقول: إن الله يعلم أن أحدكما =
ذلك لم تُفسخ تلك الفُرقة وأمْضاها، فَدَلَّ ذلك على أن حُكْم الحاكم يقوم مقام الفَسخ والعقد، وأيضا فجاء عن علي رضي الله عنه ما يدل على ذلك. (197)
والجواب عن الأول أن الفُرقة في اللعان ليست بسبب الصدق الذي للزوج، بدليل أنه لو قامت البينة بكذبِه لمْ تَعُدْ إليْه، وإنما كانت بِسَبب أنهما وصَلا إلى أسْوَأ الأحوال في المقابَحَة، فلمْ يَرَ الشارع اجتماعَهما بعد ذلك، وما ذُكرِعن عَليّ لا نُسَلِّمُ صحته.
القسم الرابع: ما تناولته الولاية وصادف فيه الحجّة والدليلَ والسبب، غيرَ أنه مُتَّهَمٌ (198) فيه كفضائه لنفسه، وهو مردود إجماعاً، وأدْني رُتَبِ التُّهَمِ غير مردودٍ إجماعا، كقضائه لأهْل جيرانه وأهلِ صَقْعِهِ وقبيلته، والمتوسط من التهم مختلَف فيه، هل يُلحَقُ بالأول او الثاني.
= كاذب، فهل منكما تائب، فشهدتُ .. فمضتْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصِروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين، فجاءت به كذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضَى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" (اي لولا أن اللعان يرفع الحد لأقامه الرسول صلى الله عليه وسلم عليها) الخ ..
(197)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: "المتلاعِنان إذا افترقا لا يجتمعان ابدا". وعن علي وابن مسعود رضي الله عنهما قالا: "مضت السُّنة ألا يجتمع المتلاعنان". وهو المعمول المجمع عليه الذي أخذت به جميع المذاهب الفقهية.
ومما ثبت عَنْ عليّ هنا، وأشار إليه البقوري، ما ذكره القرافي من أن رجلا جاء عند علي ضى الله عنه، فادعى نكاح امرأة وشهِدَ له شاهدان، فقضي بينهما بالزوجية، فقالت:
واللهِ يا اميرَ المؤمنين ما تزوجني، فاعقِدْ بيننا عقداً حتى أحِل له، فقال: شاهداك زوَّجاك، فدل ذلك على أن النكاح ثبت بحكمه"
ولأن اللعان يُفسخ به النكاح، وإن كان احدهما كاذبا فالحكم أولى، لأن للحاكم ولاية عامة على الناس في العقود، ولأن الحاكم له أهلية العقد والفسخ، بدليل أنه لو أوقع العقد على وجه لو فعله المالك نَفَذَ، ولأن المحكوم عليه لا تجوز له المخالفة ويجب عليه التسليم، فصار حكم الله في حقه ما حكَم به الحاكم وإن علِم خلافه، فكذلك غيم قياسا عليه.
وقد أجاب القرافي عنْ هذه الوجوه كلها، وردَّها، ليبقى رأي المالكية فيها سليما وقويا، فليرجع إليه من أراد التوسع في ذلك.
(198)
كذا في ع، وت، وهو. ما عند القرافي، وفي ح: يُتَّهَمُ.
والأصل في التُّهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقْبَلُ شهادةُ خصم ولا ظنين"(199) أي متَّهَم.
قال ابن يونس في الموازية: كل من لا تجوز شهادته له لا يجوز حكمه له. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم: لِأن حكم الحاكم لازِمٌ للمقضىّ عليه، فهُوَ أوْلى بالرَّد مِن الشهادة، لأن فوق الشاهِد من ينظر عليه، فيضْعُف معه الاقدام على الباطل، فتَضْعُفُ التهمة، قال: ولَا لعمِّه، إلَّا أن يكون مبرِّزا. وجَوَّزه أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنه، وقال عبد الملك: لا يَحْكُم لولده الصغير ولا ليتيمه ولا لامرأته، ويجوز لغيْرِ هَؤلاء الثلاثة كالأب والابن الكبير. وإن امتنعت الشهادة فإن منصب القضاء أبْعَدُ عن التهم، لعِظم مَنصِبِ القضاء. وقال أصبغ: إن قال: ثبت عندى ولا يَعْلَمُ أثبتَ أم لا؟ ، ولم يَحضره الشهود، لمْ ينفَّذ، فإن حضر الشهود وكانت شهادة ظاهرة بِحق بيِّنِ جاز فيما عدا الثلاثة المتقدمة، لأن اجتماع هذه الأمور يُضْعف التهمة، وهو الفرق بينه وبين الشهادة. وعن أصبغ، الجواز في الولد والزوجة والأخ والمُكاتب والمدَبَّر. وإن كان من اهل القيام بالحق صَحَّ الحكم. وقد يحكم للخليفة وهو فوقه، وتُهْمَتُهُ أقْوَى. ولا ينبغي له القضاء بيْن أحدٍ من عشيرته وخصْمه وإن رضي الخصْمُ، بخلاف رجُلَيْن رضِيا بحكم رجل أجنبي، فينفَّذ ذلك عليهما. ولا يَقضي بينه وبين غيره وإن رضي الخصْم بذلك، فإن فعل. فليُشهِدْ على رضاه ويجتهد في الحق، وان قضى لنفسه أوْ لمن يمتنع قضاؤه له، فلْيذكر القِصَّة كلَّها، ورِضَى
(199) أورده الإِمام السيوطي في الجامع الصغير بلفظ: "لا تجوزُ شهادة ذي الظِنَّة ولا ذي الحِنَة" نقلا له عن الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن. والظنين هو المتهم في الشيء لسبب يدعو إلى الظّنة والتهمة.
وقدْ وردت هذه الكلمة في قول الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن المبين، {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} أي ليس متهما فيما يوحى اليه، بل هو صادق ومبلغ رسالة الله سبحانه إلى الناس كافة. وقرئ: ضنين بالضاد المهملة، ومعناه: أنه صلى الله عليه وسلم ليس ببخيل في تبليغ وحى الله ودينه إلى الناس، وانما بلغه ويبلغه لكل أحد بدون فرق او تمييز، وكلاهما ومعناهما صحيح متواتر كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: سورة التكوير. الآية 24.
خَصْمِه، وشهادةَ من شهِدَ برضى الخصم، واذا فعَلَ ذلك ورَأى أفضلَ منه فالأحسن نسخُه، فإن مات أو عُزِلَ فلا يفسخه غيره إلا في الخطأ البيِّن، فإن اجتهح في القضية حقُّه وحق الله تعالى كالسرقة، قال محمد: يَقطعه. وقال ابن عبد الحكم: يَرفعه لمن فوقه، وأمّا مَالَهُ فلا يحكم فيه.
القسم الخامس: ما اجتمع فيه أنه تناولتْه الولاية وصادَف السببَ والدليل والحجة، وانتفتْ التهمة فيه، غير أنه اختلف فيه من جهة الحُجَّة هل هوَ حجة أمْ لا؟ وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
القضاء بعلم الحاكم، عندنا وِعند ابن حنبل يمتنع. وقال أبو حنيفةْ: لا يحكم في الحدود بما يُشْاهِدُهُ من أسبابها إلا القذف، ولا في حقوق الآدميين فيما (200) عِلمَه قبل الولاية دون ما بَعْد الولاية. (201) ومشهورُ مذهب الشافعي جواز الحكم في الجميع. واتفق الجميع على جوازِ حكمه بعلمه في التعديل والتجريح.
لَنَا وجوه:
الأول: قول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم."إنما أنا بشرٌ مثلُكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعَلَّ بعضكم أن يكونَ ألْحَنَ بحجته من بعض فأقضيَ له على نحو ما أسمع (202)
…
الحديث، فدل ذلك على أن القضاء يكون بحسب المسموع لا بحسب المعلوم.
قلت: صحيح أنه دَلَّ على أنه يكون بحسب المسموع، وأمّا أنه يدل على. أنه لا بحسب المعلوم فغير صحيح.
(200) كذا في ع، وت. وهو ما في هذا الفرق، وفي ح: مِمَّا
(201)
كذا في ع، وح. وفي ت: دون مَا علمَه بعدها.
(202)
اخرجه الشيخان: البخاري ومسلم، وكذا أصحابُ السنن ابو داود والترمذي رحمهم الله. وتمام الحديث:"فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئا فلا يأخذْه، فإنما أقطع له قطعة من النار".
قال: الثاني قوله عليه الصلاة والسلام: "شاهِدَاك أو يمينه ليس لك إلا ذلك"، (203) فحصَر الحجة في البينة واليمين دون عِلْم الحاكم وهو المطلوب.
قلت: يقول الخصم: حصْرُ الحجة فيما ذكرتهُ على الإِطلاق ليس يَدُل عليه الحديث، فإنه قال لهذا الرَّجل هَذا، لأنه لم يكن عالِماً بحاله مع خصمه، ولعله يكون عالِماً بحال آخَرَ فيكون علمه حجةً له.
قال: الثالثْ: أنه قال: أخْطُبُ (204) وأعْلِمُ الناسَ برضاكم"، لقوم كان لهم شِجَاجٌ، فأعطاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم الأرْشَ، فقالوا: نعَمْ، فخطَبَ، ثمَّ أعْلَمَ برضاهم، فقالوا: لا، ثم زادهم، وخطب فأعلَمَ برضاهم، بَعْدَ أن قالوا: رضِينا، فقلوا حين أعْلمَ برضاهم: نعَمْ، وذلك دليل على أنه لا يَحكُمُ بعلمه.
قلت: وهذا الآخِرُ أضعفُ ممَّا قبله في الدلالة على المقصد.
الرابع قوله عليه السلام: "لو كنتُ راجِماً بغير بينَةٍ أحداً لرجمتها"(205)، وأمّا غير ذلك وهو العلم فلم يتعرض له بنفي ولا إثبات.
(203) تقدم تخريجُهُ، وأنه متفق عليه، وأن الخطاب والكلام موجه للاشعث بن قيس.
(204)
عبارة القرافي ذكَرَتْ أول هذا الحديث فقال: روى ابو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهْم على الصدقة، فلاحاهُ رجل في فريضة، فوقع بينهما شِجاج، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الارش، ثم قال: ..... الحديث الخ، قال القرافي: وهو (أي هذا الحديث) نص في عدم الحكم بالعلم. والشج هو الجرح، يقال مثلا، شجه في رأسه إذا جرحه، ويقال: شاجَّ القومُّ وتشاجوا مشاجة وشجاجا إذا شج بعضهم بعضا اي جرح بعضهم بعضا.
(205)
عبارة القرافي قال: جاء في الصحيحين في قِصة هلال وشريك: إن جآت به كذا فهو لهلال، يعني الزوج، وإن جآت به لكذا فهو لشريك بن سمحاء، يعني المقذوف، فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم "لو كنت راجما احدا بغير بينة لرجمتها"، فدل ذلك على أن أنه (اى القاضي لا يقضى في الحدود بعلمه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقا، وقد وقع ما قال. فيكون العلم حاصلا له، ومع ذلك ما رجم، وعلَّل بعدم البينة". اهـ كلام القرافي رحمه الله.
قال: الخامس: قَولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} ، (206) فأمَرَ بجَلدهم عند عدم البينة وإن اعترفت المرأة بالزني، وهذا باطِلٌ، بل لَمْ يتعرض له، وكذلك حال العلم أيضا لم يتعرض له.
قال: السادس: أن الحاكِمَ غيرُ معصوم، فَيُتَّهَمُ بالقضاء بعلمه على عدُوٍّ أوْ لصديق، ونحن لا نعرف ذلك، فحسَمْنا ذلك، صوناً لمنصب القضاء عن التُّهم.
السابع: قال أبو عُمَر بن عبد البَرّ في الاستذكار: إتفقوا على أن القاضي لو قتل أخاه لِعِلْمه بأنه قاتلٌ أو أنه كالقاتل عمداً لا يرث منه شيئا، للتهمة في الميراث، فنَقيسُ عليه بقيَّةَ الصُّور بجامع التهمة.
احتَجُّوا بوجُوهٍ:
أحَدُها أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى لزوجة أبي سفيان بعلمة، حيث قال:"خُذِي لك ولولَدِكِ بِالمعروف"(207).
قلت: ظاهرٌ أنه ليسَ هذا بحكْم، وإنما هُوَ فتوى أفتاها بها، هل أخْذُها بغَيْرِ إذنه يجوز أم لا لضررها بشُحِّهِ؟ فقال لها - جوابا عن ذلك -: يضرُّكِ الزائد ولا يَحِلُّ لك، وقدْرُ نفقتِك ونفقةِ أولاده لا إثمَ عليك فيه.
قال: وثانيها أن عُمَرَ رضي الله عنه قضى بعلمه على أبي سفيان في حقٍّ أوصى به، فإنه لمّا شكا إليه المظلومُ قال: إني لَأعْلَمُ ذلك. (208)
(206) سورة النور، الآية 4: وتمامها، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .
(207)
في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة عن عائشة أم المومنين رضي الله عنهما أن هندا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفينى الا ما اخذتُ منْه وهو لا يعلم، فقال لهَا النبي صلى الله عليه وسلم:"خذي ما يكفيك وولدَكِ بالمعروف".
(208)
عبارة القرافي هنا ذكرت هذه المسألة بتفصيل، حيث جاء فيه:
"وثانيها ما رواه صاحب الاستذكار أن رجلا من بني مخزوم ادَّعى على ابي سفيان عند عمر رضي الله عنه أنه ظلمه حدًّا في موضع، فقال عمر رضي الله عنه: إنِّى لأعْلَمُ الناسِ بذلك، فقال عمر: إنهض إلى الموضع، فنظر عمر رضي الله عنه إلى الموضع فقال: يا ابا سفيان، =
قلت: لا أسَلِّم أن حكم عمرَ ضىِ الله كان مرتَّباً على علم عمَر، فلعل البينةَ كانَتْ، ولكنه ذكر علمه معها، تزكيةً لشهادةِ الشهود.
قال: وثالثُها قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (209)، وقد علِمَ القسطَ فيقُومُ به.
قلت: ليس في الآية تعرضٌ لِمَا يحكم به ولكنه لصفة الحكم، وذلك أن يكون بالعدْل لا بالجَوْر.
قال: ورابعُها أنه إذا جاز أيضا الحُكْم بالظن الناشئِ عن قول البينة فبالعِلم أوْلى، ومِن العجب جَعْل الظن خيرًا من العِلم.
قلت: لا عجَبَ فيه من حيث إن ذلك العلم إذا جُعلَ الحكْمُ مستنِدا إليه تطرقتْ التُّهَم للقاضي، فسُدَّ، حسماً للباب كُلِّه.
قال: وخامسها أن التهمة قد تدخل عليه من قِبَل البينة فيَقَبْلُ من لا يُقبل.
قلت: ليست التهمة على الاطلاق بمرعِيَّة، بل هي -كما قلنا- ثلاثة أقسام: قوية، وضعيفة، ومتوسطة، وقد مضَى حكْم الأقسام الثلاثة، فليسَت التهمة اللاحقة له عن العلم كالتهمة الاحقة له في قَبول شهادة الشهود.
= خذ هذا الحَجَر من هنا وضعْهُ ها هنا، فقال: واللهِ لا أفعل، فقال عمر، واللهِ لَتَفْعَلَنَّ، فقال: والله لا أفعل، فعلَاه عمرُ بالدِّرة (أي بالعصا الخفيفة التي كان يحملها معه)، وقاْل: خذه لاأمُ لك، فإنك - ما عَلِمتُ، قديمُ الظلم، فأخذه فوضعه حيث قال: فاستقبل عمر رضي الله عنه القِبلة، فقال: اللهم لك الحمد، إذْ لم تُمتنى حتى غلبتُ أبا سفيان على رأْيه، وأذللته بالِإسلام، فاستقبل القبلة أبو سفيان، وقال: اللهم لك الحمد اذ لم نُمِتْنى حتى جعلتَ في قلبي ما ذللتُ به لعمر".
(209)
سورة النساء، الآية 135، وأولها قول الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . وفي سورة المائدة: الآية 9: قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
قال: وسادسها أن العمل بالمسموع آكَدُ على السامع من العمل بما رُوي (210).
ثمَّ الأمر في الحكم هل هو أحْرى بذلك من الرواية، لأن الرواية تُثْبت شيئا عامًّا، والقضاء متعلق بشخص خاص، فَخَطَرُهُ أقَلّ.
قلت: قد مضى في قاعدةِ الخبر والانشاءِ والفرقِ (210 م) بين الخبر والشهادة، ما يبطِل هذا الأحْرَى، والوجهُ الذي من أجله كانت الشهادة يُشترَط فيها أشياءُ لا تُشْترط في الرواية.
قال: وساْبعها أنه لَوْ لم يحكم بعلمه لَفُسِّقَ في صُوَر:
منها أن يَعلم ولَادة امرأة على فراش رجلٍ، فيُشهَدُ عنده بأنها مملوكته، فإنْ قبِلَ البينة مكَّنَهُ من وطئها وهي ابنته، وهو فاسق، وإلَّا حَكَم بعلمه وهو المطلوب.
ومها أن يَعلم قتل زيد لعمرو، فيشهدُ عنده بأن القاتل غيره، فإن قَبِلَهُ قَتَل البرِيء، وذلك فسق، وإلَّا حكم بعلمه وهو المطلوب.
ومنها لو سَمعه يطِلِّق ثلاثا فأنكر، فشهدت البينة بواحدةٍ، فإن قبل البينة مكَّنَه من الحرام، وإلَّا حكَمَ بعلمه.
قلت: يَتْرُكُ الحكمَ في الصور كلها، وترْكُ الحكم ليس بحُكْمٍ، ويَخْلُصُ بذلك من الفسق.
قال: وثامنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى فرسا، فجحده البائع، فقال: من يَشهَدُ لي؟ فقال خزيمةُ: أنا يارَسولَ الله، تخبرنا عن خبر السماء فنصدقك،
(210) عبارة القرافي أوسع وأوضح وهي: أن العمل واجب بما نقلته الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَمَا سمعه المكلف أولى أن يعمل به ويحكم به بطريق الأولى، لأن الفُتَيا تُثبتُ شرعا عاما إلى يوم القيامة، والقضاء في فرد لا يتعدى لغيره، فخطره أقل.
(210 م) كذا في نسختيْ ع، وح، وفي ت:"والفرقِ بين الخبر والشهادة" بزيادة الواو، وهو اظهر واوضح، حيث يكون فاعِل الفعل مضى هو قوله:"ما يبطل هذا الاحرى"، فليُتَأمَّل وليصَحَّحْ.
أفلّا نصدِّقك في هذا؟ فسمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الشهادتين. (211)، فهذا - وإن استدل به المالكية على عدم القضاء بالعلم، فهو دليل لنا من جهة حكمه عليه السلام لنفسه، فجوَّز أن يحكم لغيره بعلمه، لأنه أبْعَدُ في التهمة من القضاء لنفسه بالإِجماع.
قلت: لا دلالة في الحديث على أنه أخذ الفرس وحكَم لنفسه، وقد قال الخطابي: سمَّى النبي صلى الله عليه وسلم خزيمة ذَا الشهادتيْن، مبالغة لا حقيقة، قالوا؟ وبالقياس على التجريح والتعديل.
قال أبو محمد في المعُونة: ليس هذَا حُكْماً.
قلت: ولو سلَّمنا أنه حكْم لكان مستثنىً للضرورة، من حيث إنه يؤدِي إلى التسلسل، لأنَّهُ محتاج لبينة بجرح أوَ تعديل، وكذا الأمر.
المسألة الثانية: وهي مرتَّبة على الأولى. قال أبو الحسن اللخمي: إذا حكم بما كان عنده من العلم قبْل الولاية أو بعْدها في غيْر مجلس الحكومة أو فيه، فللقاضى الثاني نقضُهُ، فإن أقرَّ الخصم بعد جُلوسهما للحكومة، أو أقرَّ بشئٍ قبل أن يتقدَّما للحكومة ثم أنكَرَ، قال محمد: يَنقض هو ذلك دون غيره من
(211) أخرجه الامام أبو داود في سننه وكذا الامام البَيْهقي رحمهما الله عن خزيمة بن ثابتٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع من سواءِ بن الحارث المحاربي فَرَساً، فجحَده المحاربي، فشهد له خزيمة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، مالك على الشهادة ولم تكن معه؟ فقال: صدَّقتك بما تقول، وعرفت أنك لا تقول إلا حقا، فقال صلى الله عليه وسلم:"من شهد له خزيمة أو شهد عليه فهو حسبُهُ"، أي يكفيه.
قال الامام الشافعي رحمه الله: فلو كان الاشهاد حتْماً (أي واجبا عند التبايع) لم يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلَا بَيّنةٍ.
وفي رواية: فطفق الأعرابي يقول: هَلُمَّ شهيدا أني بايعتك (أي بعت لك الفرس)، فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي خزيمة، فقال: بمَ تشهد؟ قال: بتصديقك (أي بنبوتك ورسالتك)، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزية شهادة رجُلين"، (تَعْدِلهُمَا وتقوم معهما، وتلك مزية ومكرمة وخصوصية لهذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وعن باقي الصحابة أجمعين.
القضاة، لأنه إلزام بالعلم بالإِقرار، إلا أن يكون يقلد من يرى ذلك، أو من أهل
الاجتهاد. (212).
قال شهاب الدين: فقدْ صرَّح بأن القضاء بالعلم يُنقَضُ، وإن كان مُدْرَكا مخْتلَفاً فيه، والذي ينقضُهُ لا يعتقده، فالحكم عنده وقع بغير مُدْرَك، والحكمُ بغيْرِ مُدْرَكٍ يُنقَضُ، ويَلزمُهُ على هذا، نقضُ الحكم إذا وقع بالشاهد واليمين عندَ من لا يعتقده. وقد نصَّ على نقضه أبو حنيفة، وقال: هو بِدْعة، أوَّلُ من قضى به معاوية، وقد تقدَّم أنه ليس كما قال، بل أكثرُ العلماء قضى به. وكذلك الحكمُ بشهادة امرأتين، قال الشافعي: لا يجوز إلا بأربع، لأن الحكم عند المخالف بغير مُدْرَك، وإن كان المستنَدُ في نقض القضاء بالعلم ليس كونه مدركا مختلفا فيه، وأنا لا نعتقده مُدْرَكا، بل مستَنَدُ النقض التهمة كما ينقضه إذا حكم لنفسه، (213)، فهذه الأقسام الخمسة هي ضابط ما يُنْقَضُ من قضاء القاضي، وما خرج عن هذه الخمسة لا يُنقَض، وهو ما اجتع فيه ثبوت الولاية له، والدليل، والسبب، والحُجّة، وانتفت فيه التهمة، ووقع على الأوضاع الشرعية، كان مُجْمَعاً عليه أو مختلَفاً فيه.
(212) قال القرافي هنا: "ومعنى قوله ينقضه هو، إذا تبين له خلاف القول الاول من رأيه، وقيل: لا ينقضه، لأنه ينتقل من رأي إلى رأي، فإن كان ليس من أهل الاجتهاد لم يكن حكمه الاول شيئا، وينظر إلى من يقلده، فإن كان ممن يرى الحكم بِمِثْلِ الاول لم ينقضه، إلا أن يتبين له أن مثلَ ذلك يؤدى مع فساد حال القضاء اليوم إلى القضاء بالباطل، لأن كلهم حينئذ يدعي العدالة فينقضه، لما في ذلك من الذريعة، فهذا ضرب من الاجتهاد".
(213)
زاد القرافي هنا قوله: "فلا يشاركه في النقض غيره من المدارك المختلَف فيها من هذا الوجه، لأني قد ترجح عندي فيما وضعتُه في كتاب "الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام"، أن القضاء بالمدرَك المختلَف فيه يرفع الخلاف فيه ويُعَيِّنُهُ، لأن الخلاف في ذلك المدرَكِ موطن اجتهاد، فيتعيَّن أحدُ الطرفين بالحكم فيه كما يتعين أحد الطرفين بالاجتهاد في المسألة نفسها المختلَف فيها. فهذه الاقسام هي ضابط ما يُنقَض من قضاء القاضي .. الخ.
وهذه الفقرة من كلام القرافي رحمه الله ضرورية ومفيدة لتوضيح كلام الشيخ البقوري رحمه الله.